أثارت مواجهة النظام الإيراني احتجاجات الشارع على مقتل مهسا أميني، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، بالقمع والقتل عن طريق الإعدامات، إضافة إلى تحميل الأطراف الخارجية مسئولية تصعيد الاحتجاجات، أسئلة حول تحكم ما تمت تسميته بـ “التيار المتشدد” داخل الإدارة الإيرانية، ومستقبل وجود هذا التيار، في ظل أزمات كبرى، على رأسها تسريع وتيرة البرنامج النووي لطهران، وتزويدها روسيا بالمسيرات، وحصول إيران على أسلحة متطورة من موسكو.
يقول تقرير حديث نُشر بمجلة فورين أفيرز الأمريكية، إن النظام الإيراني احتفظ في الوقت الحالي بزمام الأمور في الداخل رغم قوة الاحتجاجات، التي هزت البلاد في الأشهر الخمسة الماضية، والتي مثلت التهديد الأكثر أهمية للحكومة الإيرانية منذ عام 1979، موضحًا أن النظام تحقق له هذا بفضل القمع القاسي من قبل قوات الأمن وغياب القيادة والتنسيق بين المتظاهرين. وإن كان الغضب الشعبي لا يزال متصاعدًا، والظروف الاقتصادية السيئة تجعل المزيد من الاضطرابات أمرًا لا مفر منه.
وبشكل عام، يبقى وضع النظام محفوفًا بالمخاطر لدرجة أن العديد من المطلعين خالفوا خط الحكومة علنًا. وانتقد آيات الله في النجف وقم، ومسئولون حكوميون كبار سابقون وحتى قادة سابقون في الحرس الثوري الإسلامي الحاصلون على أوسمة، رد فعل الحكومة على الاحتجاجات وشجبوا المدى الذي وصلت إليه مجموعة صغيرة من المتشددين حول الرئيس إبراهيم رئيسي.
اقرأ أيضًا: لماذا لا تريد السعودية سقوط النظام في إيران؟.. فورين بوليسي تجيب
وانتقدت وسائل إعلامية مشهورة لدى المتشددين والمقرّبين من الحرس الثوري الإيراني علانية “رئيسي” لسوء إدارته للاقتصاد. وندد أنصار النظام، بمن فيهم الرئيسان السابقان محمد خاتمي وحسن روحاني ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، برد فعل الحكومة القاسي على الاحتجاجات. وقد دعا هؤلاء إلى تغيير ذي مغزى، إذا أرادت الجمهورية الإسلامية أن تتغلب على هذه العاصفة.
ومع ذلك، لا يوجد دليل على أن المرشد الأعلى علي خامنئي يستمع.
فمنذ بداية الأزمة، شدد التيار المتحكم قبضته على مقاليد السلطة. يعارض هذا الفصيل التعامل مع الغرب ولا يرغب في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015. داخليا، يفضل هذا التيار فرض الانعزالية والرقابة المشددة على المجالات الاجتماعية والسياسية. وفي الخارج، يفضل السياسات الإقليمية العدوانية وزيادة التعاون مع روسيا.
يشير التقرير إلى أنه، وبعيدا عما فعلته الاحتجاجات، فإن نظام اليوم أصبح أكثر تشددًا وربما عدوانية من أي وقت مضى.
طهران تُحمِل أمريكا المسؤولية
التقرير يلفت النظر إلى أن تحول إيران القوي المناهض للغرب ليس مدفوعًا بالرغبة في الدفاع عن أيديولوجية النظام الإسلامية.
ففي كل خطاب منذ بدء المظاهرات، لم يقل خامنئي الكثير عن الدين بل تحدث بشكل أكبر عن مؤامرات الخارج، حيث ينظر إلى الاحتجاجات على أنها مؤامرة أمريكية، تم تحفيزها بالتنسيق مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية لإضعاف إيران وإسقاط الجمهورية الإسلامية.وفي رأي خامئني، يجب على إيران حشد كل مواردها للرد على هذا الهجوم.
وألقى مسئولون أمنيون باللوم على المحطات التلفزيونية الفضائية وحملات وسائل التواصل الاجتماعي الناشئة في أوروبا لإذكاء الاضطرابات في إيران وتعبئة الرأي العام ضد الجمهورية الإسلامية. كما ألقوا باللوم على الاضطرابات في منطقتي البلوش والأكراد في إيران على التدخل الأجنبي.
وفي الخريف الماضي، حشدت إيران قواتها على طول حدودها مع أذربيجان وحذرت العراق من أنها قد تعبر الحدود إلى ذلك البلد لإغلاق معسكرات الانفصاليين الأكراد. خامنئي الذي يبلغ من العمر 83 عاما ويشاع أنه في حالة صحية سيئة، مصمم على الحفاظ على النظام الذي حكمه لأكثر من ثلاثة عقود.
يؤكد التقرير أنه من شأن التسوية مع المعارضين في هذه المرحلة أن تلطخ إرثه، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية. لقد شهد عن كثب كيف أدى استيعاب المتظاهرين إلى تسريع انهيار النظام الملكي في عام 1979.
وبدلًا من الانصياع للمتظاهرين أو الاستجابة لنصائح المنتقدين، لجأ خامنئي إلى العنف والقمع.
اقرأ أيضًا: فورين أفيرز: على أمريكا دعم المتظاهرين الإيرانيين لتحفيز انهيار النظام
منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، قُتل مئات المتظاهرين وتشوه عدد أكبر في حملات القمع التي شنتها قوات الأمن. الآلاف من المتظاهرين والمعارضين الآن في السجون. أربعة أعدموا بعد محاكمات موجزة، والعديد يواجهون عقوبة الإعدام.
استخدم النظام مراقبة متطورة، وتهديدات لعائلات المتظاهرين وأصحاب العمل والشركات. كما اعتمد خامنئي بشكل أكبر على مشورة المتشددين داخل الحرس الثوري الإيراني ووكالات المخابرات والبرلمان ووسائل الإعلام. بالنسبة له، هؤلاء – المتشددين- هم الأشخاص الذين يفهمون المشكلة كما يفهمها هو، ويشاركونه عدم ثقته في الغرب، ويعارضون الاتفاق النووي باعتباره فخًا مصممًا لمحاصرة إيران.
في رأي خامنئي، فإن عدم ثقتهم في الغرب مبررة وتم إثباتها، لذلك يجب تقييد الإنترنت وفرض الرقابة عليه، والسعي إلى الاستقلال الاقتصادي والثقافي. ولطالما وٌجدت هذه الآراء داخل أروقة السلطة، لكن الاحتجاجات زادت من بروزها.
أدت الاحتجاجات إلى إضعاف آفاق استعادة الاتفاق النووي لعام 2015. ومنذ اندلاع التظاهرات في سبتمبر/ أيلول 2022، شعر القادة الغربيون بالإحباط من الإيحاء بإمكانية رفع العقوبات كجزء من الاتفاق النووي، حتى أن إدارة بايدن مترددة في السعي لإطلاق سراح السجناء الأمريكيين المحتجزين لدى إيران، خوفًا من رد الفعل المحلي العنيف الذي قد تتكبده إذا تم رفع تجميد الأصول الإيرانية كجزء من أي صفقة.
ذلك في حين أن المتشددين في طهران غير منزعجين من الازدراء الغربي، ودعوا لمزيد من العقوبات من خلال إعدام المتظاهرين الشباب، بالإصافة إلى إثارة احتمال أن يصنف الاتحاد الأوروبي الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابي. أثارت مخالفات طهران النووية قلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي أخبر رئيسها البرلمان الأوروبي مؤخرًا أن إيران جمعت ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لـ “عدة أسلحة نووية”.
قد تحيل الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران قريبًا إلى مجلس الأمن الدولي لتوجيه اللوم، ما يزيد من احتمال أن تعيد الأمم المتحدة فرض عقوبات على طهران، خاصة وأن فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة كلها حريصة على فرض حظر على بيع الأسلحة والصواريخ للجمهورية الإسلامية.
ومن جهتها، هددت إيران بأنها سترد على مثل هذا السيناريو بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، معلنة بشكل فعال أنها ستصبح دولة نووية. وقد يؤدي القيام بذلك إلى مواجهة مع إسرائيل، التي هاجمت الشهر الماضي منشأة لتصنيع الأسلحة في مدينة أصفهان الإيرانية، وربما مواجهة مع الولايات المتحدة. وكما صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن مرارًا وتكرارًا، فإن إدارته لن تتسامح مع تحول إيران إلى دولة نووية.
من طهران إلى موسكو
استجابت إيران لعزلتها الدولية المتفاقمة، من خلال الاقتراب من روسيا. لطالما اعتبر خامنئي والحرس الثوري الإيراني، الكرملين حليفًا حيويًا.
يتشاطر خامنئي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفس النظرة المتعثرة للغرب، وقد أدت حرب روسيا في أوكرانيا إلى تركيز أكثر حدة على ضغينة طهران وموسكو المشتركة ضد الولايات المتحدة. وقد تجاهل خامنئي الانتقادات من داخل النخبة الحاكمة، للموافقة على تزويد موسكو بطائرات مسيرة متطورة، والتي استخدمها الجيش الروسي لإحداث فوضى في أوكرانيا.
جادل خامنئي، بأنه مع وقوف الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا والشرق الأوسط ضد الجمهورية الإسلامية، فإنه يجب على إيران أن تعزز علاقتها مع روسيا في الأماكن الأكثر أهمية: في ساحة المعركة.
أدى قرار إيران بتزويد روسيا بطائرات بدون طيار إلى تعميق الغضب الغربي تجاه الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي دفع طهران إلى الاقتراب أكثر من موسكو. ففي هذه الحلقة المفرغة، سيكون الفائز هم “المتشددون” الذين فضلوا دائمًا توثيق العلاقات بين إيران وروسيا، والانفصال عن الغرب.
ومع انجراف إيران أكثر نحو فلك روسيا، ستزداد قوة هؤلاء “المتشددين”، مما يحسن احتمالات فوزهم في معركة الخلافة التي تلوح في الأفق في إيران.
تسعى إيران الآن لأن تصبح لا غنى عنها للجهود الحربية الروسية في أوكرانيا. فكلما احتاج بوتين إلى إيران، زاد احتمال أن ينتهك – بوتين – العقوبات الغربية ويزود طهران بالمعدات والتكنولوجيا العسكرية الحيوية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الجوي المتقدمة.
أفادت وسائل الإعلام المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني الشهر الماضي، أن إيران ستتلقى أكثر من عشرين مقاتلة دفاع جوي روسية متطورة من طراز Sukhoi Su-35 بحلول مارس وتتطلع للحصول على طائرات هليكوبتر ونظام دفاع جوي متقدم من طراز S-400 ، قادر على تعقب طائرات F- الأمريكية، إضافة إلى 35 طائرة مقاتلة.
ستعزز عمليات الاستحواذ على الأسلحة من روسيا، القدرة العسكرية الإيرانية بشكل كبير، وتمكنها من مواجهة القوة الجوية الإسرائيلية في سوريا والعراق بشكل أفضل، فضلاً عن الضغط العسكري الأمريكي في الخليج الفارسي. كما أنها ستمنح طهران الثقة لامتصاص الضغط الغربي والتخطيط لهجوم عسكري محتمل رداً على أنشطتها النووية الموسعة.
لكل هذه الأسباب، يزداد قلق جيران إيران من انجراف طهران نحو موسكو، خائفين من أن ذلك قد يزيد من ترسيخ قبضة المتشددين الإيرانيين، ويجعل إيران أكثر خطورة. في نهاية المطاف، قد يواجه الغرب ليس فقط أزمات منفصلة تشمل روسيا وإيران، ولكن أيضًا المشكلة الإضافية المتمثلة في إدارة سلوكهما المشترك، وهي مشكلة ستكون أكبر من مجموع أجزائها.
الأمل في تغير النظام
يأمل بعض المسئولين والمحللين الغربيين في أن يؤدي استيلاء المتشددين في إيران على السلطة إلى تسريع الاحتجاجات، الذي يؤدي في النهاية إلى تغيير النظام. ولكنه أمل ضعيف.
حتى الآن، اعتمدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على العقوبات والتهديد بالحرب لردع السلوك العدواني لإيران، لكن إسرائيل مضطربة ويمكن أن تصعد جهودها لتخريب برامج طهران العسكرية والنووية.
إن قيام إسرائيل بذلك، يؤدي إلى تعزيز قناعات إيران المتشددة المناهضة للغرب ويخاطر باندلاع حريق مفتوح لا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها تحمله في خضم مواجهتهم مع روسيا والصين.
لذلك يجب على واشنطن وحلفائها وضع استراتيجية ذات مصداقية، على الأقل، لإبطاء الانعطاف المتشدد لإيران. وستتطلب مثل هذه الاستراتيجية اقتران التهديدات والعقوبات بالحوار حول المخاطر الأكثر إلحاحًا الصادرة عن الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك دور إيران في الحرب في أوكرانيا وتوسيع برنامج طهران النووي.
مؤخرا، التقى مسئولون إيرانيون وأوكرانيون في عمان لمناقشة دور إيران في الحرب. كانت هذه بداية جيدة. يجب على أوروبا والولايات المتحدة البناء على هذه الجهود، وإطلاق مبادرة دبلوماسية أوسع نطاقًا تتجاوز المحادثات النووية المتوقفة لتشمل أوكرانيا والقضايا الإقليمية. وإلا فإن المتشددين في إيران سيستمرون في دفع البلاد في اتجاه أكثر خطورة من أي وقت مضى.