كانت لي تجربة متواضعة في «منظمة الشباب الاشتراكي» منتصف السبعينيات من القرن الماضي، انضممت إليها في آخر سنتين من عمرها، وكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في عملية قتل عمدية، وكنت شاهدًا على لحظات دفنها، وتفرق قياداتها وكوادرها، في مناحي الحياة السياسية.

منهم من انزوى في زوايا النسيان، ومنهم من قبض الثمن السياسي بالانضمام إلى صفوف الحزب الحاكم، ومنهم من نال بعض الفتات، ومنهم من تحولت وجهته إلى النقيض مما تعلمه في صفوف المنظمة.

لكن غالبية قيادات وكوادر «منظمة الشباب» توزعوا على أحزاب المعارضة، خاصة حزب التجمع الوطني التقدمي (حزب اليسار)، وشكلوا العصب الأساسي للتشكيل الشبابي «اتحاد الشباب التقدمي» الذي أقامه الحزب في منتصف السبعينيات.

وآخرون راحوا يبحثون عن إقامة تنظيماتهم الناصرية المستقلة، وبعضها اتسم بطابع السرية، وزحفت أعداد كبيرة منهم إلى تجربة «المنبر الناصري» تحت قيادة «كمال الدين رفعت»، ثم استقر بهم المقام بعد ذلك في تجارب حزبية وتنظيمية ناصرية مختلفة.

**

أجدني مطالب بالمسارعة إلى التأكيد على أن هذه التجربة المتواضعة التي شاركت بها في نهايات منظمة الشباب ليست هي دافعي للدفاع عن المنظمة.

وأسجل كذلك أن دفاعي لا يعني أن تجربة المنظمة كانت مبرأة من كل عيب، لا سلبيات فيها، بالعكس فإن أصحاب التجربة أنفسهم، وكثيرٌ ممن كانوا من قياداتها كان لهم تقييم موضوعي ونقدي للتجربة ومسارها ونهاياتها.

وأجدني مطالب على توضيح أن مساحة هذا المقال ـ مهما طالت ـ ستكون قاصرة عن الإحاطة بكل جوانب القضايا التي أثارها مقال الصديق العزيز الكاتب الصحفي «محمد سعد عبد الحفيظ» عن «محاضن السلطة لخلق كوادر سياسية»، والتي وصفها إجمالاً وبدون تفريق بين تجربة وأخرى بأنها: «كانت حرثًا في الماء».

وأسارع بالقول إنني أوافق على النتيجة النهائية التي توصل إليها، والتأكيد على أن «الأصل أن تنشأ الكيانات السياسية ويتم تأهيل شبابها في مناخ مفتوح بعيدًا عن سطوة السلطة وأجهزتها»، وأنضم إليه في رؤيته التي تؤكد على أن «منظمات المجتمع المدني الديمقراطية من أحزاب ونقابات وغيرها هي المحاضن الطبيعية القادرة على خلق أجيال جديدة من الكوادر السياسية المؤهلة للقيادة».

موافقتي له على هذا «الحكم النهائي» تأتي على غير الأسباب التي أسس عليها «حيثياته».

**

قد يكون عذر الصديق العزيز أنه بحكم السن لم يعاصر تجربة «منظمة الشباب الاشتراكي»، وربما لم يشتبك معها بصورة تسمح له بالاطلاع على مكنوناتها وأسرارها وتطور مراحلها، وزخم تجربتها، وعنفوان فاعلياتها خاصة بعد إعادة تشكيلها في أعقاب نكسة يونيو 1967.

وفي نظري أن «منظمة الشباب الاشتراكي» هي التجربة التنظيمية الحقيقية لثورة يوليو، وأنها كانت الحاضنة المؤهلة لولادة جيل جديد مؤهل وكفء على قيادة مرحلة ما بعد تقاعد قيادات ثورة يوليو، والتي كان «عبد الناصر» يرى أنها لن تطول كثيرًا بعد إزالة آثار العدوان وتحرير سيناء، والشروع مباشرة في إعادة بناء المجتمع السياسي على أساس تعددي.

رغم تجربتي المتواضعة في «منظمة الشباب» إلا انني أستطيع أن أقدم شهادتي حول الكثير من قياداتها وكوادرها الذين احتككت بهم، داخل صفوف المنظمة أو بعد ذلك في خضم الحياة السياسية وأحزاب وتنظيمات اليسار المصري من ماركسيين وناصريين.

وشهادتي للتاريخ تؤكد على أن المئات من هذه القيادات رما الآلاف من الكوادر كانت مؤهلة لقيادة مرحلة جديدة في عمر الوطن، لو أتيحت الفرصة، وخلص المناخ السياسي من السلطوية والانفراد بالحكم والتضييق على الحريات والحقوق السياسية.

**

أهم ما يميز تجربة المنظمة أن كوادرها كانوا مؤهلين على مستويات شتى، منها التأهيل الفكري والسياسي والتحليلي، وعلى محاور ومهارات العمل السياسي والجماهيري، وكذلك التنظيمي.

إذا كان لك حظ الاطلاع على البرنامج التثقيفي للمنظمة ككل ستجد أنها كانت مقسمة على ثلاثة مراحل: الأولى توضح المفاهيم الأساسية، والمرحلة الثانية تنمي النظرة العلمية للمجتمع وتستنفر قدرات الأعضاء التحليلية، وكانت المرحلة الثالثة تركز على توسيع مداركهم ومعارفهم ومعلوماتهم.

حين شرعت في كتابة هذا التعليق رجعت إلى أوراقي ومستنداتي، والآن أمامي كتيب عن البرنامج التثقيفي لأعضاء «منظمة الشباب الاشتراكي بالقاهرة»، نظرة سريعة على عناوين المحاضرات والقضايا المطروحة في البرنامج تعطينا إشارات واضحة وجلية على نوعية وكفاءة عملية التثقيف في محاورة المختلفة سواء الفكرية أو السياسية أم على محور التدريب واكتساب المهارات الرئيسية للعمل السياسي والتنظيمي.

نقرأ في البرنامج محاضرة حول «الصراع العربي الإسرائيلي في إطاره الدولي»، ومحاضرة عن «عدوان يونيو مقدماته وأهدافه واشكال ووسائل النضال لكسب المعركة) ومحاضرة ثالثة حول «قضايا التغيير والمعركة والتحول الاشتراكي»، ومحاضرة رابعة عن «المنهج العلمي في التحليل»، ومحاضرة خامسة عن «المفاهيم والأسس والمهارات الرئيسية للعمل السياسي في جوانبه المختلفة»، ومحاضرة أخيرة حول «العلاقة بين العلم والدين والتطور».

**

كانت أهداف عملية التثقيف تنصب على ضبط المفاهيم وتنمية النظرة العلمية وتوسيع المعارف، والتعمق في فهم الظواهر والأحداث.

حسب الرؤية التي صاغها «عبد الناصر» حول دور ومهمة المنظمة فقد كان يقع على عاتقها أن «تمهد الطريق لجيل جديد يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والفكرية».

لم تكن المنظمة في فكر عبد الناصر مجرد أداة سياسية يستخدمها الحكم، بل كان شاغل عبد الناصر الرئيسي هو المستقبل، وكان كثيرًا ما يقول: «ما صنعناه مهدد بأن يتحول مهما كانت روعته إلى ثورة لمعت ثم انطفأت، أو بداية تقدمت ثم توقفت».

هذه هي حقيقة النظر السياسية والاستراتيجية إلى «منظمة الشباب الاشتراكي»، لم يكن «جمال عبد الناصر» في حاجة على دعم جماهيري مضاف، وله منه رصيد كبير في حسابه، ولم يكن يبحث عن أتباع، وفي يديه تنظيم «الاتحاد الاشتراكي» بعضويته المليونية المنتشرة في كل بقعة من أرض مصر.

**

ما كان يشغل عبد الناصر لدى قراره بإنشاء «منظمة الشباب الاشتراكي»، قضيتان: واحدة تهم الحاضر وقتها، وأخرى تهتم بالمستقبل بعدها، كان يريد أن يستثمر في شباب الأمة لصالح المستقبل، ومن أجل المحافظة على المسيرة الثورية الاشتراكية التنموية.

كان «عبد الناصر» يرى أنه إذا تأخر التمهيد لجيل جديد، وإن لم تبذل كل الطاقات من أجل إعداده للمهمة الكبرى «فسوف تكون هذه مسئولية جيلنا الذي سوف يسجل على نفسه أنه عرف كيف يبدأ، ولكنه أخفق في معرفة كيف ينتهي».

كانت القيادة السياسية خاصة بعد «نكسة يونيو» تدرك أن الشباب هو عنصر الاستمرار ودعامة المستقبل وضمانة الحفاظ على مسيرة الثورة والتحول الاشتراكي وبناء التقدم على أرض مصر.

مجحف، ومتجن على الحقيقة أن نساوي بين مشروع منظمة الشباب وما تحقق منه بالفعل على الأرض، وبين أي تجارب أخرى، لم تكن غير صناعة (أولتراس) سياسي لصالح اشخاص أو نظام ليس له أي حضور سياسي في أوساط الشباب، ولا هو من الأصل كانت بصدد صناعة وعي وتنمية قدرات ورغبة في منحهم الفرص لأن يتقدموا الصفوف في وقت قريب.

**

في إطار عملية الانقضاض على الفترة الناصرية جاءت أكبر وأشرس معركة من السلطة الساداتية وانصب هدفها الأساسي على تصفية منظمة الشباب الاشتراكي، التي ظلت قائمة حتى سقطت بالسكتة السياسية في العام 1976.

كان السادات يدرك خطورة استمرار المنظمة، وهي خارج يده، ول يكن نظامه قادرًا على احتوائها بصورة تامة، وظلت تشكل له «نزناز سياسي» عمل طويلًا من أجل تصفيته.

طوال السنوات الخمس من مايو 1971 إلى منتصف العام 1976 كانت تجري على قدم وساق عملية محاصرة وتضييق وتدجين وتفريغ لقيادات وكوادر «منظمة الشباب» باستخدام أسلوب الجزرة مرة، والعصا مرات كثيرة ومتواصلة وممنهجة.

ظلت المنظمة تمثل «الجيب» المتبقي على أرض المعركة مع النظام السياسي الذي أقامه «عبد الناصر»، وبعد تم التخلص من التركيبة التنظيمية للاتحاد الاشتراكي التي كانت موالية لخط عبد الناصر، كان الدور على منظمة الشباب حتى تمكنت قوى الثورة المضادة من تصفية هذا الجيب وتشتيته.

**

رغم العيوب في التنفيذ، ورغم السلبيات التي واجهت قيام المنظمة وخلال مسيرتها التي امتدت لثلاثة عشر سنة، ورغم كل المشاكل التي صاحبت تكوينها أوائل الستينيات، إلا أن «منظمة الشباب الاشتراكي»، حتى في أسوأ أوضاعها لم تكن حرثًا في البحر.

من فضلك راجع خريطة الأحزاب ودقق في تركيبة القوى السياسية المختلفة في المجتمع المصري منذ العام 1976 وحتى اليوم، ستجد قيادات وكوادر منظمة الشباب منتشرين على طول وعرض الساحة السياسية في مصر طوال العقود الخمسة الماضية.

بالتأكيد لم تكن حرثًا في الماء تلك المنظمة التي ينتشر أعضاؤها في التركيبة الحزبية القائمة، لم تنقطع صلة الجيل الذي تربى في منظمة الشباب الاشتراكي بالسياسة بعد التخلص من المنظمة، تجدهم منتشرين على ساحة العمل السياسي بكافة فصائله حتى أن منهم من برز في إطار التنظيمات والجماعات التي حملت مشروعًا سياسيًا ذات مرجعية إسلامية.

منهم على سبيل المثال المهندس «خيرت الشاطر» ودوره في قيادة جماعة الاخوان، والدكتور «ناجح إبراهيم» من القيادات المؤسسة للجماعة الإسلامية وغيرهما كثيرين.

***

لم يكن عيبًا في المنظمة أن يقول قائل إنها وردت الى «جماعات الإسلام السياسي» بعضًا من كوادرها الذين تربوا في محاضنها، أو أنها أمدتهم بخبرات تنظيمية تعلموا أصولها في صفوف المنظمة.

بل هي بالأساس مسئولية المناخات السياسية التي صنعتها عملية الردة على الستينيات، من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت تلك واحدة من الظلال التي ألقتها «نكسة يونيو» على الحياة السياسية في مصر.

**

لكنك لا يمكن أن تغفل أن من بين قيادات المنظمة من صاروا رؤساء أحزاب، وبعضهم صاروا نوابًا لرؤساء الأحزاب، وأمناء عامون لأحزاب، وأمناء أنشطة مركزية كالتثقيف والتنظيم والعمل الجماهيري في عدد كبير من الأحزاب، ومنهم من صاروا أعضاء بالمكاتب السياسية واللجنة التنفيذية العليا أو اللجان المركزية، بعضهم في الحزب الوطني زمن السادات ومن بعده في زمن مبارك، وكثير منهم في أحزاب المعارضة (التجمع/العمل/الكرامة/الناصري/ الوفاق القومي/ وحزب مصر الفتاة الجديد)، وبعضهم في جماعة الاخوان، وكثيرٌ شاركوا في التنظيمات الماركسية.

كانت منظمة الشباب هي المورد الرئيسي للقيادات الشابة إلى ساحة العمل السياسي والوطني، وكانت هي «مفرزة ومفرخة» القيادات التي يدفع بها إلى الحياة السياسية.

توزعت دماء المنظمة في روافد كثيرة، وشغل كثير من قياداتها مواقع تنفيذية في أجهزة الدولة وصار بعضهم نوابًا بالبرلمان، وكان من بينهم كثيرين سيطروا على اتحادات الطلاب بالجامعات، وآخرين قيادات منتخبة في النقابات العمالية والمهنية، وبعضهم صاروا أعضاء بهيئات التدريس بالجامعات المصرية والعربية، ومنهم من سلكوا مجال الأعمال فصاروا رجال أعمال ناجحين، وبعضهم صاروا كتابا وأدباء وصحفيين وشارك العديد منهم بفاعلية في تأسيس منظمات وجماعات المجتمع المدني.

**

«منظمة الشباب الاشتراكي» هي التجربة التنظيمية الوحيدة التي أثرَت وأثرًّت في الحياة السياسية المصرية من القرن الماضي وما تزال تأثيراتها قائمة حتى اليوم.

يمكن القول إن هناك تجربة شبابية واحدة قبل منظفة الشباب الاشتراكي تمثلت في «الطليعة الوفدية» وإن كانت بالطبع في سياق مختلف ومناخات مغايرة لتلك التي نشأت فيها منظمة الشباب الاشتراكي.

يجمع بينهما أن كلًا منهما مثلت الحيوية السياسية والفكرية والتنظيمية داخل الأحزاب التي انبثقت عنها وعملت في إطارها وتفوقت عليها في كثير من الأوقات. الطليعة الوفدية داخل «حزب الوفد»، ومنظمة الشباب في إطار «الاتحاد الاشتراكي» التنظيم الأم.

**

لم يحاول النظام السياسي الذي وضع أسسه وأسس بنيانه الرئيس الأسبق «أنور السادات» أن يجازف بالدخول في تجربة قريبة الشبه من «منظمة الشباب الاشتراكي» بالعكس كان القرار السياسي هو إبعاد الشباب عن السياسة، وتحريمها في الجامعات ومطاردة وحصار كل الكوادر الشبابية أو استيعابه بعضها في جعبته السياسية.

حتى التجربة التي ذكرها مقال (المحاضن) الخاصة بشباب المستقبل فلم يكن لها أي دور سياسي، وظلت محصورة في الدعاية لشخص «جمال مبارك،» واعتبرت رديف جاهز لتعضيد مشروع التوريث، بدون أي توجه سياسي أو فكري، وظل المشروع كله في صورة «أولتراس نجل الرئيس»، مجموعات تمارس أنشطة ترفيهية ورحلات وأخرى اجتماعية أو فنية في إطار عملية استقطاب أعداد كبيرة من شباب الجامعات تحديدًا لضمها إلى جعبة مشروع التوريث.

كانت مهمة منظمة عبد الناصر أن تؤهل جيلًا جديدًا لقيادة مصر، بينما كانت مهمة «جمعية المستقبل» أن تؤهل «جمال مبارك» لخلافه أبيه من بعده، ومن الصعب تصور أن توضع التجربتان في سلة واحدة، يقذف بها في عملية حرث لبحر السياسة الراكد.

في المحصلة النهائية، وبالحساب الختامي لم تكن «منظمة الشباب الاشتراكي» حرثًا في الماء بكل تأكيد، ورغم كل سلبياتها فليس مثلها تجربة أخرى، لا قبلها ولا بعدها حتى اليوم.

**