وافق رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، قبل أسبوع، على السماح لروسيا بإنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر. ذلك خلال زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى الخرطوم. والذي تعهد برفع مستوى التعاون الاقتصادي بين البلدين، والسعي لرفع حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على إقليم دارفور غربي البلاد.
تشكل إفريقيا مسرح عمليات وتنافس متعدد الجبهات بين روسيا والغرب. ومنها تنطلق موسكو لفك العزلة الدولية التي فرضت عليها بعد حربها مع أوكرانيا. وهي (روسيا) تحاول استغلال حالة الاستياء الإفريقي الواضح إزاء الغرب، كما في منطقة الساحل.
وقد دخلت منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، منذ العقد الماضي، في ديناميكيات الصراع الإقليمي والدولي. لا سيما في ظل الصراعات والنزاع على السلطة، التي أتاحت للقوى الدولية التدخل في الأمن الإقليمي في المنطقة.
مفاوضات القاعدة العسكرية
منذ العام 2017، بدأت المحادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره السوداني السابق عمر البشير، للتفاوض على إنشاء مركز بحري روسي في السودان. وقد تجمدت هذه المحادثات بإطاحة البشير عام 2019. لكن عقب ذلك جرت تفاهمات بين الروس والمجلس العسكري، الذي تولى الحكم لاحقا.
وسبق وصرح رئيس الأركان العامة السوداني، الجنرال محمد عثمان الحسين، بأن الخرطوم ستراجع الاتفاقية التي تعرضت إلى ضغوط داخلية وخارجية لمنع السماح لروسيا بنشر قوات عسكرية. لا سيما بعد انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 2021. هذا بالإضافة إلى غياب سلطة تشريعية.
اقرأ أيضًا: الغَزَل الروسي والتسلل عسكريًا إلى البحر الأحمر عن طريق السودان
وفي فبراير/ شباط العام الماضي، أجرى الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، زيارة استغرقت أسبوعًا إلى موسكو. حيث تناولت المباحثات مع الروس، إعادة النظر في اتفاقية إنشاء قاعدة روسية في السودان.
وعقب الزيارة، صرح حميدتي أن بلاده ليس لديها اعتراضات على إنشاء القاعدة الروسية على أراضيها؛ لأنها لا تشكل أي تهديد للأمن القومي للسودان.
يرى الباحث في الشأن الإفريقي، محمد عز الدين، أن روسيا سعت حثيثا في السنوات الأخيرة الماضية نحو الدخول في القارة الإفريقية بكل أنواع الاستثمار والتدريب العسكري بداية من إفريقيا الوسطى ثم الانتقال إلى الساحل وانتزاع الدور الفرنسي من خلال تعزيز العلاقات مع تشاد وبوركينا فاسو ومالي
ويؤكد عز الدين، أن روسيا تبحث عن موطئ قدم في منطقة شرق إفريقيا حيث تنتشر القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي وإريتريا. وبالتالي لا بد من تواجد روسي مكثف، بحسب رؤية موسكو.
يتضمن الاتفاق العسكري بين السودان وروسيا السماح بإنشاء قاعدة بحرية، يصل قوامها إلى 300 جندي روسي. مع الاحتفاظ بـ 4 سفن بحرية، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية، في ميناء بورتسودان.
وبذلك تضمن القاعدة تواجدًا دائمًا للبحرية الروسية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، ولمدة 25 عامًا حسب بنود الاتفاقية، مع تمديد تلقائي لمدة 10 سنوات. ذلك في مقابل تزويد السودان بالأسلحة والمعدات العسكرية.
تحذير أمريكي
بعد موافقة البرهان على الاتفاقية، تنتظر الصفقة تشكيل حكومة مدنية وهيئة تشريعية من أجل التصديق عليها، قبل دخولها حيز التنفيذ.
وقد كررت الولايات المتحدة الإعراب عن مخاوفها بشأن هذه الاتفاقية، لما تمثله من فرصة أمام موسكو للحصول على موطئ قدم على طول البحر الأحمر، في وقت تتصاعد فيه التوترات مع الغرب على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية.
يقول جون جودفري، السفير الأمريكي في السودان، بأنه “إذا قررت حكومة السودان المضي في إنشاء هذه المنشأة، أو إعادة التفاوض بشأنها، فإنها تضر بمصلحة بلدها”. بينما يعتقد جوزيف سيجل، مدير الأبحاث في مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، أن ما يحاول الجيش السوداني القيام به هو اللعب مع جميع الأطراف. “إنهم يريدون مغازلة الروس، ولكن في نفس الوقت، أعتقد أن الجيش يدرك أن الروس لا يجلبون الكثير، وأن أي أموال، وأي رأس مال استثماري، يأتي من الغرب”؛ يقول.
عقيدة روسيا البحرية
تعتبر الاتفاقية جزءًا رئيسيًا من جهود موسكو لاستعادة الوجود البحري في العالم. وقد أطلقت روسيا العام الماضي استراتيجية بحرية جديدة، عكست معتقدات بوتين، بأن القدرة البحرية أمر محوري لبقاء روسيا قوة عظمى. وهي موجهة في المقام الأول ضد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
يحتل المحيط الهندي أولوية كبيرة في الاستراتيجية الجديدة. وأعلنت روسيا مؤخرًا عن خطط لإنشاء قواعد عسكرية بحرية جديدة في البحر الأبيض المتوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ والمحيط الهندي والخليج لتأمين الاتصالات البحرية المؤدية إلى آسيا وإفريقيا باعتبارها مناطق مهمة يجب على الأسطول الروسي تأمينها.
في السنوات الأخيرة، حققت روسيا نجاحات كبيرة في إفريقيا، ضمن طموحات الرئيس الروسي بوتين لتوسيع نفوذ بلاده العالمي. وقد كثفت من انتشارها في المناطق غير المستقرة ومناطق الصراع في إفريقيا. بما في ذلك مالي وليبيا وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى، من خلال نشاط مجموعات “فاجنر” المرتزقة، ومبيعات الأسلحة، وحملات التضليل.
ووفق سيجل، فإن روسيا اكتسبت نفوذًا في إفريقيا على مدى السنوات العديدة الماضية أكثر من أي جهة خارجية أخرى.
زحام المتنافسين
تغذي الممارسة الغربية غير المتسقة مع منطقة البحر الأحمر، مثل الانسحاب العسكري الأمريكي من الصومال، وفرض عقوبات على السودان وإريتريا وإثيوبيا، طموحات روسيا تجاه منطقة شرق إفريقيا والبحر الأحمر، التي بنشاطها المتزايد في المنطقة حولتها إلى مسرح صراع سواء بالنسبة للقوى التقليدية أو للقوى الإقليمية الأخرى.
في الماضي، كان التركيز الرئيسي ينصب على التنافس بين الصين والولايات المتحدة. لكن القرن الإفريقي أصبح اليوم ساحة معركة حاسمة للاعبين إقليميين متنافسين جدد: إسرائيل وتركيا وإيران والسعودية والإمارات وقطر. ويخشى الغرب من أن القاعدة الأولى لموسكو في إفريقيا يمكن أن تساعد في إبراز قوتها في المحيط الهندي.
اقرأ أيضًا: البحر الأحمر وشمال إفريقيا.. أية تأثيرات على مصر من تطبيع السودان والمغرب مع إسرائيل؟
في عام 2017، وقعت تركيا اتفاقية مع السودان لاستعادة جزيرة سواكن. ذلك بموجب عقد إيجار بقيمة 650 مليون دولار لمدة 99 عامًا. وأقامت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج، وهو معسكر تركسوم، في العاصمة الصومالية مقديشو في عام 2017.
كما لعبت القاعدة البحرية الإماراتية في مدينة عصب (على ساحل البحر الأحمر) بإريتريا دورا محوريا في العمليات العسكرية السعودية الإماراتية في اليمن. كذلك كانت هناك مباحثات بشأن إنشاء قاعدة عسكرية لصالح الإمارات في بربرة بأرض الصومال. كما تعتبر إريتريا مركزا لقاعدة إسرائيلية وقاعدة إيرانية.
ومنذ عام 2008، أبرمت إريتريا اتفاقية عسكرية، حافظت بموجبها طهران على وجودها العسكري في ميناء عصب، مقابل استمرار الدعم الإيراني للنظام الإريتري عسكريا واقتصاديا.
كذلك، تستضيف جيبوتي قواعد عسكرية من الولايات المتحدة “معسكر ليونير” ولدى الصين “قاعدتها العسكرية الخارجية الوحيدة”.
وإجمالًا، يستضيف البحر الأحمر حوالي 13 قاعدة عسكرية مختلفة. وهو ما يعمل على إعادة هندسة المشهد الأمني في هذه المنطقة. وبالتالي أصبح أمنها رهينة العديد من التحولات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، والطموحات الاقتصادية بينهم.
تأثير الخارج على الداخل
وهنا، يرى الباحث محمد عز الدين، أن التحركات الدولية تعمل على تأجيج الصراعات داخليًا، ومنها ما يحدث في السودان من دعم لطرف على حساب آخر وعلى حساب الشعب السوداني.
والسودان بالنسبة لروسيا، يمثل فرصة ثمينة. لا سيما في الظرف السياسي الراهن. حيث يمكن لروسيا تمرير الاتفاق العسكري بشأن القاعدة البحرية في بورتسودان. وهو ما يعكس ضمنًا دخول منطقة شرق إفريقيا في تنازع النفوذ بين القوى الدولية كما هو الحال في الساحل وغرب إفريقيا.