في دراسة، تسد ثغرة في المكتبة العربية عن الغناء الشعبي قدم الكاتب ياسر ثابت، كتابا هاما بعنوان “تاريخ الغناء الشعبي من الموال إلى الراب” والذي صدر حديثا عن دار دون.
والكاتب ياسر ثابت، رجل دؤوب في عمله، وأنتج عددا من الكتب الهامة، كقصة الثروة في مصر، على سبيل المثال لا الحصر، وطريقة عمله إذ تتقصى الأرشيف في كل حرف، سواء أرشيف الصحف والدراسات أو الكتب، إلا أنها لا تعمل بمجرد طريقة القص واللزق، بل تعيد نسج قصة محكمة لتطلعنا على مشهد أكثر اتساعا وربطا بين نقاط تبدو في البداية متباعدة، لكن ندرك عبر هذا الربط، القصة الأعمق ورائها.
ولابد أن يذهلك كم المصادر التي يشير إليها في كتبه، لتدرك كم الجهد المبذول، في صناعة هذا النسج المحكم الذي يكشف عن رؤية هي أساس اختياره لموضوعه، الذي يمزج بين الخبر والتحليل وآراء الخبراء، وأن ما يبدو على السطح عملا سهلا، ليس سهلا على الإطلاق، لأن الإخلاص ليس عملا سهلا.
وعلى حد علمي، هذا أول كتاب يتناول ظاهرة أغاني «المهرجانات» و«الراب» و«التراب»، بعد أن يربطها بسياقها التاريخي والاجتماعي الأوسع، والتاريخي هنا مهم، إذ يستدعي أولا تراث الغناء الشعبي في مصر، وتجذره في الثقافة الشعبية المصرية والذوق العام، فلا يبدو لنا أنها أغنية نبتت في الفراغ، بل علامة جديدة لشيء قديم، وقد لبس ثوب الزمن الحاضر.
هذا التصور مدخل مهم، فالطرب الشعبي وفق ما يقوله الدكتور ياسر ثابت، كان وما زال جزء من ثقافة المناطق الشعبية، لكن لا يبدو أنه يحقق ذلك الانزعاج إلى عند قدرة ذلك الغناء على الهيمنة والتسلل إلى الطبقات المتوسطة والعليا، فتزداد النبرة الرافضة التي تصل إلى حد المنع من الغناء، كما تسعى نقابة الموسيقيين منذ فترة، سواء عبر هاني شاكر النقيب السابق، أو مصطفى كامل النقيب الحالي، متناسين أن “الغناء دومًا كان للشعب ومن الشعب. دائمًا ما كانت الموسيقى الصوت البديل الذي يُعبِّر عن وعي المكبوتين“.
ليست الأغنية الشعبية، غناء هامشي، بل يبدو أنها المتن المنسي أو المجهل عن عمد لصالح شكل واحد في الموسيقى، وربما هي الأكثر تعبيرا عن “الشخصية المصرية وخصائص شعبها وتقاليده وآماله وأحلامه ووجدانه”، وتعد وثيقة اجتماعية على قدر كبير من الأهمية، إذ صورت عادات الناس وتقاليدهم في المناسبات المختلفة كالخطبة وحفلات الزفاف والمآتم، بل وساعات العمل والراحة، كما نشهد في أغاني العمال والفلاحين والصيادين على سبيل المثال.
في ظل تلك الرؤية أيضا يمكن أن نفهم أغاني المهرجانات من مدخل آخر، بوصفها ترجمة للواقع الذي نعيش ولأصحابه، وسبب نجاحها إنها عبرت بصدق عن واقعها الذي حددته مناطق العشوائيات بما تعانيه من زحام وفقر ومعاناة وتهميش، أما الضجيج في تلك الأغنيات، فليس إلا ضجيج حياتهم، وقد عبر عنه بشكل فني.
وبالطريقة نفسها يمكن فهم صعود “الراب” المصري، فبتحليل أغاني ويجز على سبيل المثال، الذي يحقق نجاحا لا يقاربه إياه أي مغني مصري حاليا، يتحدث عن مشكلات جيله بطريقته، بل إن بعض تلك المشكلات، سبقت أن عالجتها الأغنية الرسمية، كالعلاقات العاطفية والهجر، لكنه يجد دائما قاموسا جديدا ومبتكرا للتعبير.
وإن كان الراب المصري مختلفا عن المهرجانات والغناء الشعبي المعتاد، لأنه في الأساس عرف واشتهر في الولايات المتحدة كجزء من حركة ثقافية شعبية من شباب لا يحترفون الغناء ضد الظلم الاجتماعي المتصور مثل وحشية الشرطة والفقر والحبس الجماعي والحرب على المخدرات، إلا أنه تم مصرنته إن جاز التعبير، من خلال الكلمة التي لم تعبر إلا عما يعيشه الشباب في مصر، أي أنه أيضا خارج من رحم المزاج الشعبي الذي لا يلتفت له الغناء الرسمي المشغول مازال بتكرار قاموس الأغاني العاطفية نفسه.
يرى ياسر ثابت في ختام الكتاب، أن رغم إلقاء اللوم على موسيقى “الراب” في بروز العنف في عدد من المجتمعات، إلا أن تلك الموسيقى هي أحد أعراض العنف الثقافي وليست السبب، ومن الضروري النظر إليها على أنها نتاج مجموعة من الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية ودراسة الدور الذي لعبته لمن تعرضوا للاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي الممنهج.