بعد اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في العاصمة القطرية الدوحة نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ساد التفاؤل بشأن تسارع وتيرة استعادة مسار العلاقات المعطل بين البلدين منذ الإطاحة بجماعة الإخوان من الحكم في مصر عام 2013.
إلا أن هذا التفاؤل سرعان ما تبدد. ولم تكن التطورات والإجراءات التي أعقبته على صعيد العلاقة بين القاهرة وأنقرة موازية لحجم الدفعة التي تلقتها جهود استعادة العلاقة بلقاء الرئيسين. خاصة وأن تلك الخطوة كانت بمثابة الاختراق الأهم، بعدما ظلت المحاولات بعيدة عن رأسي الدولتين، والاكتفاء بالمستويات الأدني، أو الحديث عن العلاقات بين الشعبين عند التطرق لأي من الشواغل المصرية أو التركية.
وللوقوف على أهمية تلك الخطوة، يمكن العودة لتصريحات أردوغان عام 2019، حين شدد على أنه ليست لديه نية للمصالحة مع السيسي. وقال: “أنا أرفض اللقاء مع شخص مناهض للديمقراطية، حكم على مرسي ورفاقه بالسجن”. قبل أن تعود أنقرة وتبدي مرارًا -عبر مستويات سياسية مختلفة على رأسها أردوغان نفسه- رغبتها في استعادة العلاقات الكاملة مع القاهرة.
اقرأ أيضًا: مصر وتركيا.. ترسيم تحالفات يعزز الصراع على لقب “ناقل الغاز” إلى أوروبا
يظل التساؤل -الذي يحتاج إلى إجابة واضحة- ما الذي يعوق تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا؟ ولماذا لم تؤد المحادثات التي جرت إلى إنهاء الخلافات في مواقف وآراء البلدين رغم اللقاء بين السيسي وأردوغان وما تبعه من تصريحات من الجانبين على أن تلك الخطوة ستتبع بخطوات أخرى ورغبتهما في اعادة علاقاتهما الدبلوماسية كاملة وتبادل السفراء في أسرع وقت؟
وللإجابة على هذا التساؤل لا بد من النظر في أسباب الخلاف الرئيسية، وملفات الصراع والتنافس بين البلدين. وكذلك، الوقوف على الخطوات التي شهدتها تلك الملفات من الجانبين، بالشكل الذي يلبي مطالب كل طرف بشأنها، ويراعي مخاوفه أيضًا.
حطب الإخوان
لطالما كان ملف الإخوان ومعارضة الخارج هو أساس الخلاف بين البلدين. وبالتحديد منذ سقوط الرئيس السابق محمد مرسي، وما تلا ذلك من حظر مصر جماعة الإخوان وتصنيفها إرهابية، وتوفير تركيا الملاذ والحماية للكثير من أعضاء الجماعة وقيادتها، والسماح لهم بممارسة الأعمال المناهضة لمصر وحكومتها.
وردًا على ذلك، اتهمت مصر تركيا بدعم التنظيمات الإسلامية. بل والضلوع في دعم أعمال إرهابية داخل مصر.
إلا أن هذا الملف شهد منذ مطلع العام 2021 تطورًا كبيرًا بعدما طلبت تركيا من وسائل الإعلام التابعة للإخوان ومعارضة الخارج تخفيف حدة انتقاداتها للسلطات المصرية، وعدم التطرق نهائيًا بأية إساءة إلى الرئيس وأسرته. قبل أن يتبع ذلك تطورات أكبر بغلق مقرات قناة “مكملين“، ومغادرة عدد من قيادات الجماعة والإعلاميين المناوئين للحكومة المصرية للأراضي التركية.
ولكن، المتابع لملف العلاقات بين مصر وتركيا سيدرك أن حجم التطور الذي حدث منذ بدء جلسات المحادثات الاستكشافية بين المسئولين في وزارتي الخارجية، يتلائم بشكل واضح مع الإجراءات التي اتخذتها أنقرة بشأن هذا الملف، الذي ظل محل اهتمام رسمي مصري طيلة السنوات، التي أعقبت حكم الجماعة في مصر، لتظل ملفات أخرى تمثل شواغل حقيقية ومصالح مباشرة للبلدين، هي العقبات الرئيسية أمام تطبيع العلاقات، ويقتصر دور هذا الملف على كونه حطب تدفئة العلاقة بين القاهرة وأنقرة.
شرق المتوسط
يعتبر ملف شرق المتوسط وتقاطعاته المختلفة هو العقدة الرئيسية التي تعوق تقدم العلاقات بشكل متسارع، ووصولها إلى نقطة التطبيع الكامل.
في أعقاب اللقاء الذي جمع السيسي بأردوغان في الدوحة، أكد الرئيس التركي -في تصريحات للصحفيين في طريق عودته- أن “طلب أنقرة الوحيد من مصر هو تغيير أسلوبها تجاه وضع تركيا في البحر المتوسط”. وذلك في ظل الصراع بين تركيا واليونان المتحالفة مع مصر، على مناطق النفوذ والمياه الاقتصادية في شرق المتوسط.
هذا الملف تحديدًا، ربما كان المحرك الرئيسي لأردوغان في إعادة حساباته بشأن العلاقات المقطوعة مع مصر. بل وتقديم ما وصفته تقارير تركية بتنازلات، أبرزها تراجعه عن تصريحاته السابقة بعدم لقاء الرئيس المصري بشكل مباشر. وذلك على أمل تضييق الخناق على أثينا.
ومع سنوات الخلاف الأولى بين القاهرة وأنقرة، حددت مصر وجهتها ووقفت إلى جانب اليونان في خلافها مع تركيا حول موارد الغاز في البحر المتوسط.
وفي صيف عام 2020، وقعت مصر واليونان اتفاقية تم بموجبها تحديد المنطقة الاقتصادية لكلا البلدين في شرقي المتوسط، وانتقدت تركيا الاتفاقية وقالت إنها “اتفاقية قراصنة”.
الاستدارة التركية مؤخرًا نحو مصر، ربما جاءت متأخرة فيما يخص هذا الملف تحديدًا، بعد ما شهده إقليم شرق المتوسط من تطورات فرضت أمرًا واقعًا جديدًا من الصعب القفز عليه أو تجاوزه.
فتطور العلاقة بين القاهرة وأنقرة، وإن كان شأن خاص بهما، إلا أنه بات خاضعًا لحسابات إقليمية أوسع. خاصة في ظل تخوف دول منتدى غاز المتوسط الذي تأسس لاحقًا، من أية ارتدادات محتملة في حال استئناف العلاقات المصرية – التركية في الفترة المقبلة، وحدوث نوع من التقارب السياسي والدبلوماسي بين القاهرة وأنقرة. ذلك بما قد يؤثر في نمط العلاقات بين دول المنتدى الذي تأسست علاقاته وأنماط تفاعلاته منذ أعوام.
اقرأ أيضًا: قبل مفاوضات التطبيع الكامل.. قراءة في كروت لعب مصر وتركيا
بالتالي، فإن أي تغير محتمل سيؤثر بالفعل في نمط وتوجه العلاقات الراهنة والمستقبلية في الفترة المقبلة. بل قد يؤدي إلى سيناريوهات عدة ستكون لها تبعات على استمرارية وفاعلية دوره. وهو ما تتحسب له كل الأطراف المنضوية في عضويته.
ثمة إشكالية أخرى مرتبطة بهذا الملف، تقف في مواجهة أي تطورات حقيقية بالنسبة إلى ارتدادات ما يجري بين مصر وتركيا، مرجعها استمرار الرؤية التركية بعدم الاعتراف بقبرص، التي تمثل ضلعًا ثالثًا لتحالف يضم مصر واليونان، واستمرار انقسام شبه الجزيرة القبرصية إلى قبرص التركية وقبرص اليونانية، وعدم وجود ما يلوح في الأفق من فرص لتوحيد الجزيرة. الأمر الذي يعني أن أنقرة ستظل تناور في عدم رؤية قبرص وهي طرف رئيس في منتدى الغاز وضلع مركزي.
وبخلاف تقاطعات الأمر الواقع الجديد، فإن ثمة سبب قوي لدى القاهرة يجعلها غير متسرعة بشأن المغامرة بعلاقتها مع اليونان من أجل استعادة العلاقات مع تركيا. وهو السبب الذي يتمثل في تعويل القاهرة على أثينا في البحر المتوسط أكثر من تركيا. إذ أنها عضوًا في الاتحاد الأوروبي. فاليونان من شأنها أن توفر لمصر المدخل إلى السوق الأوروبية. ما يعني أن اليونان بالنسبة لمصر شريك أكثر جاذبية من تركيا في هذه المرحلة على الأقل.
العقبة الليبية
في سبتمبر/ أيلول 2021، قال رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي إن العلاقات الدبلوماسية مع تركيا قد تستأنف إذا تم حل القضايا العالقة بين البلدين، مضيفًا في مقابلة مع وكالة “بلومبرج” الأمريكية، أن القضية الرئيسية لمصر تظل في وجود تركيا في ليبيا.
وتشهد ليبيا بما تمثله من امتداد للأمن القومي المصري، مسرح صراع وتنافس بين مصر وتركيا سياسيًا واقتصاديًا، في ظل المعارك الدائرة هناك. وفي حين دعمت مصر رجل ليبيا القوي خليفة حفتر، ومعسكر شرق ليبيا، وقفت تركيا إلى جانب معسكر غرب ليبيا، ووقعت اتفاقيتين إحداهما أمنية نشرت بموجبها قوات نظامية ومرتزقة سوريين تابعين لها في مناطق غرب ليبيا، والأخرى بحرية بشأن ترسيم المياه الاقتصادية، والتي منحت بموجبها لنفسها مساحات شاسعة من المياه الغنية بالغاز الطبيعي عند جزيرة كريت.
التقارب المصري التركي على أرضية الملف الليبي، ليس بالأمر السهل. حيث يتطلب التوصل لحل وسط، يستتبعه تقديم تركيا لتنازلات كبيرة تلبي المطالب المصرية التي سبق وعبر عنها بشكل واضح رئيس الوزراء المصري. وهي التنازلات التي لن تقدم عليها أنقرة إلا مقابل تنازلات مصرية أكبر بشأن ملف شرق المتوسط.
ثمة سبب آخر يعوق تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا، يشير إليه مسئول مصري، تحدث لـ” مصر360″ طالبًا عدم ذكر اسمه، بالقول إن العلاقة بين مصر وتركيا محكومة بحالة التنافس الإقليمي بين البلدين. لافتا إلى أن اتساع نفوذ أي منهما حتمًا ينتقص من نفوذ الآخر، كونهما إلى جانب المملكة العربية السعودية وإيران القوى الأكبر في الإقليم، والتي يمتلك كل منها مقومات القيادة، ستظل العلاقات حبيسة هذا التصور. ما يعني أن أي تحريك أو توسيع للعلاقات القائمة سواء بين مصر وتركيا أو بين مصر وإيران مرهون بتقاطعات أوسع تتجاوز مصالح تلك البلدان .
وتابع أن مسار العلاقات بين الدول الأربع أشبه بالتحرك فوق رقعة شطرنج ترتبط حركة كل قطعة فوقها بحسابات قطع أخرى.