إن دراسة “حال الوطن” بمنتهى الموضوعية مطلب جوهري للدخول إلى جلسات الحوار بالجدية اللازمة والتعمق الواجب، وإذا كان من المفهوم أن جلسات الحوار ستنتهي إلى بلورة مجموعة من المقترحات الدستورية والقانونية التي تمهد الطريق نحو صياغة دستور جديد تماما، يعتبر عنوانا لقيام الجمهورية الجديدة، فإن الأمر يقتضي وقفة لبحث الجوانب المنهجية والفنية لهذه الصياغة.
إن من المنطقي أن دستور عام 2014، بالظروف التي مهدت له وصنع في ظلها، جاء بمثابة “دستور أزمة”، ولهذا فقد تحملت صياغته الكثير من أسباب هذه الأزمة، كما أن عملية الصياغة قد تأثرت إلى حد بعيد بالموقف السياسي السائد في حينه، والقوى التي ساهمت في صياغته. وفضلا عن ذلك فإن التعديلات التي جرت على هذا الدستور، وتم إقرارها عام 2019، قد تأثرت بدورها بالظروف السائدة وقتها بخاصة في مجال مكافحة الإرهاب، كما بالرغبة في تحصين مركز رئاسة الجمهورية، وتمكين الرئيس السيسي من استكمال البرنامج الذي جاء على أساسه، بعد أن حقق الكثير من الإنجازات.
لكن كل ذلك لم يعد قائما، وآن الأوان لإعداد دستور جديد تماما وفق الأصول المنهجية والفنية والسياسية لصياغة الدساتير. وفي هذا السياق يجب أن يوضع في الاعتبار أن الحد الأقصى لولاية الرئيس السيسي ينتهي –دستوريا ونظريا– في عام 2030، ولذلك فإن أمامه فرصة تاريخية لصياغة جمهورية جديدة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا تحتاج إليه، ولا يحتاج إليها، أي إنتاج نظام لا يحتاج إلى “رئيس ضرورة”، ولا إلى “رئيس استثنائي”. وإذا كان الحوار لا بد وأن ينتهي إلى صياغة دستور جديد يجسد محصلة الحوار، ويرسي معالم تلك الجمهورية الجديدة، فإن من المتصور أن ينص في هذا الدستور الجديد على أن ينفذ ما يتصل برئيس الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السيسي.
من هذه الناحية المنهجية والفنية من الملاحظ أن معظم الأنظمة العربية تحكم بقوة الأمر الواقع، دون أساس يقوم عليه بنيان سياسي يكفل سهولة الحركة ويسرها، ما يجسد أزمة الشرعية في تلك النظم. ولعل ذلك يفسر جزءًا من اختناقات الفكر والعمل في مصر، وفي الوطن العربي، ما أعطى الفرصة لهبوب عواصف من السخط والغضب. ثم إن أزمة الشرعية لا تقتصر على قضية السلطة، إنما هي تمد ظلها إلى “مشروعية الثروة”.
فهناك ثروات كبيرة وكثيرة في مصر وفي الوطن العربي لا أحد يعرف أصلها أو مصدرها، بالتالي تبدو غير مبررة، أو مستندة إلى حق طبيعي بالإرث، أو مكتسب بالعمل. وعندما تظهر في أية دولة تساؤلات عن شرعية السلطة، وعن مشروعية الثروة، فمعنى هذا أن تلك الدولة تواجهها مشكلة التناقض بين الواقع والحقيقة، بين الظاهر والأصيل. وهذه قضية بالغة الحساسية، بخاصة إذا وضع في الاعتبار أن الشرعية في أساسها قبول اختياري، وليست فرضا بالقسر، وإلا فإن السخط والغضب السياسي يمكن أن يلحق بهما سخط وغضب اجتماعي، وهما معا شحنة بالغة الخطورة لا تستطيع أن تتحملها مجتمعات هشة، لم ترسخ فيها بعد سيادة الدساتير والقوانين.
من ثم تنبغي الإشارة إلى أن نظم الحكم القائمة في الأقطار العربية إجمالا، كما في مصر، بخاصة تلك التي عمدت النخبة “الثورية” إلى “ابتكارها” أو “استنباطها”، ليست ثمرة طبيعية من ثمرات التطور الحقيقي للحضارة العربية، إنما هي نتاج هجين، بعض عناصره محلية وبعضها الآخر مستنبت في البيئة العربية عن طريق الاستقبال المباشر من الحضارة الأوروبية.
وقد جرى هذا الاستقبال، في الأغلب الأعم من الحالات، نتيجة الإعجاب بما أنتجته أنظمة الحكم الغربية من ثمرات طيبة في بيئتها الأصلية، فاستقر في ضمير النخبة الحاكمة والنخبة المثقفة على السواء، أن نظام الحكم الليبرالي القائم في الدول الأوروبية، بما يقرره من حق الاقتراع العام، وحماية حرية التعبير، والفصل بين سلطات ثلاث تتولى الحكم، له فضل كبير في تحقيق النهضة الاجتماعية والاقتصادية. واعتبرت معالم هذا النظام مكونا أساسيا من مكونات التحديث والنهضة، توافقت على المناداة به سائر التيارات الإصلاحية، دينية كانت أو علمانية.
ولأن أكثر عناصر هذا النظام الدستوري كانت عناصر مستنبتة أو مستوردة من تجارب سياسية واجتماعية معبرة عن روح حضارة مختلفة، فان الضمير العربي لم يعن عناية كافية بفهم هذه العناصر، ولم تؤد في معظم الحالات وظائفها الحقيقية. لعل هذا أحد الأسباب الكامنة وراء المفارقة بين النصوص الدستورية والواقع العملي.
إن من المسلم به في الفقه الدستوري المقارن أن النصوص الدستورية لا تعبر عادة تعبيرا كافيا أو دقيقا عن حقيقة النظام الدستوري القائم، وأن الظروف الموضوعية، والتطورات المتعاقبة التي تمر بها الحياة السياسية والاجتماعية، من شأنها أن تباعد قليلا أو كثيرا بين النصوص وبين واقع تطبيقها العملي. لكن هذه الظاهرة في الوطن العربي تجاوزت هذا كثيرا، وهذا التجاوز كما يرجع إلى الانفصال بين أنظمة الحكم وبين تطور مقومات الحضارة العربية، فإنه يرجع إلى ظاهرة عربية أخرى – يختص علماء الاجتماع وعلماء النفس بتفسيرها– وهي “الظاهرة اللفظية” في الحياة العربية، وتصور إمكان حلول “الكلمة” محل “الفعل”، وإقناع “الذات” والآخرين بإمكان هذا “الحلول”، بمعنى أن الديمقراطية تتحقق، في التصور العربي، إذا تم صدور إعلان يقررها، وأن سيادة القانون تكتمل إذا نصت عليها “وثيقة” من الوثائق. وهذا يفسر تراكم الوثائق والإعلانات في أعقاب “الكوارث” و”النكسات” و”الأزمات”، كما يفسر حال إدمان “الخطابة” من جانب بعض الزعامات والقيادات العربية على نحو لا مثيل له في العالم من حولنا، ولا في التاريخ من قبلنا، وبصورة لا يمكن إلا أن تكون تعبيرا عن مرض مستفحل لدى تلك الزعامات، يقابله مرض آخر لدى “المحكومين” يقبلون فيه “الكلمة” بديلا عن الفعل، وتسحرهم فيه “الخطبة” أو تخدرهم إلى حين.
إن هذه الظاهرة العربية “الخاصة” مسؤولة عن تحويل الوثائق الدستورية، في كثير من الحالات، إلى صكوك بغير رصيد، وتحول كثير من المؤسسات القائمة إلى هياكل شكلية مجردة تماما من وظيفتها. آن أوان المعالجة الجذرية لهذه الظواهر.
في ضوء ما تقدم من المطلوب مراعاة هذه الخبرات التاريخية، والتزام الضوابط المنهجية والفنية عند إعداد الدستور الجديد، ما يقتضي إدخال تعديلات عديدة على الدستور، وإعادة صياغة نصوصه بشكل كامل، في ضوء تغير الظروف عما كان سائدا عام 2013 وقت صياغة الدستور وإقراره عام 2014، وعام 2019 وقت إقرار التعديلات عليه. فضلا عن أن تعود الحياة لكثير من مواد الدستور بخاصة ما يتعلق بالحريات والحقوق الاجتماعية التي تم إخفاء أغلبها في أدراج موصدة.
وهناك مجموعة من المقترحات التي يمكن أن يتضمنها الدستور الجديد، مع ملاحظة أن بعض مواد ذلك الدستور يمكن أن تنفذ فور إقراره، وبعضها يكون موقوتا بآجال زمنية متفاوته.
أولا – أن يتضمن الدستور الجديد إنشاء نوعين متلازمين من المفوضيات: أولاهما -مفوضية الشفافية، بمعنى أن يتم العمل السياسي في العلن قدر الممكن، بحيث يمكن التنبؤ بمساره، ومعرفة نواياه وأهدافه. وفي غياب الشفافية لا تتداول المعلومات، ولا يوجد تدفق منتظم لها، ولا يوجد تنظيم وتوثيق عصري للوثائق الرسمية واجتماعات المجالس الحكومية. وإذا غابت هذه الأمور، وحل الضباب أو العتمة محل الشفافية السياسية، أصبح من المستحيل وضع نظام للمحاسبة السياسية. وثانيتهما – مفوضية محاربة الفساد، ويكفي أن الرئيس السيسي قد ذهب إلى أن الفساد أخطر من الإرهاب، بما يؤكد قدرة البيروقراطية على عرقلة التقدم، مع الإقرار بأن كلاهما خطر جسيم.
ثانيا – أن تشمل تعديلات الدستور العودة إلى النظام السابق الذي كان مقررا في دستور 2014 قبل تعديله، بخاصة ما يتصل بما يسمى “المواد الميثاقية” التي لا يجوز أن تكون محلا لتعديل. مع ملاحظة أن التعديل الذي جرى على دستور 2014 (المادة 226) قد يبدو مخالفا لنص، وعلى الأقل لروح، الدستور ذاته، الذي يمنع أي تعديل يمس “النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقا بمزيد من الضمانات”، وذلك في مسألتين:
الأولى، تخص إعادة انتخاب رئيس الجمهورية، بحيث تعاد صياغة (المادة 226) بشكل جامع مانع، وأكثر إحكاما، لتشمل كل ما يرتبط بإعادة الانتخاب، سواء مدة الدورة الواحدة فتعود إلى (4) سنوات فقط، أو عدد المدد فتبقى دورتين متتاليتين فقط.
والثانية، بشأن تعيين وعزل رؤساء الهيئات القضائية، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا ونائبه، وتعيين النائب العام، بحيث يكون من سلطة الجهات القضائية وحدها، ولا يعود لرئيس الجمهورية حق رئاسة المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، بحيث يستقيم مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، مع العلم أن هناك مواد أخرى في الدستور تقتضي معالجتها من نفس المنظور، تحقيقا لذلك المبدأ. كذلك الأمر فيما يتصل بعزل رؤساء الهيئات الرقابية، فيعود الوضع إلى النصوص السابقة التي تسحب هذا الحق من رئيس الجمهورية.
ثالثا- العودة إلى النصوص التي كانت معتمدة في دستور 2014 قبل تعديله، بشأن اختصاصات مجلس الدولة. فلقد أصبح للبرلمان بغرفتيه، بعد إقرار التعديلات، حرية الاختيار في إحالة مشروعات القوانين للمجلس من عدمه، دون إلزام عليه حسبما كانت تنص المادة قبل التعديل.
كما تصبح الحكومة، بموجب التعديل، غير مطالبة بالرجوع لمجلس الدولة فيما يخص مشروعات العقود التي تكون الدولة أو الهيئات العامة طرفا فيها.
وفي الحقيقة فإن التعديلات التي تم إقرارها تثير أكثر من سؤال حول منطقها ومبرراتها وجدواها، بل إنها يمكن أن تندرج تحت شبهة “يكاد المريب يقول خذوني”!
ويذكر أن تقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب، عن المقترحات والآراء التي تم تقديمها حول التعديلات الدستورية، استقر إلى ضرورة الإبقاء على اختصاصات مجلس الدولة كما هي دون انتقاص، وعدم تعديل هذه المادة.
رابعا- من الممكن أن يشمل الحوار اقتراحات ببعض التعديلات الدستورية، المتعلقة بالمؤسسات الدينية، من أجل تعزيز مفهوم “دولة المواطنة”، وذلك بعد أن هدأت العواصف والعواطف الثورية، وذهبت أسباب المواءمات التي وُضِع في ظلها هذا الدستور عام 2014، واستقرت الأمور. من المتصور أن يشمل الحوار إمكانية طرح إلغاء المادة القانونية سيئة السمعة -السيف المسلط على تنوير العقول- المشهورة باسم “ازدراء الأديان”. وليس هناك ما يمنع من طرح وجهة نظر تنادى بإعادة “الأزهر” إلى موقعه الصحيح المحترم بين مؤسسات الدولة كمؤسسة تعليمية دينية وفقط.
خامسا- أن ينص في الدستور على منع مزدوجي الجنسية من الترشح لعضوية مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك المناصب القيادية والعليا في الدولة، تلافيا لمشكلات ازدواج الجنسية، ومنع احتمالات تضارب المصالح، ويشمل ذلك: رئيس الجمهورية ونوابه -ورئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء، ومن يعينون على درجة وزير مثل المحافظين ورئيس المحكمة الدستورية العليا ونوابه، ورؤساء الجهات والهيئات القضائية والنائب العام، ورؤساء الأجهزة المركزية، مثل الجهاز المركزي للمحاسبات، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، والرقابة الإدارية، ورؤساء مجالس إدارة المؤسسات الوطنية مثل هيئة البترول، وشركات القطاع العام، وكل من يعين بوظيفة مستشار لدى أي من هذه المناصب.
سادسا- تعديل القوانين المقيدة للحريات بنصوص في الدستور، ليست فقط القوانين السياسية، وعلى رأسها قانون الأحزاب وقانون الانتخابات، بل تشمل قانون الإجراءات الجنائية – قوانين الأحوال الشخصية، وكل ما يتصل بتحرير المرأة – قانون مجلس حقوق الإنسان -قانون التظاهر- قانون الحبس الاحتياطي- كل ما يتصل بالعمل العام مثل قوانين النقابات العمالية والمهنية، وقانون المجتمع المدني. وأن ينص في الدستور على اختصاص النقابات العمالية والمهنية بوضع القوانين التي تنظم عملها.
سابعا- انتخاب المناصب القيادية في الجامعات بنص في الدستور، مناصب رئيس الجامعة والعمداء ورؤساء الأقسام، لا فقط لأن هذا هو النظام المعتمد في جامعات العالم المحترمة، إنما أيضا للتخفيف من الأعباء الملقاة على عاتق رئيس الجمهورية، وحتى لا يترتب على ذلك مشكلات قانونية.
ومن هذا المنطلق يأتي التساؤل: كيف تبقى جامعة القاهرة –مثلا- بلا رئيس قانوني لمدة تتجاوز السنة، بينما يمارس الرئيس المنتهية مدته صلاحياته كاملة بالمخالفة للقانون، ونفس الوضع يسري على كلية الطب بنفس الجامعة فهي بلا عميد قانوني، ويمارس العميد المنتهية مدته صلاحياته كاملة بالمخالفة للقانون، رغم انتهاء اللجنة المشكلة لاختيار رئيس الجامعة والعميد من رفع توصياتها إلى رئاسة الجمهورية في وقتها.
ويثير ذلك أيضا حال وزارة الصحة فهي بلا وزير أصيل لمدة تقارب العام، بدون سبب واضح أو مفهوم، ولا يعرف أحد وضع الوزيرة بدقة، لأنه لم يصدر قرار بإعفائها، ولا تقدمت هي باستقالة، بعد اكتشاف قضية فساد بدائرتي مكتبها وعائلتها معا، ولا لماذا هذا الموقف الفريد، ولا علاقة للأمر بأهمية تلك الوزارة من عدمه، رغم أن وضعها في الاعتبار يزيد الصورة قتامة، ولا يغير تعيين وزير أصيل من الإشكالية.
ويقترح أيضا أن ينص في الدستور الجديد على ضمانات استقلال الجامعات، والحرية الأكاديمية، ويشمل ذلك إلغاء وزارة التعليم العالي، وتحال مهامها إلى المجلس الأعلى للجامعات، على أن تكون رئاسته مداورة بين رؤساء الجامعات سنويا، ونفس الترتيب يطبق على مجلس الجامعات الخاصة والأهلية. وتصبح هناك وزارة مستقلة للبحث العلمي، أو العودة إلى صيغة أكاديمية البحث العلمي، وهي أفضل كثيرا للابتعاد عن بيروقراطية الوزارات، على أن يكون رئسها بدرجة وزير، ويمكن أن يحضر اجتماعات مجلس الوزراء.
دكتور/ مجدي حماد رئيس مجلس أمناء الجامعة اللبنانية الدولية