بمنطق بسيط وبشكل دقيق، فإن حقيقة عمل السلطة الحاكمة في أي دولة من الدول، لا يمكن أن يقف عند حد الحماية وتنظيم العمل بين السلطات بشكل فوقي فقط. وإنما هناك مجموعة من الحقوق المتبادلة بين الدولة متمثلة في سلطتها الحاكمة، وبين الأفراد المحكومين، بحسب كونهم محل العلاقة في العقد الاجتماعي.
وإذا كان مطلوبا من الأفراد الانتماء إلى الدولة والاعتراف بمكانة الحكومة وقدرتها، وأنها تمثل المواطنين فيما تصدره من قرارات أو قوانين أو تبرمه من معاهدات أو اتفاقيات، فإن في المقابل هناك مجموعة من الحقوق تقع على عاتق الدولة أهمها قاطبة هو تحقيق الأمان لعموم الأفراد، ويمثل حق المواطنين في الغذاء أو تحقيق الأمن الغذائي حقا لا يمكن إهداره أو الانتقاص منه إلى الدرجة التي تعرض صحة المواطنين وحقهم في البقاء على قيد الحياة أصحاء أقوياء في خطر، غذ لا يخفى على أحد أهمية وقيمة الحق في الحصول على الغذاء المناسب بشكل أمن وصحي ومتكافئ مع الجميع دونما أي فرقة أو تمييز.
للمرة الأولى بحسب التطور الدستوري يأتي النص في الدستور المصري على أهمية الحق في الغذاء وقيمته، حيث جاء نص المادة 79 التي تضمنها الدستور المصري الجديد تنص على أن “لكل مواطن الحق في غذاء صحي وكافٍ، وماء نظيف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة. كما تكفل السيادة الغذائية بشكل مستدام، وتضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي الزراعي وأصناف النباتات المحلية للحفاظ على حقوق الأجيال”. وبموجب هذا النص فإن تأمين الحق في الغذاء الصحي الكافي يشكل التزاما على عاتق الدولة لابد لها من العمل على تحقيقه والحفاظ عليه بشكل كامل ودائم.
وتعد هذه هي المرة الأولى التي يحظى بها الحق في الغذاء بمادة دستورية مستقلة بعدما كان هذا الحق المهم يدرج بشكل عابر وسط حقوق أخرى كثيرة، كما أن النص على السيادة الغذائية يجعل من مصر الدولة العربية الأولى التي يشتمل دستورها على هذا الحق. وتعتبر هذه المادة خطوة مهمة من حيث وضعها في إطار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تلتزم بها الدولة، وإذا أضفنا إلى ذلك المادة الدستورية التي تلزم الدولة بالاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر والقوانين التي تكفل الحق في الحصول على الغذاء الصحي المناسب، وأهمها في هذا المتن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يصبح لدينا إطار دستوري يصلح لأن يكون نقطة انطلاق للعمل الجاد في سبيل تفعيل هذا الحق والعمل على تحقيق الأهداف المرجوة منه من القضاء على الجوع وسوء التغذية على أسس من العدالة والاستدامة بما يحقق الكرامة الإنسانية للمواطن واستقلال القرار للوطن.
وبشكل عام فلا يمثل حق الإنسان في الحصول على الغذاء الكافي نوعا من الترف أو الرفاهية، ولكنه يعد هو الرافد الأساس لحق الإنسان في الوجود على قيد الحياة بشكل صحي يكفل للجميع النمو، وللمرة الأولى في التاريخ الدستوري المصري يأتي النص على هذا الحق في الدستور المصري الأخير وقد ساير هذا النص الدستوري العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية المعنية بهذا الأمر وأهمها قاطبة هو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والذى أقر في مادته الحادية عشرة بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، إضافة إلى ما ورد كإلزام عام في مادته الثانية. لكن هل كان كافيا ذلك النص الدستوري الذى انضم بذاته إلى الترسانة القانونية المعنية بهذا الموضوع، والتي هي مكونة من النصوص الدولية التي انضمت إليها مصر في تأمين وجود أو تفعيل ذلك الحق بشكل يتناسب مع المواطن المصري؟ وبمعنى أكثر صراحة هل توافر النصوص القانونية على اختلاف مراتبها، مؤديا حتما إلى توافر الحقوق المنصوص عليها في حياة المواطنين، أم أن الأمر لا يعدو مجرد سياجات نصية لتزيين الشكل العام أو الإطار العام بصورة لا تؤدى إلى إنفاذ الحقوق لمستحقيها.
ولا يخفى على القاصي والداني ما يمر به الغالب الأعظم من الشعب المصري خلال الفترة الأخيرة من غلاء في الأسعار باتت معه معظم السلع الأساسية ليست في متناول إلا النذر اليسير من المواطنين، وبات البحث عن الاكتفاء الأسري الذاتي من الغذاء صعب المنال في ظل تدهور قيمة الجنيه المصري والغلاء الفاحش الذي صار ظاهرة يومية، صاحب معه عجز الغالبية العظمى عن تدبير احتياجات أسرهم بشكل كاف وعادل وصحي في سابقة لم يمر بها الشعب المصري في عصره الحديث، ولكن المدهش أيضا أن يصاحب ذلك غياب لدور الدولة حتى في تنظيم الأسعار ورقابتها على نحو قد يحقق ولو نذراً يسيراً من العدالة الاجتماعية.
وإذا ما كان الأمن الغذائي النسبي يعني قدرة دولة ما أو مجموعة من الدول على توفير السلع والمواد الغذائية كليا أو جزئيا، ويعرف أيضا بأنه قدرة قطر ما أو مجموعة أقطار على توفير احتياجات مجتمعاتها من السلع الغذائية الأساسية كليا أو جزئيا وضمان الحد الأدنى من تلك الاحتياجات بانتظام لجميع المواطنين، وهو الأمر الذي يتناقض مع الحال الواقعي الذي يمر به الشعب المصري، حيث صار الأساس هو البحث عن ما يملأ البطون حتى ولو كان لا يفي بالاحتياجات الأساسية، أو يحقق الصحة والنمو المطلوب من الغذاء كقيمة وليس كم.
ومن هنا، فإنه على الدولة ممثلة في الحكومة أن تحافظ على ذلك الحق الدستوري الأصيل اللازم لبقاء الإنسان على قيد الحياة نافعاً وليس عليلاً، بما يضمن أن يكون نافعاً لنفسه وذويه ووطنه، وهو ما يحقق قدرته على الانتاج ودفع عجلة التقدم.
وإذا ما عدنا مرة ثانية إلى الناحية النصية بالرجوع إلى ما جاء بالمادة الدستورية سالفة البيان، فما هو الحال إزاء تقاعس الدولة بمؤسساتها أو عدم قدرتها على الوفاء أو القيام بهذا الالتزام الدستوري، فلا يشكل الدستور مجرد إطار نظري نتحاكى به أو نتباهى به بين المحافل الدستورية الدولية، ولكنه يمثل محددا لدور كل سلطة من سلطات الدولة، ومراعيا لحقوق المواطنين تجاه هذه السلطات، وما جاء بنص المادة السابق بيانها بشكلها الإلزامي بأن على الدولة أن تؤمن الموارد الغذائية لهذا الشعب، لابد أن يكون مجاله التطبيق في الشارع المصري من خلال السلطات المختصة، وليس التنظير اللفظي فقط، وأن كل من في السلطة مسؤول عن تحقيق هذا الالتزام لكل مواطن من رعايا جمهورية مصر العربية.