بهدف خلق ظهير شعبي قادر على تعبئة الجماهير والدفاع عن ثورة يوليو 1952 وانحيازتها السياسية والاجتماعية، سعى الضباط الشبان الذين أسقطوا النظام الملكي إلى تأسيس تنظيمات سياسية شبابية مؤهلة وداعمة لأفكارهم وتوجهاتهم، ورغم تعدد محاولات صناعة تلك التنظيمات خلال السنوات العشر الأولى من عمر الثورة إلا أنه لم يكتب لها النجاح.
يعود هذا الفشل بالدرجة الأولى إلى «عدم توافر الخبرة والمعرفة الكافية بالتعامل مع الشباب لدى ضباط الصف الثاني أو الثالث الذين تم تكليفهم بتأسيس تلك التجارب، فضلا عن ضحالة أفكار هؤلاء الضباط وغياب الثقافة السياسية عن أنشطتهم، وتركيزهم بشكل خاص على رشوة العناصر المؤثرة من الشباب لضمان ولائهم الشخصي»، وفق ما يرى المفكر السياسي الراحل عبد الغفار شكر أحد مؤسسي منظمة الشباب الاشتراكي.
ويسهب شكر في شرح أسباب فشل الضباط الصغار في تأسيس الكيانات السياسية الشبابية، فيقول إن «الهم الغالب للضباط الذين تولوا عملية تنظيم الشباب كان استخدام هؤلاء في مواجهة خصوم الثورة، وليس تطوير قدراتهم لممارسة عمل سياسي منظم باعتبارهم إحدى القوى الأساسية المدافعة عن ثورة 23 يوليو وتوجهاتها».
ويضيف شكر في دراسته المهمة: «منظمة الشباب الاشتراكي تجربة مصرية في إعداد القيادات.. 1963-1976»: «رغم تعدد التنظيمات الشبابية التي أنشئت خلال السنوات العشر الأولى للثورة إلا أنها لم تعمر طويلا، كما أنها لم تترك أثرا يذكر في صفوف الشباب بعد توقفها عن النشاط».
ونتيجة للخلافات التي اندلعت في مطلع الستينيات بين القوى الداعمة للثورة، تمكنت تنظيمات سياسية سرية من تجنيد عدد كبير من شباب المدارس الثانوية والجامعات، وتأسست لجان وخلايا ماركسية وبعثية وقومية وإخوانية، وهو ما أثار قلق الحكام الجدد.
تَمدُد تلك التنظيمات وصدور قرارات ذات طابع جماهيري أقنع قادة يوليو بضرورة استعادة الوحدة في معسكر الثورة، «أدركت قيادة الثورة أن الشباب هم عماد المواجهة القادمة وأنهم القوة الأساسية القادرة ليس فقط على حماية الثورة بل على استمرارها أيضا» يستطرد شكر.
في نهاية عام 1963 صدر القرار بتأسيس منظمة الشباب الاشتراكي كتعبير عن التوجه الجديد لقادة يوليو، «جاءت الخطوات الأولى لتأسيس هذه المنظمة عام 1964 متواكبة مع الانفراج السياسي في المجتمع المصري والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وشاركت قيادات من الماركسيين والبعثيين والقوميين العرب والتيار الديني المستنير إلى جانب الناصريين في تأسيس هذه المنظمة التي كان لها أكبر الأثر في الساحة السياسية المصرية، وظل هذا التأثير قائما حتى الوقت الحالي»، يضيف شكر لافتا إلى أن النتائج المترتبة على تأسيس المنظمة لم تتوقف على فترة الستينيات بل كانت أساس الحركة السياسية الجديدة والحركة الجماهيرية المعاصرة في السبعينيات والثمانينيات بمختلف مجالات العمل الوطني وحتى الآن.
لم يعهد الرئيس جمال عبد الناصر بتأسيس منظمة الشباب الاشتراكي في أواخر عام 1963 إلى ضباط من الصف الثاني أو الثالث كما في التجارب السابقة عليها، بل «عهد بها إلى واحد من أهم قيادات يوليو وأكثرهم كفاءة، وهو زكريا محي الدين الذي كان في ذلك الوقت عضوا في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي».
«رأيت أنه من الأنسب أن نبدأ بتحديد الفكر الذي سيدرسه أعضاء المنظمة، لأننا عندما ننشئ تنظيما للشباب لا بد وأن نعطيهم فكرا.. ولأن الثورة ليست يمينا أو يسارا رأيت أنه من الأوفق أن أستعين بمفكرين من كل الاتجاهات السياسية، ماركسيين وإسلاميين وقوميين وطلبت منهم إعداد البرنامج الفكري»، يشرح محي الدين مرحلة الإعداد لتأسيس المنظمة في مقابلة مع الأستاذ عبد الغفار شكر أوردها في دراسته.
ناقش محي الدين البرنامج التثقيفي للمنظمة مع عدد من المفكرين منهم محمد الخفيف، وحسين كامل بهاء الدين، وأحمد كمال أبو المجد، وأحمد القشيري، وإبراهيم سعد الدين، ويحيى الجمل، وعلي الدين هلال الذي كان أصغر أعضاء هيئة سكرتارية المنظمة سنا، ثم لحق بهم فيما بعد مفيد شهاب، وعبد الأحد جمال الدين، ومحمود الشريف، وعبد الغفار شكر، و«آخرون مازلوا من الفاعلين في الحياة العامة في مصر».
في صيف 1964، أقيم أول معسكر للمنظمة في محافظة مرسى مطروح، والذي خصص لإعداد المرشحين كرواد وكان عددهم حوالي 900 شاب، «درسوا خلاله برنامجا فكريا وسياسيا عن ضرورة الثورة وتاريخ النضال المصري والديمقراطية وحتمية الحل الاشتراكي وقضية فلسطين وتطور الصراع العربي الصهيوني، والوحدة العربية»، ثم توالت المعسكرات التصعيدية والتثقيفية.
بعد نحو عامين بلغ عدد أعضاء المنظمة الذين تخرجوا من الدورات التدريبية 30 ألف شاب وفتاة موزعين على كل محافظات الجمهورية، ويرى عبد الغفار شكر أن الدارس في المعهد الاشتراكي للشباب كان يتخرج وقد تحقق له «قدر من الوضوح الفكري واكتسب قدرا من الثقافة السياسية والتاريخية واتضحت له المفاهيم الأساسية لفكر المنظمة، واكتسب في الوقت ذاته قدرا من المهارات التنظيمية وتحمل قدرا من المسئولية القيادية ومارس العمل الجماعي وتعرف بصورة أولية على كيفية العمل في إطار هيكل تنظيمي تتعدد مستوياته.. ومارس النقد والنقد الذاتي وهو ما أهل هؤلاء الشباب للقيام بأدوار سياسية وتنفيذية لاحقا».
زلزلت هزيمة يونيو 1967 قواعد منظمة الشباب، إذ أُصيب أعضاؤها بخيبة أمل كبيرة، «انهارت أمام أعينهم في ساعات الأحلام والآمال الكبار التي عاشوها»، وطالب هؤلاء في مظاهراتهم وبياناتهم بتحقيق المزيد من الحريات السياسية والديمقراطية التي تتيح فرص المشاركة أمام الجماهير، وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية، ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة وإحداث تغييرات جوهرية في القيادات القائمة.
ونتيجة لحالة التمرد الدائم لدى جموع الشباب تغير موقف القيادة السياسية من المنظمة، حيث غلبت قيادة الاتحاد الاشتراكي منطق الدولة بينما انحاز الشباب الاشتراكي إلى منطق الثورة، وترتب على هذا الخلاف المتصاعد مواجهة مستمرة بين أعضاء المنظمة وسلطة الحكم سواء في نهايات عهد عبد الناصر أو مع عصر السادات، وانتهى الأمر بتصفية المنظمة عام 1976.
تظل تجربة منظمة الشباب الاشتراكي ملهمة رغم كل ما بها من عيوب، إذ إنها مكنت دولة يوليو من خلق قاعدة شبابية تدعم أفكار ومبادئ الثورة التي قادها ضباط شباب، لكن هذه القاعدة لم تصمد أمام أول هزة «ساعدت تلك التجربة النظام بتجنيد عدد من الموالين، لكنها أضرته كون بعض هؤلاء اكتشف عيوب النظام من الداخل، فتمردوا على النظام نفسه» يقول الدكتور أحمد عبد الله رزة أستاذ العلوم السياسية الراحل في نقده للتجربة:
لم يُقدم الرئيس الراحل أنور السادات على خلق تجربة بديلة، فعدد كبير من أبناء المنظمة التحق بنظامه فيما تمردت عليه أعداد أخرى وخاضوا ضده عشرات المعارك، كذلك لم يسع سلفه مبارك إلى استنساخ المنظمة حتى ولو بصيغة تتناسب مع متغيرات عصره.
مع صعود نجم جمال مبارك في سماء الحياة العامة، وظهوره المتكرر في دهاليز الحزب الوطني، ومحاولته خلق جناح جديد يدين له بالولاء ويدعم طموحه في وراثة الحكم، أقدم على استنساخ التجربة بصناعة ظهير شبابي يستطيع من خلاله تغليب كفة جناحه داخل الحزب الوطني، فأسس عام 1998 جمعية جيل المستقبل.
وعلى خلاف التجربة القديمة، اعتمد جمال مبارك على عدد من رجال الأعمال في تأسيس جمعيته وسعى إلى جذب شباب الجامعات للعمل داخل الكيان الجديد الذي ترأس مجلس إدارته.
نظمت جمعية جيل المستقبل العديد من المؤتمرات والمنتديات لتوسيع قاعدة عضوية الكيان الذي كان هدفه المعلن «تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية وتطوير قطاع الموارد البشرية بمصر، حتى يكون قادرا على خوض غمار المنافسة على الساحة العالمية».
اخترقت تلك الجمعية الجامعات وصار لها أسر نشاط طلابية، وشارك أعضاؤها في انتخابات اتحاد الطلاب، ونجحت في ربط عدد من الكفاءات الشبابية عبر تأهيلهم لسوق العمل وتسهيل توظيفهم في الشركات والبنوك.
لكن لأنها لم تكن كيانا حقيقيا قائم على أفكار ومبادئ ولم تجمع سوى المتسلقين الباحثين عن تحقيق المصالح الشخصية، انهارت الجمعية كما أنهار الحزب الوطني بعدما نجحت الجماهير في الإطاحة بنظام مبارك في 11 فبراير 2011، واكتفى عدد كبير من أعضائها وكوادرها بما حصلوا عليه من مكتسبات، فيما بدأ آخرون رحلة البحث عن كيان جديد ينتسبون إليه يناسب مرحلة ما بعد الثورة.
ولأن نظام الحكم الذي تشكل بعد إسقاط حكم الإخوان في 2013، بلا ظهير سياسي يدعم توجهاته وسياساته، سعت أجهزته إلى خلق كيانات شبابية تعمل كظهير للسلطة، يُمكن من خلالها تفريخ كوادر قادرة من وجهة نظر مؤسسيها على ملء الفراغ وربط النظام الجديد بالجماهير، على أن يتم تصعيد منتسبي تلك الكيانات في المواقع السياسية والتنفيذية.
تعددت أسماء تلك الكيانات التي بدأت السلطة في صناعتها منذ عام 2015، وزحف إليها كل من يسعى إلى التسلل إلى مواقع القيادة في مؤسسات «الجمهورية الجديدة» التشريعية والتنفيذية والإعلامية.
ذهبت بعض التحليلات إلى أن الكيانات التي تشكلت في السنوات السبع الأخيرة ما هي إلا محاولة لاستنساخ تجربة منظمة الشباب التي وُضعت قواعدها على مبادئ وأسس فكرية وأيديولوجية ثورية قومية، لكن الواقع أثبت أن هذه الكيانات تخلقت دون أي رؤية أو برنامج أو أهداف وطنية أو قومية كبرى، صنعت فقط لخلق دوائر مصالح تدعم النظام وتروج له، وهو ما يجعلها أقرب إلى جميعة «جيل المستقبل» الهشة التي لم تصمد أمام زلزال 25 يناير.
الدرس المستفاد من تجربة الكيانات والتنظيمات التي تخرج من رحم السلطة سواء تلك التي أسسها ضباط معدومي الخبرة والرؤية السياسية أو رجال أعمال متسلقين يبحثون فقط عن تحقيق مصالحهم، أن قدرتها على الاستمرار والصمود تكاد تكون معدومة.
الأصل أن تنشأ الكيانات السياسية ويتم تأهيل شبابها في مناخ مفتوح بعيدا عن سطوة السلطة وأجهزتها، فمنظمات المجتمع المدني الديمقراطية من أحزاب ونقابات وغيرها هي المحاضن الطبيعية القادرة على خلق أجيال جديدة من الكوادر السياسية المؤهلة للقيادة.