وافق يوم الأربعاء 2 فبراير/ شباط 2023، الذكرى الثمانين لمعركة “ستالينجراد” التي خاضتها القوات السوفيتية ضد الجيوش الألمانية- الهتلرية في الحرب العالمية الثانية. ومنذ بداية صباح ذلك اليوم صدرت تصريحات نارية غاضبة و”قلقة” من كبار المسؤولين الروس وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف. وتضمنت هذه التصريحات الغاضبة والقلقة أيضا تهديدات مباشرة للغرب عموما ولألمانيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص، بأنهما ستلقيان مصير ألمانيا وجيوشها في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
بقي أسبوع واحد فقط لتكمل روسيا عامها الأول من الحرب التي بدأتها في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022. وخلال الأيام الأخيرة، تجري تحركات خطيرة، سواء من جانب روسيا التي تهدد بأنها لن تنهزم في أوكرانيا. لأن هزيمتها الاستراتيجية في أوكرانيا بالأسلحة التقليدية قد تدفعها لاستخدام الأسلحة النووية. أو من جانب الغرب الذي يمول ويسلح أوكرانيا، ومقاطعة مصادر الطاقة الروسية، وفرض عقوبات اقتصادية ومالية واسعة النطاق على روسيا، وعقوبات أخرى في أهم وأخطر مجالات التطور العلمي والتقدم التكنولوجي والرقمي، التي ستؤثر على روسيا لعشرات السنين المقبلة. ذلك بصرف النظر عن انتهاء الحرب الأوكرانية من عدمه، وبصرف النظر أيضًا عن المنتصر والمهزوم في الحرب الروسية- الأوكرانية.
هناك تصريحات مراوغة من جانب روسيا بشأن المفاوضات، وبشأن تفسير الاتفاقيات والتصريحات، وبشأن تفسير التاريخ كله. فهي تريد وقف الحرب ولكن بشروط المنتصر. ووفق الأمر الواقع واعتراف كل العالم بانتصارها وبشرعية وروسيِّة الأراضي الأوكرانية التي ضمتها إليها.
اقرأ أيضًا: رغم تهديد بوتين.. “فورين بوليسي”: 4 أسباب تمنع انتشار الأسلحة النووية بعد حرب أوكرانيا
وفي الوقت نفسه تريد ضمانات أمنية وعسكرية واقتصادية من الغرب، وإعادة حلف الناتو إلى حدود عام 1997. ومصادرة المفاعلات والمحطات الكهروذرية الأوكرانية ونقل ملكيتها إليها. كما حدث مع مفاعل “زابوروجيه” الذي تم بالفعل نقل ملكيته إلى روسيا. بل وضم منطقة زابوروجيه كلها إلى قوام روسيا الاتحادية، واعتبار أن محاولات أوكرانيا استعادة أراضيها ما هي إلا محاولة لاحتلال أراضي روسية.
من الواضح أن الاقتصاد الروسي يعاني من إنهاك شديد خلال العام الأخير. وقد تم استنزاف الكثير من الموارد الروسية أيضًا. ودفع هذا روسيا للتقوقع حول نفسها من جهة، وفي الأطر والهياكل الضيقة التي تتكون من عدة دول سوفيتية سابقة في آسيا الوسطى والقوقاز من جهة أخرى.
كما أن توقعات روسيا بأزمات طاقة في الغرب، وبقيام ثورات هناك لم تتحقق. الأمر الذي قد يدفع موسكو إلى خطوات حادة وصارمة بحلول يوم 24 فبراير/ شباط الجاري. وإلا فكيف سيتم تبرير المشاكل والأزمات الاقتصادية والمعيشية، وتبرير التعبئة العسكرية الجزئية التي حدثت وأثارت قلق الرأي العام الداخلي، وكيف سيتم تبرير تعبئة أخرى متوقعة، يؤكد الكرملين أنها لن تحدث!
من جهة أخرى، وحتى هذه اللحظة، فشل الغرب في تأليب المجتمع الروسي ضد إدارة الكرملين والرئيس فلاديمير بوتين. كما فشل في اختراق دوائر رجال الأعمال وطواغيت المال الروس لدفعهم للتمرد ضد الكرملين.
وفي الواقع، إن الرئيس الروسي يحكم قبضته إلى الآن على البلاد. ويساعده في ذلك ليس فقط الأجهزة الأمنية والجيش، بل وأيضا مجلس النواب والمجلس الفيدرالي اللذان يسنان كل القوانين الممكنة لتطويق واستباق حتى أي أفكار بالتمرد الشعبي أو التمرد في صفوف المنظومات الإدارية والأمنية والعسكرية.
إن تصريحات روسيا، قبل اكتمال العام الأول بنحو أسبوعين، ساخنة وغاضبة وقلقة، وتشكل ضغوطا على الرأي العام العالمي وتثير حالة من الفزع النووي وفناء العالم. ومثل هذه التصريحات تكشف عن حالة أخرى يمكنها أن تؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب. خاصة وأن الغرب لن يمنح روسيا أي فرصة على الإطلاق لإعلان أي انتصار خارق أو حتى إنجاز صغير ملموس أثناء احتفالات الكرملين ووسائل الإعلام الروسية باكتمال عام على الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الجاري.
من المتوقع ألا تقتصر خطط أوكرانيا على هجوم الربيع المنتظر (أو المتوقع) والذي سيكون مدعومًا بأسلحة جديدة نوعية. بل من غير المستبعد أيضًا أن تبدأ هجمات أوكرانية شديدة الوطأة بعد يوم 15 فبراير/ شباط لقطع الطريق أمام أي احتفالات روسية. وذلك لإجهاد الإدارة الروسية في الكرملين والضغط عليها، وتقليص تعاطف الرأي العام الداخلي معها.
وبالتالي، فمن المتوقع أيضًا أن تغامر روسيا ومقاتلو شركة “فاجنر” والكتائب الشيشانية بتحركات وخطوات حادة، قد تصل إلى الاستيلاء على أراضي أوكرانية جديدة من أجل ولو إعلان انتصارات مؤقتة كحصيلة للعام الأول من الغزو. بل وعا حاكم الشيشان رمضان قاديروف إلى الاستيلاء على خاركوف وأوديسا، بينما دعت أجنحة أخرى إلى إغلاق جميع المنافذ البحرية أمام كييف، بعد تم تحويل بحر آزوف إلى بحيرة روسية. غير أن فكرة الاستيلاء على أوديسا في الوقت الراهن مستبعدة نسبيا، ولكنها ليست مستحيلة خلال العام الثاني أو الثالث من الحرب، إلا إذا تغيرت موازين القوى، أو اكتسبت الحرب صفة جديدة، أو تمكنت القوات الأوكرانية من استنزاف القوات الروسية بوتيرة وبدرجات معينة.
في كل الأحوال، سيكون الأسبوع المقبل من فبراير/ شباط الجاري، أو بالأحرى الأيام القليلة التي تسبق الذكرى الأولى للغزو، واحدة من أكثر مراحل هذه الحرب سخونة ودموية، إن لم تكن أسخنها وأخطرها. وهو ما سيفتح آفاقًا أخرى أمام هذه الحرب وتداعياتها الممتدة لأجل غير مسمى.
هنا، تظهر مخاوف بشأن تورط بيلاروس في هذه الحرب. إذ أن الكرملين قام على وجه السرعة بتشكيل قوات مشتركة، ونقل صواريخ ومنظومات دفاع جوي حديثة للغاية إلى أراضي بيلاروس. وهناك مناورات شبه أسبوعية للقوات المشتركة للبلدين. إضافة إلى التصريحات الساخنة التي يدلي بها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، والاتهامات المتواصلة بأن كييف تحشد قواتها على الحدود مع بيلاروس.
إن المخاوف الحقيقية من مشاركة بيلاروس في الحرب إلى جانب روسيا تنطلق من إمكانية لعب مينسك دورا مهما. ليس فقط في دخول كييف من ناحية الغرب، بل وفي تأمين القوات الروسية في حال غامرت بتطويق كييف أو حتى التحرك على الأرض خارج نطاق منطقة دونباس بشرق وجنوب أوكرانيا.
وعلى الرغم من استبعاد هذا الاحتمال في الوقت الراهن، إلا أن كل شيء وارد في ظل الحرب، وفي ظل إلزام القيادة الروسية نفسها بالانتصار ليس فقط على أوكرانيا، بل على الغرب بكل مكوناته.
لقد بدأ الرئيس فلاديمير بوتين هذه الحرب من أجل الأهداف والأسباب التي أعلنها في بداية الحرب في فبراير/ شباط 2022، وأيضًا من أجل الأهداف التي أضافها خلال العام الأول من قبيل ضرورة تشكيل “نظام عالمي متعدد الأقطاب”، ومن أجل “مواجهة المخاطر التي تحيط بالعالم الروسي وبالأرثوذكسية السلافية”، ومن أجل “استعادة أملاك الإمبراطورية الروسية إبان بطرس الأكبر”.
وبحلول الأشهر الأخير من العام الأول للغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت تظهر أهداف أخرى من قبيل “مواجهة تحركات الغرب لهزيمة روسيا هزيمة استراتيجية”، واتهام الغرب “بمحاولات تفتيت روسيا والقضاء عليها”، و”تحرير أراضي الشعوب السلافية من الاستعمار الأمريكي والغربي”.
من الواضح أن “السردية الروسية” لغزو أوكرانيا تتطور بشكل لافت، وتضم العديد من العناصر، على رأسها فكرة روسيا “الأوراسية” وحقها في قيادة العالم، انطلاقًا من دفاعها ليس فقط عن مصالحها الحيوية. بل وأيضًا ارتكازًا إلى فكرة مواجهة مساعي الغرب للقضاء على روسيا وإبادتها. كل ذلك من أجل شرعنة “السردية” الروسية وشرعنة الغزو من جهة، ومن أجل “تطمين” الشعب الروسي وإقناعه بجدوى الحرب وأهميتها من جهة أخرى، وإلا سيتم القضاء على روسيا وشعبها.
لقد بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب في أوكرانيا. ولكن من الواضح أنه ليس هو الذي سينهيها مهما فعل ومهما كانت السردية الروسية، ومهما تحدثت الآلة الدعائية الروسية عن المفاوضات وعن الحلول والتسويات السياسية. ذلك لأن الواقع تجاوز كل ذلك، والغرب بدأ ببساطة حربا متعددة المسارات لتقليص طموحات روسيا الإمبراطورية، وتحديد حجمها وحجم مصالحها، وكذلك تحديد وضعها السياسي والجيوسياسي، من دون الانخراط المباشر في القتال في أوكرانيا، ومن دون الدخول في أي مواجهات عسكرية مباشرة مع موسكو.
تقدير موقف
من الصعب ألا يعلن الكرملين عن انتصار ملموس في أوكرانيا بعد عام من الحرب وإلا سيؤثر ذلك على الرأي العام والكثير من النخب والأجنحة. وبالتالي، فمن المتوقع أن تستولي روسيا على “باخموت” في دونيتسك، وتستعرض ذلك في بروباجندا واسعة النطاق. ولكن هل سيكون ذلك مقنعا للرأي العام والأجنحة القومية المتطرفة؟!
سيقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمة إلى المجتمع الروسي عبر “الجمعية الفيدرالية” يوم 21 فبراير/ شباط الجاري. وهو اليوم الذي أعلن فيه ضم دونيتسك ولوجانسك إلى قوام روسيا الاتحادية، وبعده بثلاثة أيام فقط بدأ الغزو في فجر يوم 24 فبراير 2022. ولا أحد يمكنه أن يتوقع ما سيأتي في هذه الكلمة. ولكن لا يمكن استبعاد أي قرارات حادة ومتطرفة بداية من تعبئة جزئية جديدة إلى تغيير صفة “العملية العسكرية الخاصة” إلى إعلان “تغييرات هيكلية” في شكل السلطة القائمة.
الغرب لن يسمح لروسيا على الإطلاق بالانتصار الحاسم في أوكرانيا، وهو ما لن يرضي الكثير من الأجنحة القومية الروسية المتطرفة التي تدعو للاستيلاء على كل أوكرانيا. وهناك مخاوف في الكرملين حتى من الاستيلاء على كل دونباس، لأن الحرب بالنسبة للأوكرانيين ستتحول إلى حرب تحرير شاملة من حيث الأهداف والأدوات والأسلحة ودعم الغرب وشكل الحرب نفسها.
الأمر الآخر، هو أن روسيا ستكون مضطرة لتغيير تكتيكات الحرب في العام الثاني. ولا يمكن استبعاد استخدام أسلحة نوعية لأسباب كثيرة، من ضمنها الأسلحة التي سيوردها الغرب إلى اوكرانيا، والتكتيكات الجديدة التي ستتبعها القوات الأوكرانية، وإمكانية أن يتم تغيير صفة “العملية الخاصة” وتتحول إلى حرب مفتوحة أو إلى حرب تحرير. غير أن هناك ظاهرة باتت واضحة خلال العام الأول، ألا وهي “العامل العرقي” و”الانتقام”. هذه الحرب تحولت بفعل الدعاية الروسية إلى حرب “عرقية” و”دينية”، ما أدى إلى دخولها في نفق مظلم من “الانتقام شديد الوطأة، وتحولت المعارك إلى “مفرمة” حقيقية.