لم يغب تأثير الخارج في مصر عبر تاريخها الطويل، وإن اختلف في الشكل والدرجة والمضمون وفق كل مرحلة وكل عصر.
والمؤكد أنه منذ تأسيس النظام الجمهوري ومصر تتفاعل مع الخارج اتفاقا واختلافا، ولم تعش في جزيرة منعزلة مثلها مثل أي دولة أخرى، فقد واجهت في الخمسينيات القوى الاستعمارية، ونجحت في بناء نظام جديد تأسس على مبادئ الاستقلال الوطني، ورفض الهيمنة الخارجية، وبنى في سبيل ذلك مشروع داخلي يقوم على الاعتماد على النفس، وبناء تجربة تنمية مستقلة تحالفت مع الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي.
وقد قام بعض حلفاء مصر من قادة الكتلة الاشتراكية بالتدخل لدى عبد الناصر من أجل الإفراج عن الشيوعيين الذين اعتقل بعضهم في عهده مثلما يحدث حاليًا من قبل منظمات غربية تطالب بالإفراج عن نشطاء وسياسيين.
وقد دخلت مصر في مواجهات مع القوى العالمية الكبرى، فانتصرت في معركة تأميم قناة السويس، بصمودها العسكري وانتصارها السياسي، وتأسس على إثرها نظام عالمي جديد، شاركت في بنائه دول الجنوب التي رفعت راية الاستقلال والتحرر الوطني وعلى رأسها مصر.
أما معركة مصر الثانية، فكانت مع إسرائيل في 67 وهزمت فيها. ومهما قيل عن مؤامرات الخارج، فقد كانت هناك أسباب داخلية فتحت له الطريق، فتدخل الخارج بصورة خشنة من خلال دعم غير مشروط لإسرائيل.
والحقيقة، أن معركة مصر مع الاستعمار كان يقودها نظام سياسي بني نموذج في الداخل قائم على التنمية المستقلة ورفض القروض الخارجية، وكان جزء من تحالف دولي اشتراكي مناهض للتحالف الغربي المهيمن.
وقد شهدت مصر منذ عهد السادات تحولا في علاقتها بالعالم الخارجي، فانتقلت من النموذج الاشتراكي، ومن التحالف مع الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي إلى نموذج رأسمالي تحالف مع الغرب والولايات المتحدة، وأقام معاهدة سلام مع إسرائيل.
واستمر مبارك في داخل نفس التوجه وظل حليفا للغرب والولايات المتحدة، يقترض بحساب من المؤسسات الدولية، وفي نفس الوقت أعطى القطاع الخاص دفعة قوية، متسقا مع علاقاته الخارجية بالعالم الرأسمالي والبنك الدولي، فظهرت مصانع منتجة للقطاع الخاص من “حديد عز” مرورا بـ”سيراميكا كليوباترا” وانتهاء بـ”جهينة” و”النساجون الشرقيون” وغيرها الكثير. وهي كلها تجارب أنتجت في الداخل وصدرت للخارج.
ويمكن القول إن جانبا كبيرا من السياسات الاقتصادية المتبعة طوال عهد مبارك كانت مندمجة في النظام الاقتصادي العالمي، في حين ظل البعد السياسي ناقصا بتمسك مبارك بهامش التعددية المقيدة الذي سمح للمعارضة بالوجود، واعتبر ذلك هو أقصى ما يمكن أن يقدمه للمنظومة العالمية سياسيا، ولم يحاول أن ينقله ولو في نهاية عهده إلى ديمقراطية كاملة.
وقد شهدت مصر في السنوات الأخيرة التحول الثالث في علاقتها بالعالم الخارجي. فقدمت نموذجا اقتصاديا عادت فيه شركات الدولة بصور ومسميات مختلفة، لتعمل دون رقابة أو نظام شفاف للمحاسبة، وأيضا وفق نموذج سياسي لا يرى أن الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية، وفي نفس الوقت تمسكت مصر ببقائها في المنظومة العالمية الرأسمالية التي تقودها أمريكا، ولم تنقل تحالفاتها الخارجية إلى روسيا والصين، وتصبح مثل إيران وسوريا غير المعنيين بقروض صندوق النقد الدولي، ولا بالدولة المدنية الديمقراطية؛ لأنهما من الأصل خارج مبادئ هذه المنظومة العالمية.
المفارقة والأزمة في نفس الوقت أن مصر تواجه ضغوطا خارجية مزدوجة على الجانب السياسي والاقتصادي على خلاف عهد مبارك حين تركزت هذه الضغوط على الجوانب السياسية والحقوقية؛ لأن الجانب الاقتصادي كان في أغلبه رأسماليا منتجا ومتماشيا مع المنظومة الدولية.
اللافت أن يأتي هذه المرة الضغط الخارجي صارما ومن قبل صندوق النقد الدولي، فما أعلنه خبراء الصندوق بأن مصر ستحصل على دفعات من القروض، أولها كان في شهر ديسمبر من العام الماضي، وبلغ نحو 347 مليون دولار، وبدءًا من العام الحالي، ستكون الأقساط بنفس القيمة في مارس وسبتمبر، فيما ستكون المراجعات نصف سنوية حتى تنال مصر القيمة الكلية للقرض في سبتمبر 2026، أي بعد ثماني مراجعات من الصندوق، هو ما يعني وجود متابعة تدخلية دقيقة وغير مسبوقة من صندوق النقد لما يجري في الواقع العملي.
وقد طالب صندوق النقد الدولي أيضا مصر بضرورة تخارج الدولة من الاقتصاد، وتعزيز الشفافية والحوكمة وتكافؤ الفرص من خلال إلغاء المعاملة التفضيلية للشركات المملوكة للدولة على حساب شركات القطاع الخاص، إلى جانب ضرورة إعطاء معلومات عن جميع العطاءات المقدمة، والعطاء الفائز، وإزالة الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة، التعامل معها بموجب قانون المنافسة.
والواضح أن هذه الشروط الخارجية على قسوتها ذات دلالة؛ لأنها من ناحية تبدو في الوقت الحالي ورقة الضغط الوحيدة الظاهرة على السلطة الحاكمة، كما أنها من ناحية أخرى جاءت في مساحة الاقتصاد والبيزنس التي ظلت محل توافق بين النظام السياسي المصري والمنظومة العالمية.
المتغير الخارجي حضر بقوة في الحالة المصرية ولأول مرة في الاقتصاد قبل السياسة، وهو تحول ساعد عليه سوء الأوضاع الاقتصادية الداخلية وضعف الموارد الإنتاجية للبلاد وتراجع القوة الشرائية لعموم المصريين ومعها العملة الوطنية.
درجة تدخلات الخارج تزيد مع الأزمات الداخلية. ومشكلة مصر أنها اختارت أن تكون جزء من منظومة عالمية يتطلب الاستمرار فيها بعض الشروط. ومع ذلك، هي ترفض مغادرة هذه المنظومة وترفض أو تماطل في الالتزام بهذه الشروط وهو وضع صعب أن يستمر، ويتطلب مراجعة جراحية وليس بالمسكنات.