زم”م.سعيد” شفتيه، وزاغ بصره حين تلقى سؤالًا بشأن شكل مائدة شهر رمضان المقبل. لم يكن بوسع -مدرس مادة اللغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية- إلا الحيرة، مع تدوير يده اليمنى في الهواء، وهو يتمتم: “لا أعرف”.
يأتي شهر رمضان المقبل حسب التقديرات الفلكية في الثالث والعشرين من مارس/ آذار المقبل، وسط أجواء استثنائية من ارتفاع أسعار السلع الغذائية.
أصعب “رمضان”
يقول “م. سعيد”، الذي يعول أسرة مكونة من 4 أفراد: “رمضان المقبل سيكون الأصعب على مدار حياتي. أنا لم أشهد عبر مراحلي العمرية شهرًا اعتادت الأسرة فيه على تناول وجبة إفطار شهية يوميًا، يصل فيه سعر كيلو اللحم إلى 230 جنيهًا مرشحًا للزيادة، وكيلو الدجاج إلى نحو 90 جنيهًا”.
الأزمة كما يراها “م. سعيد”، دون حل، ولا حيلة في تجهيز ميزانية تفي بوجبة إفطار مماثلة لما مضى “متضمنة لحومًا، أو دجاجا، وطيورا يوميًا”، يضاف إلى ذلك حسب قوله -حلويات ما بعد الإفطار- وتكلفة السحور.
حسب شعبة القصابين بغرفة القاهرة التجارية، فإن أسعار اللحوم البلدي تشهد قفزات متتالية. وقد ارتفعت خلال الفترة الحالية، لتصل إلى 280 جنيهًا للكيلو. بعد أن ظلت حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي ما بين 180 إلى 200 جنيه، وبارتفاع حوالي 30 جنيهًا، خلال فبراير/ شباط الجاري، مقارنة بمستويات الأسعار منتصف شهر يناير/ كانون الثاني الماضي.
يرى الخبير الاقتصادي د.إيهاب الدسوقي، أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، أن الأسرة المصرية ستلجأ إلى تقليل نسبة الاستهلاك في شهر رمضان المقبل، مع ارتفاع الأسعار المستمر.
ذكريات مائدة الإفطار
لكن هل تستطيع الأسرة المصرية طمس طقوسها وتقاليدها الرمضانية؟ يجيب “الدسوقي” بأنها ستتمسك بها حتى آخر لحظة، باعتبارها “روحانيات” خاصة بالشهر الكريم، لكنها ستضطر للتنازل في الأخير. فلن تجد “العزومات” والسهرات العائلية بالكثافة نفسها.
يقول “م. سعيد”: “استعد في الفترة القادمة لتجهيز ميزانية شهر رمضان قدر استطاعتي، بمعدل إنفاق لن يتجاوز 3 آلاف جنيه. سأكيف أبنائي على ذلك. لا أملك حلولًا أخرى”.
وللحيلولة على الأزمة، سيعتمد مدرس المرحلة الابتدائية -وهو أب لابنتين وولد في مراحل تعليمية مختلفة- أيضًا سياسة ترشيد الإنفاق خلال هذا الشهر. “لتوفير وجبة السحور مثلًا سأشتري 3 كيلو فول لتدميسه في المنزل. الدجاج والطيور لم تدخل بيتي منذ شهر تقريبًا ولن أفعل طوال رمضان، فأسعارها مبالغ فيها بشكل كبير. لو لم أتكيف لا أعرف هل ستكفي الميزانية حتى نهاية الشهر أم لا.. أشعر بالعجز.. قد أتنازل عن دعوة عائلتي على فطار أول أيام رمضان كما اعتدت سنويًا”؛ يقول.
مؤخرًا، تقدمت النائبة أمل سلامة، عضو لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، بطلب إحاطة لرئيس الوزراء، ووزيري التموين والزراعة بشأن خطة الحكومة لتخفيض أسعار اللحوم، والدواجن، والأسماك، ومواجهة جشع التجار قبيل حلول شهر رمضان المبارك.
وهي ترى أن الإفراج الجمركي عن كميات كبيرة من الأعلاف ومستلزماتها، لم يسهم حتى الآن في خفض أسعار هذه المنتجات. في حين أن صادرات مصر الزراعية من الخضراوات والفاكهة حققت رقمًا قياسيًا، وفق وكالة”فيتش العالمية” للتصنيف الائتماني.
ستتغير العادات الرمضانية
اليقين حاليًا، أن تركيبة العادات المصرية في شهر رمضان المقبل ستشهد تغيرًا استثنائيًا. فحسب تقديرات الخبير الاقتصادي د.وائل النحاس، تلقت الأسرة المصرية صفعة الأزمة الروسية-الأوكرانية خلال العام الماضي، والأزمة متواصلة، وعلى إثرها ستتراجع “عزومات الإفطار العائلية” والموائد الرمضانية.
لكن خلال الشهر المقبل، هناك أيضًا تغير داخلي سيفرض نفسه على “المائدة المصرية”، وستنقرض أشياء كثيرة كانت بالأمس القريب من ثوابت الإفطار الرمضاني المصري. سيتغير سلوك المصريين في المجمل وبشكل كبير؛ يقول النحاس، الذي يرى أن “رب الأسرة المصرية” لن يستطيع لم أبنائه على مائدة واحدة، خاصة أرباب المعاشات، الذين اعتادوا “اللمة الرمضانية” في موسم روحاني، بعد أشهر الانقطاع للانشغال في دوامة العمل.
“لن يستطيع مثل هذا الرجل الاستمتاع بلمة أبنائه لأنه سيتكبد معاناة مالية تضاف إلى مصاريف أخرى تعتلي قائمة أولوياته كالعلاج مثلًا، بمحاذاة ارتفاع جنوني في أسعار المنتجات كاللحوم والدواجن”؛ يضيف النحاس.
حتى مطالبة المصريين بالاستغناء عن أصناف مقابل أصناف هو أمر غير ممكن، كما يقول “النحاس”؛ لأنه إذا قرر المواطن متوسط الدخل مثلًا أن يتناول “الجبن” مثلًا على مائدة الإفطار، فإنه سيصطدم بسعر الكيلو منه الذي بلغ نحو 100 جنيه، بينما كيلو الفول تجاوز 35 جنيهًا. “حتى لو أفطر على عيش وملح سيحتاج هذا إلى ميزانية كبيرة. المواطن المصري لم يتبق له سوى رغيف الخبز في بطاقة التموين، ونأمل أن يستمر”؛ يقول الخبير الاقتصادي.
شنطة رمضان إلى أين؟
تحدثت دراسة أجراها الباحث الفرنسي “دي شابرول” ضمن كتاب “وصف مصر”، عن عادات وسلوكيات المصريين في شهر رمضان، فأكدت أنها مستقرة طوال قرون، وهي تشير إلى تغير تام في الحياة الاجتماعية والسلوكيات يتواصل طوال 30 يومًا، يحييها المصريون بتجمعات عائلية، وموائد، وولائم إفطار، وتتخللها مظاهر إيمانية تتعلق بإطعام الفقراء عبر “موائد الرحمن” التي تنتشر في محافظات مصر كافة.
وقد قدر جهاز تنمية التجارة الداخلية التابع لوزارة التموين قيمة استهلاك السلع الغذائية خلال الشهر الفضيل بنحو 100 مليار جنيه (6.4 مليار دولار)، خلال عام 2021. في حين تصاعد الرقم بشكل ملحوظ، وبلغ نحو 120 مليار جنيه في العام الماضي.
وحول ما آلت إليه أوضاع الأسرة المتوسطة بعد موجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وأثرها على عادات وتقاليد “شهر رمضان”، يقول “و.ج” وهو يعمل بالقطاع المصرفي: “اختلفت أولوياتي تمامًا بعد ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن والسلع الأساسية. وسيؤثر ذلك على شكل مائدتي الرمضانية؛ لأنني لن أستطيع شراء الكميات المعتادة في ظل تصاعد يومي للأسعار بهذا الشكل”.
“أسرتي مكونة من ولدين وبنت، لهم طقوس خاصة، فالولدين لا يأكلان اللحوم إطلاقًا، ويفضلان وجبة الدجاج بتفريعاتها”؛ يقول الرجل، الذي كان في الماضي يشتري وجبات الدجاج يوميًا، وبأحجام مختلفة تفي بمتطلبات أسرة، وفي المقابل كان قادرًا على سد احتياجات ابنته التي كانت تفضل اللحوم. لكنه في رمضان المقبل سيواجه صعوبة كبيرة في موازنة طلبات أبنائه.
اقرأ أيضًا: ماذا تخبرنا قطع “البانيه” و”الملابس الداخلية” عن التضخم في مصر؟
في السنوات الماضية، اعتاد الرجل توزيع 50 شنطة على الأسر البسيطة طوال الشهر. “هذا العام لن أستطيع تلبية هذا النداء، لأن أبنائي أولى، وإمكاناتي صارت محدودة. في العام الماضي كانت تكلفة “الشنطة” مائة جنيه، متضمنة زيت، سكر، أرز، مكرونة، شاي -بمقدار كيلو من كل صنف-، أما الآن، فلا يكفيها نحو 300 جنيه. حتى موائد الرحمن سيعاني القائمون عليها هذا العام أشد المعاناة”.
وتشير بيانات غرفة الصناعات الغذائية في مصر إلى أن الأسر المصرية تنفق في الشهور العادية 25% من الميزانية على الطعام. ولكن هذا الرقم يتصاعد خلال شهر رمضان. ووفقًا لبحوث وبيانات الدخل والإنفاق للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، فإن أكثر من 85% من المصريين يغيرون عاداتهم الغذائية في الشهر الفضيل، ويرتفع حجم الاستهلاك بنسبة تقترب من 150% في رمضان، أي يعادل حجم استهلاك 3 أشهر بالسنة.
هل ستنقرض “موائد الرحمن”؟
اختلف الخبيران الاقتصاديان “د.إيهاب الدسوقي، ود.وائل النحاس” في استقراء مستقبل “موائد الرحمن” في شهر رمضان المقبل”، نظير صعوبة تمويلها.
يتوقع “الدسوقي” أن يشهد “رمضان المقبل” طفرة في إقامة “موائد الرحمن”، رغم الظروف الراهنة، نظير حرص القائمين عليها في المدن والمحافظات على استمرارها، ووعيهم بـ”حاجة” قطاع كبير من المصريين إليها.
وتعتمد “موائد الرحمن” بشكل رئيسي على اللحوم باعتبارها الشيء الذي يقصده فقراء المصريين، إلى جانب أنها في الوقت الحالي ستشهد زحامًا كبيرًا بعد أن وصل سعر كيلو اللحم إلى 280 جنيهًا، ومرشح للزيادة.
وتصل تكلفة إقامة مائدة الرحمن لـ”2000 صائم” طوال شهر رمضان المبارك إلى نحو 750 ألف جنيه، حسب إحصائية أحد العاملين بموائد رمضان.
ومع ذلك، يرى د.وائل النحاس أن طبقة تمثل 10% من المصريين هي القادرة حاليًا على إقامة موائد الرحمن. ووفق النصاب الشرعي للزكاة البالغ نحو 160 ألف جنيه، سيعاني من هو دونهم في إقامتها بشكل مستمر طوال الشهر.
يقول “النحاس” إن هذه النسبة من المصريين لن تستطيع تغطية كل المحافظات، والمدن، والقرى في إقامة طقس “موائد الرحمن”، لافتًا إلى أنها باتت عادة مهددة في رمضان المقبل.
“أهلًا رمضان” تخفف الأعباء.. ولكن!
وتسعى الحكومة إلى التوسع في منافذ “أهلًا رمضان” في المحافظات، لبيع السلع الأساسية بأسعار مخفضة، في محاولة للسيطرة على الأوضاع قبيل شهر رمضان المبارك. حيث تُباع اللحوم داخل المعرض بسعر يتراوح بين “150 و170 جنيهًا” للكيلو الواحد، بدلًا من “220 و250 جنيهًا” في محال الجزارة العادية، وكذلك الدواجن بأسعار تقلّ بنحو 20% عن الخارج.
وعلى قائمة أولويات الأسر المصرية المقبلة على معارض “أهلًا رمضان” تقع سلعتي “الزيت، والأرز”، -رغم تحديد كمية الشراء بـ 2 كيلو للفرد- مثلما يحدث في السلاسل الغذائية الكبرى. لكنها داخل معارض الحكومة تباع بسعر أقل مما هي عليه لدى المتاجر، ومحلات البقالة، على نحو “55 جنيهًا –زجاجة الزيت”، و14,5 جنيهًا لـ”كيلو الأرز”.
يقول “م.عبد الكريم” -مدرس ثانوي: “ساهمت معارض أهلًا رمضان في زيادة المعروض من السلع المخزنة لدى تجار الجملة والتجزئة. إلا أن ثمة أنواع بالغ التجار في أسعارها مثل البن مثلًا، الذي بلغ سعر عبوة ربع كيلو لدى التاجر 50 جنيهًا. في حين أنها متوفرة في المعارض بـ35 جنيهًا بفارق نحو 60 جنيهًا في الكيلو”.
“اعتدت على شراء مشروبات خاصة بشهر رمضان، مثل قمر الدين، والقهوة، بكميات مناسبة، لكن هذا العام أسعى لشراء ما يناسبني، من خلال هذه المعارض، لأنني أرى الآن جدوى توفير 10 جنيهات، أو 5 جنيهات كفرق سعر، يمكنني من تلبية مطلب آخر على مائدة رمضان، حتى ولو حزمة جرجير، وليمونتين”؛ يقول “م. عبد الكريم”، الذي يعول أسرة مكونة من 3 أفراد، والذي يؤمن أن الأزمة الحالية ستغير مذاق “الشهر الكريم”. لأن السلعة التي ستغيب بسبب ارتفاع سعرها قد تنغص على الأبناء وقتهم، ومع ذلك لا بد أن نتكيف حتى تعبر الأزمة.
وتقوم الشركات التي تعمل بمعارض “أهلًا رمضان” -والبالغ عددها 11 شركة- بتقديم عروض يومية تتراوح نسب التخفيض فيها بين 10% إلى 30% عن أسعارها في الأسواق المحلية.
“الاستيراد يفيد” ولا يكفي
ومؤخرًا، أعلنت وزارة التموين عن خطتها لاستيراد “الدواجن” من الخارج خلال الفترة المقبلة لطرحها في الأسواق، تزامنًا مع قرب حلول شهر رمضان المبارك.
وحسب تصريحات عبد العزيز السيد -رئيس شعبة الدواجن بالغرفة التجارية- فإن أسعار “الفراخ” المستوردة ستكون أقل بقيمة 25 جنيهًا من “المصرية”. لافتًا إلى أن الفرخة التي تزن “كيلو ونصف” لن يتجاوز سعرها 95 جنيهًا، مقارنة بالسعر الحالي.
لكن ثروت الزيني، نائب رئيس الاتحاد العام لمنتجي الدواجن، يقول: “إن قطاع الدواجن يمر بأزمة حقيقية لا يمكن إنكارها، مشيرًا إلى أن أسعار الدواجن، والبيض في زيادة مستمرة، حيث يصل سعر الكرتونة اليوم في المزرعة لـ100 جنيه، ويصل للمستهلك بما يقرب من 120 جنيهًا”.
ويضيف: “أنه مع اقتراب شهر رمضان الكريم ستزيد المتطلبات الشرائية للمواطن، كما هو معروف، وذلك يعني أن سعر “كرتونة البيض” ستكسر حاجز 160 جنيهًا”.
ويرى الخبير الاقتصادي د.إيهاب الدسوقي أن الحكومة ستضاعف استيرادها من السلع الأساسية لتغطية حاجات المواطنين طوال شهر رمضان المبارك.
وتستورد مصر خلال شهر رمضان أنواعًا مختلفة من التمور السعودية، والأردنية، وعلى رأسها تمور المدينة، والسكري، إلى جانب أنواع المكسرات مثل “عين الجمل، اللوز، البندق، الفستق، قمر الدين، المشمشية، الزبيب”، وغيرها من السلع التي تعد من ثوابت مزاج المصريين.
ورغم ذلك، يقلل “وائل النحاس” من قدرة الاستيراد على تجاوز الأزمة الراهنة، مشيرًا إلى أن الحكومة فشلت في ضبط الأسعار، كما أن المرحلة الصعبة الراهنة تسببت في خسائر كبيرة للمصنعين، ولم يعد هناك قدرة على الاستيراد لدى قطاع كبير، . ويستطرد قائلًا: “معالجة هذا الوضع يحتاج لسنوات”، على حد تعبيره.