الكتاب يخض، اسمه مشكلة، ولمؤلفه قصة تفوق خيال كتاب الروايات، كتب له التقديم مواطن إنجليزي رغم أن الكتاب يفضح أسلوب الاستعمار البريطاني في نهب ثروات البلاد واستعباد أهلها، والموضوع يمس كرامة مصر وحريتها واستقلال قرارها الوطني، يدلك على أهمية الكتاب وخطورته، أنه صدر على مدار المائة عام في أكثر من عشر طبعات في القاهرة، وصدرت له طبعة في بيروت.
الكتاب يخض لأنه رغم أنه كتب منذ 112 سنة، وترجم سنة 1923، وتجري وقائعه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلا أنه يظل شديد الصلة بعصرنا الذي نعيش فيه، وقد كان ذلك هو أحد الأسباب التي دفعت إلى ترجمة الكتاب كما يشير المترجمان: “العصر الذي تناوله المؤلف عصر عظيم الخطر، شديد الاتصال بعصرنا الذي نعيش فيه، وثانيًا لأن الكتاب حافل بالمعلومات التاريخية التي جاءت على تنسيق علمي وفني لا نعرف له مثيلًا في كتب التاريخ العربية”.
جريدة «اللواء» المصرية نشرت مقتطفات من الكتاب فور صدوره قبل 112 سنة، بالتحديد في نوفمبر سنة 1911، وتُرجم الكتاب كاملاً في القاهرة بعد 12 سنة (1923)، ثم ترجم مرة أخرى بعد أربع سنوات من الترجمة الأولى (1927)، ثم أعيد إصداره بعد ذلك مرات كثيرة وطبعات مختلفة.
**
الترجمة الحرفية لكتاب Egypt’s ruin هي «خراب مصر»، تحرج مترجمو الكتاب الثلاثة من اسمه، وجدوه صادمًا، وإن كان حقيقياً، فاختاروا أسماء أخف على السمع وأقرب للمعنى كما تقول مقدمة الترجمة الأولى للكتاب، والتي أطلقوا عليها عنوان: تاريخ المسألة المصرية من 1875 إلى 1910، وجاءت الترجمة الأخرى تحت عنوان «تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده»، وفي إحدى الطبعات جاءت الترجمة تحت عنوان «فصول من المسألة المصرية».
«تيودور روثستين» هو مؤلف الكتاب ولد في ليتوانيا وفرَّ من روسيا القيصرية، وعاش بإنجلترا لسنوات طويلة، وفي تلك الأثناء التقى الزعيم المصري مصطفى كامل الذي جاء به إلى القاهرة لتحرير جريدة «ذي إيجيبشيان ستاندر»، وحين سقطت القيصرية الروسية، وانتصرت الثورة البلشفية (1917) عاد «روثستين» إلى روسيا، وعمل سكرتيراً خاصاً لقائد الثورة «فلاديمير لينين»، ثم عين وزيرًا مفوضاً لبلاده في إيران.
**
كتب التقديم للكتاب السير «ولفريد سكاون بلنت» السفير والشاعر والكاتب الارستقراطي الرحالة، الذي جاء مصر للسياحة وللتعرف من قرب على آثارها، تعرف على طالب أزهري استطاع أن يغير وجهة نظره فيما يحدث في مصر، وانتهى به الأمر مدافعًا عن عرابي ومن معه، وهو البريطاني الوحيد الذي خاض بعمق في التعرف على تاريخ مصر كله، وهو صاحب مؤلف مهم جدًا عن تلك الفترة هو كتاب «التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر ـ رواية شخصية للأحداث».
عن كتاب «خراب مصر» يقول السير «بلنت»: «هذا الكتاب وضعه رجل ليس إنجليزيًا، لكنه لطول مقامه بيننا قد اتخذ إنجلترا وطنًا له، وأصبح يغار على شرفها، وهو كتاب عظيم بذله عقل شديد الملائمة لموضوعه، لما طبع عليه من الدقة المتناهية ولإحاطته بالعوامل الخفية التي تسيطر على الشئون المالية الأوروبية».
**
في تقدير كل الباحثين والمؤرخين يعتبر من أهم الكتب عن مصر في تلك الفترة وأكثرها مصداقية، ولا يمكن لقارئ التاريخ الباحث عن الحقيقة حول قصة الوجود الأجنبي وأثره المدمر علينا أن يستغني عن قراءة كتاب «خراب مصر» الذي يسرد وقائع وحقائق واحد من أهم فصول التاريخ المصري المستمر في الحاضر بشكل جديد، ويبقى الجوهر واحدًا.
يروي الكتاب بالوقائع والأرقام قصة الغزو الاستعماري لمصر، ويكشف الكثير من الجوانب المخفية، وتضمن الكثير من الوثائق التي تسقط المزاعم التي تحفل بها الرواية البريطانية، وتفضح ما أحدثه هذا الغزو من تخريب على امتداد ثمانية وعشرين عامًا، من الخُمس الأخير من القرن التاسع عشر حتى مطالع القرن العشرين.
**
يمر الكتاب مرورًا مهمًا على أوضاع وأحوال مصر الاقتصادية قبل الاحتلال الإنجليزي منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث «كانت مصر من أكثر بلاد الشرق رخاء بلا جدال، إذ كانت نفقات المعيشة فيها منخفضة إلى درجة لا تكاد تصدق، حيث كان «قرش صاغ» واحد كافيًا لسد حاجات أسرة بأكملها في اليوم على سبيل المثال، هذا في الوقت نفسه الذي ازدادت فيه العناية بالمشروعات العامة كالسكك الحديدية، والقناطر الخيرية، وترع الري الجديدة، فضلاً عن بدء إدخال التلغراف والطلمبات البخارية، كل ذلك في ظل ارتفاع عوائد صادرات مصر من القطن إلى ثلاثة أضعاف بسبب ظروف الحرب الأهلية الأمريكية التي أوقفت صادرات القطن من مزارع الجنوب الأمريكي».
في الفصل الثالث تحت عنوان «المالية العليا» يلقي «روثستين» نظرة عامة على حال مصر الاقتصادية وينقل جزءًا من تقرير مراسل جريدة التايمز البريطانية في 6 يناير سنة 1876، والذي يقول فيه: «إن مصر مثال للرقى عجيب، لقد أدركت من التقدم في سبعين عاما – ويقصد مراسل التايمز تلك المساحة الزمنية الممتدة من بداية حكم محمد علي عام 1805، إلى وقت كتابة تقريره في أوائل يناير 1876- ما لم تدركه أمم كثيرة أخرى في خمسمائة عام».
**
ويثبت الكتاب بالأرقام أن الفترة ما بين عامي 1863 و1875، أنشئت قناة السويس، وحفرت 112 ترعة بلغ إجمالي أطوالها 8400 ميل، وزاد طول السكك الحديدية من 275 ميلاً إلى 1185 ميلاً، ومُد ما يزيد على 5000 ميل من خطوط التلغراف، وتمت إقامة 430 جسرًا، منها جسر الجيزة الذي ظل زمناً طويلاً من أفضل جسور العالم، وأنشئ مرفأ الإسكندرية، وبُنيت أحواض السويس، ونُصبت 15 منارة وأقيم 64 مصنعا للسكر، وجرى تطوير شوارع القاهرة وغيرها من المدن.
واستنفدت هذه الأشغال وحدها بأكثر من 46 مليونا من الجنيهات، وبفضلها استصلح من الصحراء أكثر من مليون وربع المليون فدان، وزاد عدد السكان بنحو 685 ألف نسمة، وتضاعفت التجارة الخارجية، حيث ارتفعت قيمة الواردات بنحو 270%، وزادت قيمة الصادرات بنحو 310 %
**
خلاصة الكتاب تتمحور حول الجشع الغربي من ناحية، وخطايا الخديوي إسماعيل من ناحية ثانية، ويسوق المؤلف الكثير من الشهادات والتقارير التي تؤكد أن الخديوي إسماعيل «لو اقتصر على الإصلاحات المذكورة وغيرها بتأن وروية، لما وقع في عسر مالي شديد، لأن هذه الإصلاحات التي أقدم عليها كانت تحتاج إلى زمن طويل لتؤتي ثمارها المنشودة».
ويوضح «السير صمويل بيكر»، الذي قاد حملة مصرية في عهد إسماعيل لاكتشاف منابع النيل بسطت نفوذ مصر عليها، أن إسماعيل أخذ على عاتقه – أن ينجز في وقت قصير ما يقتضي إنجازه سنين طويلة.
وفي تقرير «مستر كيف» الذي أوفدته بريطانيا لدراسة وضع مصر المالي وقدرتها على سداد ديونها، يسجّل أن مصر تكابد النفقات التي تدعو إليها «العجلة والاعتساف» في اتباع المدنية الغربية.
واعترف بأن موارد مصر، إذا أحسنت إدارتها تكفي لأداء الديون المصرية متى كانت ذات فائدة معقولة، ويسجل أيضًا أن النفقات كانت باهظة، لكنها لم تكن لتؤدي وحدها للأزمة، التي ترجع كلها تقريبًا لشروط القروض.
وقد أكد السير «جورج اليوت»، الذي دعاه إسماعيل قبل «مستر كيف» لفحص المالية المصرية فحصا دقيقا، في عام 1876: «أن مصر تستطيع أداء جميع الفوائد وأقساط الاستهلاك التي تحررها من ديونها، ويتبقى لها بعد ذلك فضل سنوي يكفي لسد جميع حاجاتها الضرورية».
**
ويرى المؤلف أن آفة مجهودات إسماعيل في الإصلاح هي «العجلة والاعتساف»، ولكن تلك العجلة وهذا الاعتساف لا يؤديان وحدهما إلى الخراب المالي التام الذي حمل إسماعيل على إعلان إفلاسه.
ويحمّل الكتاب ما أسماه بـ”الجشع الغربي إضافة إلى مخابث الماليين الأوربيين”، المسئولية التضامنية عما حلَّ في مصر من خراب.
ويشير إلى أن مصر حُمِّلت في آخر عام 1875 بدين ثابت يزيد على 68 مليون جنيه، لم يدخل خزانتها منه إلا أقل من 34 مليون جنيه، وذهب الفرق إلى جيوب الدائنين ووكلائهم على هيئة سمسرة وخصم وعدة تكاليف أخرى.
**
يُضاف إلى كل ذلك أن المصارف الإنجليزية والفرنسية عمدت إلى إغراء «الخديوي إسماعيل» بعقد قروض فاحشة الربا، آخرها قرض عام 1873، لأداء الديون السائرة التي بلغ مجموعها 28 مليون جنيه، وبلغت قيمة القرض الإسمية 32 مليون جنيه، بفائدة 7%، ولكن الشركة التي أقرضت إسماعيل هذا القرض لم تدفع إليه غير 20.7 مليون جنيه، واحتفظت لنفسها بالباقي الذي يبلغ 12 مليون جنيه، تفاديا لما تستهدف له من أخطار المجازفة.
ويضرب الكتاب الكثير من الأمثلة على تلك الأساليب، التي عزا إليها البؤس الذي أصبحت عليه مصر في عام 1876، على الرغم من التقدم العظيم الذي بلغته في الثلاث عشرة سنة السابقة على ذلك العهد.
من هذه الأمثلة يذكر الكتاب أن مقاولي إنشاء ميناء الاسكندرية أخذوا نحو 80% فوق ما يستحقون، وأخذ من كانوا يمدون السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقونه، وكذلك فعل من أقاموا مصانع السكر وآلات جلب المياه وغيرها، وهي الأساليب الملتوية التي أضيفت إلى أسباب أخرى كثيرة، أدت كلها مجتمعة في النهاية إلى «عوز مصر المالي»، الذي استخدم من بعد ذلك كمبرر للتدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية.
**
لم يركز المؤلف على قضية الاحتلال باعتبارها عدوانًا على استقلال وسيادة مصر، إنما انصبت فكرته الرئيسية حول تفنيد الادعاء البريطاني بأن إنجلترا لم تكن مسئولة عما تورطت فيه مصر من الدين، وزعمها بأنها نجحت في إدارة المالية المصرية وأنها هي التي أنقذتها من الإفلاس، ومن الخراب، لينتهي إلى تكذيب تلك المزاعم وتفنيدها وإثبات أن «السياسات الاستعمارية التي سبقت الاحتلال وتلك التي تلته هي السبب الأكبر في خراب مصر».
ما لم يقله الكتاب أن مصر سددت كل دينها الحقيقي، ودفعت عنه فوائد 6% حتى سنة 1882، ومع ذلك بقيت مثقلة بدين قدره 90 مليون جنيه وظلت مصر تسدده حتى سنة 1944.
**
كثيرًا ما قرأنا تاريخنا الحديث تحت عناوين الاستقلال السياسي، وكانت قضية مصر طوال 70 سنة هي قضية الاحتلال، والنزوع إلى الاستقلال والنضال من أجل جلاء القوت المختلة.
اليوم نحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى من إعادة قراءة التاريخ الاقتصادي المصري، تحت عناوين الاستقلال الاقتصادي، وأخطار الديون الخارجية على حاضرنا ومستقبلنا، خاصة بعد أن صارت هي البديل الحديث للاحتلال العسكري، وأصبحت قضية التحرر من الديون الخارجية هي البديل المعاصر لقضية الجلاء، وصارت هي صلب التحرر الوطني.
الديون كبلت الخديوي إسماعيل ثم تسببت في خلعه، وكانت هي الحجة الأولى لاحتلال مصر في عهد نجله توفيق.
الدكتور جلال أمين له كتاب شيق يحكي (قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد حسني مبارك) ستعرف من عناوين فصول الكتاب أن عصر محمد علي هو عصر “التنمية بلا ديون”، ثم جاء عهد سعيد باشا ليكون عهد “الديون بلا تنمية”، ويعقبه الخديوي إسماعيل على عرش مصر ليتوسع في الديون والقروض والاستدانة ليشهد عهده “شبه تنمية بديون هائلة”، لم تتسبب فقط في زيادة النفوذ الأجنبي في مصر بل انتهت إلى عزله، وكانت الطريق إلى الاحتلال البريطاني ليصبح “الاقتصاد المصري كله في خدمة الدائنين”.
**
التاريخ خير معلم، وفهمه ووعي دروسه واكتساب خبراته هو واجب وطني بامتياز، لأنه طريقنا إلى فهم الحاضر، والوعي به، ومواجهة تحدياته، وتاريخنا يقدم ألف دليل على أن الماضي ما يزال حاضرًا، ممتد التأثيرات، ويتشابه مع ما نواجه اليوم من تحديات، وتكاد تكون نفس القوى التي خربت ماضينا، تثقل كاهل حاضرنا، وإن اختلفت الأسماء، والمسميات، وتعددت الوسائل والأساليب، يبقى جوهر المعركة واحد، وهدفهم ثابت: تخريب أوطاننا ونهب ثرواتنا وتكبيل قرارنا الوطني وضرب استقلالنا الاقتصادي.
قارئ التاريخ يدرك ارتباط الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي، ويظهر أمامه بجلاء أن الديون الخارجية كانت هي المعبر الذي اجتازته القوى الغربية لبسط سيطرتها على مصر، قديمًا بالاحتلال العسكري المباشر، وحديثًا بتكبيل القرار الوطني، وتسييره حسب المصالح والمطامع الغربية.
حكمة التاريخ تنبئنا أن مصر لن تنجو من دون التخلص من أثقال كامب ديفيد، وتنعتق من أَكْبَال الديون، وتنزع عن نفسها أغلال صندوق النقد.