ظل السودان بلدا يعاني التدخلات الخارجية، نظرًا لأهميته الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. وهو لمصر محوري لتأمين حدودها الجنوبية، بينما لدول الخليج النشطة في القضايا الإقليمية، وبخاصة السعودية، هو ذو أهمية كبرى تنبع من وجوده على سواحل البحر الأحمر ومكانته كبوابة مهمة للنفوذ إلى القارة السمراء. لذا، فإنه خلال وعقب الثورة السودانية، كثفت الدول الخليجية ومعها مصر جهودهما للتعامل مع الوضع في السودان. وكان ذلك بهدف تحقيق الاستقرار بالمنطقة. وإن كانت مهمة ترويض الوضع السوداني بعيد عن الانفلات والفوضى وربما أيضا “الثورة”، ليست بالسهلة، سواء على الرياض أو القاهرة. رغم تباين ثقل الانشغال والإلحاح، ما بين قضية أمن قومي لمصر، وطموح إقليمي بالنسبة للسعودية.
مع البشير والانقلاب
ظهر الدور السعودي في السودان جليًا قبل وعقب الثورة السودانية. فسجلت السعودية نفسها باعتبارها أكبر الدول الخليجية التي قدمت مساعدات مالية للخرطوم في عهد عمر البشير، الذي كانت تربطه علاقات قوية بالأطراف الإقليمية المعادية للسعودية مثل إيران وتركيا والإخوان. وقد سعت السعودية إلى استمالته بالمساعدات، لتدفعه إلى دعم التحالف الخليجي في حرب اليمن وقطع العلاقات مع إيران. وهو ما حدث بالفعل، قبل أن يختار البشير الحياد مع وقوع الأزمة بين قطر والسعودية. الأمر الذي أثار عليه غضب السعودية.
وخلال الثورة التي أطاحت البشير، رأى التحالف الخليجي وانضمت له مصر أن الجيش السوداني هو الأولى بالدعم، سعيًا لضم السودان إلى التحالف وإعادة الاستقرار للمنطقة.
مقاربات السعودية ومصر -حينها- للتعامل مع السودان كانت لمنع موجات الاحتجاجات وإيقاف الثورة قبل عودتها مجددًا إلى المنطقة. إذ كانا ينظران إلى عدم استقرار السودان باعتباره خطرًا على استقرار وأمن المنطقة بأكملها، وذلك من وجهة نظر النخب الحاكمة في الدوليتن.
وبالفعل، بدأ التحالف الخليجي بتقديم الدعم للمجموعة العسكرية المتصدرة للمشهد في السودان. وفي العام 2019، أعلنت السعودية والإمارات تقديم دعم مالي للسودان بقيمة 3 مليارات دولار. بينما حاولت مصر الضغط من أجل وقف قرار تعليق عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي، الذي اتخذ في 2019 بعد تصاعد بأعمال العنف. حيث رهن الاتحاد عودة السودان بـتشكيل مجلس انتقالي يقوده مدنيون.
وقتها، لم يحظ الجيش بالسيطرة على الحكم وحده. فتشكلت حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك، والتي أعلن الجيش بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، الانقلاب عليها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قبل أن يعيدوا “حمدوك” مرة أخرى لرئاسة الوزراء بموجب اتفاق.
وقد واجه هذا الانقلاب الأخير معارضة شعبية كبيرة. وحتى عقب إعادة حمدوك لرئاسة الوزراء، رفضت القوى المدنية السودانية المفاوضات مع السلطة العسكرية. كما وصل الأمر حد انتقاد حمدوك نفسه.
يقول جان بابتيست جالوبان، الزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن الأموال الخليجية عززت قوة الجيش في السودان، ما جعله يصمد في مواجهة خصومة الديمقراطيين والمدنيين بالداخل رغم الشهور المتواصلة من احتجاجات السودانيين ضد الحكم العسكري في البلاد.
الصراع العسكري على السلطة
والنزاع بالسودان ليس بين القوى المدنية والقوى العسكرية فقط. وإنما هناك نزاع رئيسي أيضًا على السلطة داخل النخبة العسكرية نفسها بين البرهان ونائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي).
فعقب سقوط البشير، أراد حميدتي كسب شعبية السودانيين من خلال حل أزمات قطاعات من العمال والموظفين المضربين. وهو أمر أثار قلق البرهان. الأمر الذي تعامل مع البرهان بمحاولة إضعاف نفوذ حميدتي عن طريق إعادة الإسلاميين من نظام البشير إلى الخدمة المدنية، وفك القيود عن حساباتهم المالية.
يضيف جالوبان إنه في هذا الصراع، لم يحظ حميدتي بثقة القاهرة، لعلاقته الوطيدة بالإمارات. فيما حظى البرهان بدعمها، حيث نجح بإقناع مصر بأنه الوحيد القادر على الحفاظ على الاستقرار بالسودان، وأنه قادر على مواجهة خطر الإسلاميين. وحتى مع إعادته بعض الإسلاميين إلى الخدمة، لا تزال القاهرة ترى في هذه الخطوة خطورة أقل بكثير من خطر الحكم المدني في السودان.
هذا بالنسبة لمصر والإمارات، أما السعودية، فإنها تشارك مصر دعمها البرهان، لكنها أيضًا لا تسقط حميدتي من حساباتها، وقد شارك بقواته “الدعم السريع” حليفًا للسعودية في حربها باليمن.
يقول أمجد فريد الطيب، الزميل بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن دول الخليج ومصر ربما تكون غير راضية عن عودة إسلاميين إلى الخدمة المدنية في السودان. لكن البرهان برر ذلك بأنهم موظفون ذوي خبرة وليسوا مسيسين.
وفي كل الأحول، يظل هذا الخيار هو الأفضل بالنسبة للتحالف المصري-الخليجي من حكومة مدنية ديمقراطية في السودان، قد تتخذ قرارات تهدد مصالح القاهرة والرياض، كما يضيف “الطيب”.
التحالف وانقلاب أكتوبر
في أعقاب الانقلاب في بلادها، اتهمت وزيرة الخارجية السودانية السابقة مريم المهدي، مصر وإسرائيل بالوقوف وراء انقلاب أكتوبر 2021. وقد ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” إن البرهان زار القاهرة قبل تنفيذه الانقلاب، طالبًا دعم مصر، التي طمأنته.
وأضافت الصحيفة أن مصر رأت في حمدوك خطرًا بسبب انفتاحه على إثيوبيا. الأمر الذي يهدد مصالح القاهرة المائية، مع تردده بشأن تعزيز علاقات السودان مع إسرائيل. ولهذا رأت أن “حمدوك عليه الرحيل”، وفق توصيف الصحيفة.
ولكن في واقع الأمر، لا يبدو أن الانقلاب جاء نتيجة تخطيط مصري-خليجي كما يقول البعض. إذ تشير إحدى التحليلات إلى أن البرهان نفذ انقلابه بشكل متسرع وبلا تخطيط ولا كسب دعم دولي أولًا. وقد رفضت أغلب الدول تحرك الجيش في السودان ضد الحكم المدني وبشكل قاطع، بينما صمت حلفاء البرهان في المنطقة دون توفير الدعم اللازم والسريع له وقتها.
ويرى البعض أن هذا الانقلاب كان محاولة من البرهان للحفاظ على السلطة في مواجهة خصومه الداخليين، وليس بناء على تخطيط خارجي، اشتركت فيه أي دولة أخرى.
تقول كاميل لونز، الباحثة بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن مصر ودول الخليج تدرك أن الانقلابات قد تعمق الخلافات داخل الجيش السوداني، ومن ثم تفتيته. الأمر الذي يضعف الطرف الذي يعتقدون أنه يحقق الاستقرار بالسودان.
وهذا فضلًا عن كون الانقلاب قد يقود إلى حرب أهلية بين الجيش والقوى المدنية. وهي مواجهة إن وقعت ستوثر بلا شك على أمن الحدود المصرية، ما يعرضها لمخاطر تصاعد الارهاب وتدفق اللاجئيين. وهذا لا يخدم مصر التي تريد سودانًا مستقرًا حليفًا لها في مواجهة إثيوبيا في مسألة سد النهضة، وفق “لونز”.
أشارت “لونز” أيضًا إلى أن عددًا من الدبلوماسيين المصريين والخليجيين أبدوا اعتراضهم سرًا على الانقلاب العسكري في السودان، لأنهم اعتبروه حركة متهورة. ومن ثم، فإن اتهام مصر بالتدبير لانقلاب أكتوبر في السودان، هو اتهام مبالغ فيه. والأقرب أنها ربما كانت على علم به بشكل ما، كما تقول “لونز”.
الصراع في وعلى السودان
يقول مايكل يونج، مدير تحرير في مركز مالكوم كير- كارنيجي للشرق الأوسط، إن دول الخليج -السعودية بشكل خاص- تدخلت مع مصر مرات عدة في شؤون السودان، ومنذ الثورة السودانية. ونظرًا لأهمية السودان الاستراتيجية في المنطقة، من المستبعد أن تتوقف مصر والسعودية عن “التدخل” في الشؤون الداخلية في السودان في أي وقت قريب.
حاليًا، يدخل الاتفاق الإطاري “الموقع مؤخرا بين البرهان ومجلس السيادة العسكري وقطاع مهم من القوى المدنية” مراحله الأخيرة. بينما يتصاعد الرأي العام السوداني المناهض للتفاوض مع السلطة العسكرية، مع رفض قوى سياسية المشاركة في الاتفاق. وفي هذا فرصة لمصر والسعودية “للسيطرة” على الوضع بالسودان بشكل أكثر دهاءً. ذلك من خلال إمكانية التلاعب بالاتفاق لتحقيق مصالح القاهرة والرياض، وحصول مصر ودول الخليج على الدعم الدولي نتيجة مبادراتهم، بالإضافة إلى “شراء الوقت”، على حد تعبير يونج.
ولكن محاولات مصر والسعودية لحماية مصالحهما في السودان ليست بالمهمة الهينة. فعلى الرغم من قوة السعودية ومصر، ولكن خطط البلدين في السودان لم تنجح دائمًا، نظرًا للأحداث غير المتوقعة، والصراعات المختلفة بين الأطراف المختلفة في هذا البلد، سواء داخل النخبة الحاكمة أو بين الجيش وقوى الحرية والتغيير “كمكون من مكونات القوى المدنية”، وبين الجيش والرأي العام الذي أصبح أقل ثقة بممثليه المدنيين.
وذلك كله يأتي في وقت لا يزال الاتفاق الإطاري يلقى مقاومة من الرأي العام السوداني. ما سيجعل محاولات الرياض والقاهرة لاحتواء الوضع في السودان أكثر صعوبة مما كان عليه سابقًا.