في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وقعت إسرائيل ولبنان اتفاقية لترسيم حدود بحرية دائمة بينهما في شرق البحر الأبيض المتوسط. نظريا، كان البلدان في حالة حرب دائمة منذ عام 1948، وكانت الاتفاقية نتيجة لأكثر من 12 عامًا من المفاوضات، قادها مؤخرًا الدبلوماسي الأمريكي عاموس هوشستين وفريقه في وزارة الخارجية الأمريكية.
أشادت الحكومات في أنحاء العالم بالاتفاقية. حيث قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن “الطاقة -خاصة في شرق المتوسط- لا ينبغي أن تكون سببًا للصراع، بل أداة للتعاون والاستقرار والأمن والازدهار”. بينما أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالاتفاق، ووصفه بأنه “خطوة مهمة نحو مزيد من السلام لإسرائيل ولبنان وجميع دول وشعوب المنطقة ستساهم أيضًا في ازدهار البلدين”.
وبينما اتخذت العديد من البلدان في شرق البحر المتوسط الغني بالغاز -مثل مصر وقبرص- خطوات لاستكشاف احتياطاتها البحرية في السنوات الأخيرة. بدأت إسرائيل استخراج النفط والغاز الطبيعي التجاري منذ عدة سنوات، ووضعت خطة تطوير للتنقيب عن الغاز في عام 2017 ووقعت اتفاقية لتصدير الغاز مع مصر والاتحاد الأوروبي في عام 2022. ويجري بالفعل الاستخراج والإنتاج قبالة الساحل الإسرائيلي، ومن المتوقع أن تصل المبيعات إلى أقصى طاقتها هذا الصيف.
في جدالهم المنشور في فورين بوليسي/ Foreign Policy. يرى خلدون أبو عاصي، الأستاذ في كلية الشؤون العامة بالجامعة الأمريكية في بيروت، ولمياء مبيض، أستاذة الإدارة العامة في جامعة القديس يوسف في بيروت، وديبورا لي ترينت، عضو في فرقة العمل الأمريكية الخاصة بلبنان. أن لبنان الذي بدأ استكشاف قدراته في الطاقة منذ عام 2021. يتخلف عن الركب – على الرغم من أنه بحاجة ماسة إلى الإغاثة الاقتصادية والمالية التي يمكن أن يجلبها قطاع النفط والغاز. لكن، قد يعود التردد إلى أن القيام بذلك دون حدود بحرية متفق عليها كان محفوفًا بالمخاطر لكلا البلدين. وكذلك بالنسبة للمستثمرين المحتملين.
اقرأ أيضا: ترسيم الحدود البحرية: إسرائيل تحوز “تريليونات الواقع”.. ولبنان ينتظر “غاز المجهول”
في يناير/ كانون الثاني، وقعت الحكومة في بيروت اتفاقية مع شركة Total Energies الفرنسية وEni الإيطالية وQatar Energy، لبدء التنقيب في وقت لاحق من هذا العام.
ومع ذلك، يتوقع بعض الخبراء جدولا زمنيا من خمس إلى ست سنوات، قبل أن يتمكن لبنان من إنتاج النفط والغاز. كما أن الحدود البحرية مع قبرص وسوريا لم يتم ترسيمها بشكل واضح حتى الآن، ما يترك الاحتياطيات المحتملة الأخرى غير قابلة للوصول.
3 تحديات
وفقًا للبنك الدولي في يناير/ كانون الثاني 2022، تعد الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان واحدة من أخطر ثلاث أزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر. بعد 25 عامًا من اعتباره اقتصادًا من الشريحة العليا من البلدان المتوسطة الدخل، تراجع لبنان العام الماضي إلى مصاف الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى.
اليوم، تبلغ البطالة ما يقرب من 30%، والتضخم المكون من ثلاثة أرقام يعني أن 74% على الأقل من اللبنانيين يعيشون على أقل من 14 دولارًا في اليوم. كما ذكرت وكالة رويترز أن الليرة اللبنانية فقدت حوالي 97% من قيمتها منذ عام 2019. ووصلت الخدمات العامة والبنية التحتية إلى نقطة الانهيار، وانعكس مسار عقود من المكاسب في التنمية البشرية، وانهارت المؤسسات العامة تقريبًا.
يشير الخبراء إلى أن كل هذا يحدث على خلفية الاضطرابات السياسية. حيث فشل لبنان في تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية في مايو/ أيار 2022، والتي أسفرت عن برلمان معلق بدون أغلبية واضحة. تفاقم الوضع عندما انتهت ولاية الرئيس -آنذاك- ميشال عون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. لم يتمكن البرلمان منذ ذلك الحين من الاتفاق على خليفة لعون، وتحكم البلاد حاليًا حكومة انتقالية تتمتع بشرعية وسلطة محدودة للغاية.
يتفق الكُتّاب الثلاثة أنه يمكن أن تصبح احتياطيات النفط والغاز البحرية في لبنان، في نهاية المطاف، شريان حياة اقتصاديًا للبلد المحاصر. لكن، إنشاء أسس فعالة للاستكشاف والاستخراج في المستقبل قد يكون صعبًا في بيئة بيروت المنقسمة سياسياً. متوقعين ثلاثة تحديات مؤسسية للبنان في الوصول إلى ثروته من الموارد. والتي، إذا أمكن التغلب عليها، فقد تتمكن الدولة أخيرًا من إطلاق العنان لإمكانات شعبها.
الفساد
يتمتع لبنان بسجل من الفساد المنهجي والواسع النطاق والمحسوبية السياسية، مما قد يمنع البلاد من التمتع بمكاسب محتملة من عائدات النفط والغاز. حيث تحتل بيروت المرتبة 150 من أصل 180 دولة -مرتبطة بست دول أخرى- على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، وتحصل على علامات إدارة ضعيفة من البنك الدولي.
يعود جزء كبير من هذا إلى النظام السياسي الطائفي في لبنان، حيث يتم تقاسم السلطة بشكل ضعيف بين مختلف الطوائف الدينية. غالبًا ما تتحكم شبكات المحسوبية الطائفية في التعيينات البيروقراطية، بما في ذلك في وكالات الرقابة وإدارة البترول اللبنانية (LPA)، وهي مؤسسة عامة أنشأتها الحكومة في عام 2012، للتخطيط والإشراف على وإدارة قطاع البترول البحري في البلاد.
لذلك، يشير الخبراء إلى أن “الشفافية والقدرة على التنبؤ والوصول إلى المعلومات الحكومية هي المفتاح لجذب الاستثمار الأجنبي وتحقيق الاستقرار في بيئة الأعمال اللبنانية”.
يقولون: إذا كان الماضي بمثابة مقدمة، عندها يمكن لأولئك الموجودين في السلطة أن يصادروا الاستثمارات الأجنبية، وكذلك أرباح النفط والغاز في لبنان لتحقيق مكاسب خاصة أو سياسية، مما يقلل من فوائدها للشعب اللبناني.
لكن، يخلق تضارب المصالح -غير المعلن عنه- بين المسئولين الحكوميين والمتعاقدين الحكوميين، مخاوف من أن السياسيين يمكن أن يتدخلوا في عملية الترخيص على سبيل المثال، من خلال تفضيل مقاول على آخر أو إنشاء شركات الظل.
لحسن الحظ، اتخذ لبنان بعض الخطوات في السنوات الأخيرة لزيادة الشفافية والمساءلة، وكذلك للحد من الفساد وسوء الإدارة في الحكومة. شملت إصدار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات لعام 2017، والذي أعطى المواطنين الحق في استرداد السجلات الحكومية وغيرها من المعلومات. وقانون المشتريات العامة لعام 2021، الذي يفي بمعايير الأمم المتحدة لمكافحة الاحتيال والفساد وإساءة الاستخدام، وتقليل الهدر، وزيادة الشفافية في القطاع العام.
اقرأ أيضا: الصراع على “كاريش”.. جولة خطرة من سياسة حافة الهاوية بين إسرائيل وحزب الله
في عام 2022، تم تشكيل لجنة وطنية مستقلة مالياً وإدارياً لمكافحة الفساد من قبل الحكومة. للتركيز على التحقيق في انتهاكات الموظفين العموميين للقوانين القائمة، مثل الحق في الوصول إلى المعلومات، وحماية المبلغين عن المخالفات، والإثراء غير المشروع.
لكن في الوقت نفسه، يشير الخبراء إلى أنه “لم يتضح بعد مدى فعالية هذه الإجراءات”.
قبلها، في عام 2018، أصدرت الحكومة قانون تعزيز الشفافية في قطاع البترول. ومنذ ذلك الحين، وضع قانون التخطيط السياسي آليات للإعلان عن جميع جوانب عملية التنقيب عن النفط والغاز واستخراجه والكشف عنها. يشير التحليل إلى أنه “من المفترض أن يسجل السجل البترولي المتاح للجمهور -على سبيل المثال- التراخيص عند منحها. يمكن تحديث كل من القانون ووضع اتفاقية التخطيط السياسي وتعزيزها لضمان مزيد من الشفافية والاستقلالية”.
حقوق الأجيال المقبلة
يقول التحليل: حتى لو استطاع لبنان توليد ثروة من الموارد، عليه أن يقرر كيفية الحفاظ عليها للأجيال القادمة. وهذا يمثل التحدي الثاني الكبير للبلاد. حيث يتطلب قانون الموارد البترولية البحرية لعام 2010، إنشاء صندوق ثروة سيادي.
حاليًا، تدرس لجنة برلمانية أربعة مخططات على الأقل لكيفية القيام بذلك. تختلف المقترحات -من مختلف الأحزاب السياسية- في الإعداد والهيكل والسلطة التقديرية والسيطرة على الصندوق السيادي المحتمل.
وفقًا للمحلل أندرو باور، يمكن أن تصبح الصناديق السيادية “مصادر رعاية أو فساد”، وهو “ما يجعلها مسعى محفوفًا بالمخاطر في لبنان”. قد تكون هناك خلافات سياسية وصفقات سرية حول كيفية قيام السلطات الحكومية بالإشراف على إدارة الأموال، وتعيين مجلس إدارة لإدارة الصندوق سيكون بطبيعته غارقًا في التوتر الطائفي.
يلفت التحليل إلى أنه “بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية في لبنان، هناك قلق آخر، يتمثل في أن المسؤولين قد يعيدون توجيه عائدات النفط والغاز المحتملة نحو تمويل النفقات الحكومية وخفض الدين العام، بدلاً من الاستثمار في أمن ورخاء الأجيال القادمة. عندما فعل البنك المركزي اللبناني ذلك في الماضي، كانت النتيجة فشلاً ذريعًا. استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي، وزيادة تخفيض قيمة الليرة اللبنانية”.
أفكار للخروج
تقدم ما يسمى بـ “مبادئ سانتياجو“، التي أنشأتها مجموعة العمل الدولية لصناديق الثروة السيادية، توصيات مفصلة للحوكمة الرشيدة للصناديق السيادية، بما في ذلك الشفافية والمساءلة وممارسات الاستثمار الحكيمة والحوار المفتوح. لم يوقع لبنان على هذه المبادئ في عام 2008، لكن، وفق الخبراء الذين كتبوا التحليل، عليه التفكير في اتباعها في المستقبل.
كما يمكن للبلاد -أيضًا- أن تفكر في اتباع نهج جذري مشابه لولاية ألاسكا الأمريكية، والذي يمنح الولاية تحويلًا مباشرًا لرأس المال من عائدات الغاز كاسترداد ضريبي. أو يمكن لبيروت أن تحذو حذو Norges Bank Investment Management في النرويج، التي تستثمر عائدات النفط والغاز في سندات وأسهم آمنة -رغم أنها تخضع لقوى السوق- تساعد في تجنب الفساد وتضارب المصالح.
لكن “حتى مع وجود جميع الهياكل الصحيحة لإدارة الثروة النفطية، تُظهر أحدث البيانات المتاحة أن لبنان سيُثقل بضعف قدرة الحكومة المتزايدة. أدت التخفيضات في الميزانية وتآكل الأجور بسبب التضخم المفرط إلى استنزاف الإدارة العامة الضعيفة بالفعل، مما أدى إلى نزوح جماعي من الخدمة المدنية وتغيب عن العمل فيها، الأمر الذي أدى إلى نزوح الأدمغة الناجم عن الهجرة”.
الآن، تبلغ نسبة الشواغر في القطاع العام في لبنان 72%. وفقًا لآخر تقييم حكومي حول تأثير الأزمات المالية على القدرات المؤسسية، تم إيقاف خط خدمة واحد على الأقل في 52.6% من الهيئات العامة التي شملها الاستطلاع اعتبارًا من ديسمبر/ كانون الأول 2021. أكدت 40% فقط من هذه الوكالات أن لديها القدرة على الحفاظ على توفير الخدمات إلى ما بعد عام 2022. ويؤكد تقرير البنك الدولي لعام 2021 أن هذه الظروف قد “تؤدي إلى كارثة لرأس المال البشري، وسيكون التعافي صعبًا للغاية”.
اقرأ أيضا: بين المراكمات والمقاربات.. محاولة لفهم الدور المصري في لبنان
دور دولي مأمول
النبأ السار الذي يزفه المحللون هو أن لبنان ليس وحده في جهوده لتكديس ثروة نفطية جديدة. يرون أنه يجب أن تكون اتفاقية هوشستين البحرية بداية لجهود دبلوماسية مكثفة لإعادة تجهيز المؤسسات العامة اللبنانية، ووضع البلاد على طريق الخروج من الفقر.
يقول التحليل: يمكن لإدارة بايدن، والحكومات الأجنبية الأخرى، المساعدة من خلال الضغط على لبنان من أجل الشفافية والقدرة على التنبؤ والمساءلة في تطوير قطاع النفط والغاز والسعي لتسخير عائداته.
أيضا “يمكن لواشنطن أيضًا أن تدفع بيروت لتنفيذ أجندة إصلاح وافق عليها صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى زيادة رأس المال البشري والمالي من خلال المساعدة الإنمائية الرسمية، وسندات المغتربين، والشراكات الممولة من الدبلوماسية العامة بين الجامعات الأمريكية واللبنانية والوكالات الحكومية والمنظمات غير الربحية، وشركات القطاع الخاص”.
وأوضحوا: لبنان على مفترق طرق. إن القرارات المتعلقة بكيفية تقدم الدولة في قطاع النفط والغاز المزدهر هي قرارات سياسية بطبيعتها، لكنها لا يمكن أن تتخذ شكل صفقة سياسية فاسدة أخرى بين أصحاب النفوذ الحاليين في البلاد.
ومع ذلك، مع الشفافية المناسبة، والشمول، والإشراف، فإن بيروت لديها فرصة لبناء دولة قابلة للحياة في المستقبل.