المؤكد أن إطلاق سراح المستشار الجليل هشام جنينة بعد انتهاء مدة سجنه، والسماح بعودة الدكتور ممدوح حمزة من الخارج بعد رفع اسمه من قوائم الترقب هما الحدثان الأبرز خلال الأسبوع الماضي، والأكيد أيضا أن الحدثين أثارا ارتياحا واسعا بين السياسيين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام في مصر. فلأول مرة يتم التعامل بشكل ذكي ومرن مع أحداث لها علاقة مباشرة بملف الحريات العامة. لا سيما أن الاسمين هما من الرموز السياسية والقضائية المهمة والمؤثرة، وكلاهما محسوبان بشكل مباشر على تيار التأييد لثورة يناير، وهما معا رمزان مهمان من رموز المعارضة المدنية للسلطة الحالية.
جنينة هو أحد رموز تيار استقلال القضاء الذي لعب دورا مهما في التمهيد لثورة يناير، وهو الذي كشف وقت رئاسته للجهاز المركزي للمحاسبات أرقاما مفزعة عن حجم الفساد في مصر، أما حمزة فهو مهندس واستشاري شهير، وواحد من أبرز المعارضين لنظام مبارك، وأحد المؤيدين والمشاركين بقوة في ثورة 2011، هذا التاريخ جعل جنينة وحمزة يتمتعان بسمعة طيبة وسيرة حسنة في أوساط كل المتابعين والمهتمين بالشأن العام والسياسي في مصر.
بعد خروج جنينة وعودة حمزة من الخارج يبقى الأمل معقودا على انفراجة مهمة تتسع لتشمل كل سجناء الرأي، كلهم بلا استثناء.
الأكيد أن ملف سجناء الرأي بات عبئا حقيقيا على المشهد العام في مصر، وأضحى حدوث أي تغيير في المشهد السياسي نحو الأفضل يرتبط ارتباطا وثيقا بالإفراج عن كل من لم تتلوث يده بالدماء أو يشارك في العنف، وهو الشرط الوحيد الذي يتفق عليه الجميع، فيما يكون من حق كل من تعرض للسجن لأسباب تتعلق بحريته وحقه في التعبير عن الرأي مهما كان ناقدا للسلطة، أو بالمشاركة في التظاهر السلمي أو الانتماء لحزب سياسي أو غيرها من صور ممارسة الحق في التعبير أن يسترد حريته ويعود إلى حياته وأسرته فورا وبلا تأخر.
بإمكان السلطة أن تجعل من خطوة الإفراج عن جنينة وعودة حمزة وما صاحبها من ارتياح بداية حقيقية لتغيير مهم في المشهد السياسي تشمل إطلاق سراح كل سجناء الرأي، وتفتح المجال العام لكل المصريين مؤيدين أو معارضين، وتنتقل بالبلد من حالة الإغلاق والتسلط على الحياة العامة إلى مجتمع الحرية والمشاركة والتنوع.
حسب التاريخ فإن كل انفتاح سياسي يمكن أن يحدث سيساهم بشكل أو بآخر في مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها مصر، ولعل البداية تكون بإيمان السلطة بالمشاركة، والسماح بتقديم كل القوى السياسية والاجتماعية أفكارا وبدائل تسمح بالمساهمة في تقليل حدة الأزمة، والتجمع نحو مخرج جاد منها، ولن يحدث هذا ما دام هناك إصرار لا ينتهي على احتكار الأفكار والمؤسسات والإعلام، فضلا عن قمع المعارضين وحبسهم ومنعهم من حقهم المشروع في المشاركة في تقديم الحلول والبدائل لأزمات وطنهم.
إذا كان قرار “حمزة وجنينة” قد أثار الارتياح فإن الأمل ما زال معقودا في أن يكون هذا القرار هو البداية نحو القطيعة التامة مع السنوات الأخيرة، والخطوة الأولى لإصلاح كل الأخطاء التي وقعت فيها السلطة حينما قررت إقصاء الجميع، وفرض استبداد تام وكامل وشامل على الجميع، والانفراد بكل شيء وفرض الفكر الواحد والصوت الواحد، وهو أمر انتهى من العالم ولا يمكن أن يحقق استقرارا أبدا، بل إن هذا التسلط على المجتمع بمؤسساته لا يمكن أن يثير أكثر من الغضب والاحتقان الذي يتراكم يوما بعد الآخر ليصل إلى انفجار -لا قدر الله- قد يهدم كل استقرار مزعوم، ووقتها سيدفع ثمنه الجميع بلا استثناء.
أملي أن تحظى ملفات سجناء الرأي وفتح المجال العام وحرية الصحافة والإعلام، وغيرها من قضايا سياسية وحقوقية أولوية خلال الفترة الحالية، ولعل على السلطة الحالية أن تدرك أنه لا يمكن الخروج من أزمات الاقتصاد بدون تغيير حقيقي في المشهد السياسي، فالسياسة هي التي تقود، وهي نقطة البداية لكل تغيير يمكن أن يحدث في المجتمع، وبدون هذا الاقتناع فإن أي رهان على تطور اقتصادي أو اجتماعي سيفشل بلا شك، فليس هناك اقتصاد ناجح بدون مجتمع حر، ورقابة برلمانية، وشفافية تسمح بنقد وكشف كل صور الفساد والانحراف.
هذا هو الطريق إذا أردنا أن نخطو خطوات جادة إلى الأمام.