وسط تأزم الوضعين المالي والنقدي بلبنان، واصل الدولار الارتفاع أمام الليرة ليبلغ مستوى 79.4 ألف في المتوسط. ما أدى إلى تزايد الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية الذي وصل إلى حد إقدام محتجين على تحطيم مصارف تجارية في بيروت وقطع الطرق اعتراضاً على القيود المفروضة على عمليات سحب ودائعهم منذ سنوات.
أصبح لبنان حاليًا نموذجا فجا للتضخم والتخبط، فأسعار البقالة تتغير عدة مرات في اليوم الواحد، ولم تعد مراكز التسوق تضع أسعارًا على بضائعها، ويتجادل سائقو سيارات الأجرة والركاب حول الأجرة، الاحتجاجات وحواجز الطرق تتجدد يوميًا، والإضرابات أصبحت روتينًا يوميًا لكثير من الفئات، وآخرها أعضاء جمعية المصارف “العاملون بالبنوك”.
إضراب المصارف
جمعية مصارف لبنان أعلنت دخول أعضائها في إضراب مفتوح اعتبارًا من 7 فبراير/شباط الجاري، بعد اجتماع عقدته لمناقشة الاستدعاءات القضائية التي يتعرض لها العاملون بالقطاع المصرفي، وإصدار قرار قضائي لصالح مودعين يجيز عدم الاعتراف بالشيك المصرفي بأنه وسيلة دفع قانونية، وهو أمر، بحسب الجمعية، يهدد البنوك بالإفلاس.
ويُعد النظام المالي في لبنان شبه منهار منذ عام 2019، وخطة الإنقاذ التي تبنتها الحكومة مع صندوق النقد الدولي الخاصة بتقديم 3 مليارات دولار، مرهونة بأمور “لا تستطيع أو لا ترغب” الحكومة في تنفيذها من بينها إعادة هيكلة المصارف وضوابط لرأس المال وتعديلات على سرية الحسابات المصرفية.
واتهمت المدعية العامة غادة عون، أخيرًا، كبار المصرفيين وبينهم اثنين من بنك عودة ومجموعة عودة بغسل الأموال لفشلهم في رفع السرية المصرفية عن حسابات كبار الشخصيات في الشركة، لكن رابطة المصارف ترى أن تلك الخطوة “انتقامية”، وجادلت بأن بنك عودة كان يتعاون مع المحققين، في حين أن تأكيدات المدعين مغايرة تمامًا.
وأدخل البرلمان اللبناني في 2022 تعديلات على قانون السرية المصرفية الصارم، بما يسمح للسلطات اللبنانية بما في ذلك الجهات الضريبية والقضاء، الوصول بدرجة أكبر إلى بيانات العملاء، لكن رابطة المصرفيين ترى أن المدعين لا يمكنهم بأثر رجعي عرض الحسابات المؤرخة قبل تمرير القانون.
النموذج الاقتصادي الأسوأ
وصف البنك الدولي الانهيار الاقتصادي في لبنان، الذي تفاقم عام 2019، بأنه من الأسوأ في التاريخ الحديث، فقيمة العملة المحلية تقدر بنحو 98% مقابل الدولار الأمريكي في السوق الموازية، ومن المتوقع أن تستمر في الهبوط إلى مستويات منخفضة جديدة.
وانخفض الناتج المحلي في لبنان بنسبة 58% بين عامي 2019 و2021 ومن المتوقع أن ترتفع الخسائر بإضافة 5% أخرى لعام 2022 (بياناته لم تصدر حتى الآن)، وهو أمر لا يبدو غريبا على دولة تعاني في اختيار رئيس وحكومة لا يمكنها وضع خطة بقاء اقتصادية موثوقة.
يقول البنك الدولي إن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي انخفض بنسبة 36.5% بين عامي 2019 و2021. وتوقفت البنوك عن الإقراض ولم تعد تجذب الودائع. يعيش أكثر من نصف السكان الآن تحت خط الفقر، وتضاعفت البطالة ثلاث مرات تقريبًا، لتصل إلى 30%، وبلغ معدل التضخم أكثر من 170%، وجفت عائدات الضرائب الحكومية.
ويُعد لبنان من أكثر البلدان تضرُّرًا من التضخم الذي طرأ مؤخراً على أسعار المواد الغذائية التي تتأثر بها بشكل خاص الأسر الفقيرة والمحتاجة إذ تشكِّل نسبة كبيرة من نفقاتها في ظل التآكل الشديد لقوتها الشرائية، ومع زيادة الخسائر المالية عن 72 مليار دولار ، أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحلي في عام 2021، فإن تعويم القطاع المالي بات أمرًا غير قابل للتطبيق نظرًا لعدم توفر الأموال العامة الكافية لذلك.
فأصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر المالية المقدَّرة، كما لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكَّدة ويحتاج تحقيقها سنوات.
سياسة اقتصادية متخبطة
يدفع لبنان -بحسب مراقبين دوليين- ثمنًا للإنفاق أكثر من الإيرادات على مدار عقود، والديون المتزايدة، وسياسة ضريبية تنازلية تحمي الأغنياء على حساب أي شخص آخر، والواردات التي تتجاوز الصادرات بشكل كبير، إضافة إلى فقاعة العقارات.
ويفتقر القطاع المالي إلى الإنصاف، فما يدور من مطالبة عامة المواطنين بتعويض المساهمين في البنوك والمودعين الأثرياء، يؤدي إلى إعادة توزيع الثروة من الأسر الأفقر في اتجاه الأسر الأغنى. وبالتالي فإن عملية إعادة هيكلة ذات مصداقية يجب أن تعتمد مبادئ الإنصاف والعدالة لضمان حماية دافعي الضرائب وصغار المودعين الذين تحملوا حتى الآن وطأة هذه الأزمة.
إريك ريجولي، المحلل الاقتصادي والسياسي، يقول إن لبنان عانت من نظام سياسي طائفي فاسد تمامًا قائم على المحسوبية حتى أن البنك الدولي، وصف “الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان بأنها أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر.
في الستينيات والسبعينيات، كانت لبنان جوهرة شرق البحر الأبيض المتوسط، وكانت بيروت تُعرف باسم “باريس الشرق الأوسط” وهي مدينة ساحلية مستقرة وليبرالية مع قطاع مصرفي مزدهر وحياة ثقافية ديناميكية، حتى اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية.
حينما انتهت الحرب بين إسرائيل وحزب الله بالانسحاب الإسرائيلي، كان بإمكان البلاد إعادة إطلاق اقتصادها لكنها فشلت فشلا ذريعا، مما أدى في نهاية المطاف إلى إفقار الحكومة والشعب اللبناني، وخلقت أزمة شهدت انهيار معظم الوظائف الأساسية، من البنوك إلى الكهرباء.
يقول إريك ريجولي إن هناك ألف سبب لانهيار لبنان، بما في ذلك الوباء وانفجار ميناء بيروت وأزمة وجود 1.5 مليون لاجئ سوري، وبالتالي الكارثة المصرفية تكمن في قلب الكارثة الاقتصادية.
المخطط البونزي
في السنوات الأخيرة، استخدم مصرف لبنان، البنك المركزي، مخططًا لتشجيع تدفق الدولارات إلى الاقتصاد لتمويل واردات البلاد الضخمة والحفاظ على ربط العملة اللبنانية المكلف بالدولار الأمريكي، ورفع الفائدة على الودائع إلى مستويات مجنونة.
نجح المخطط، ما دام ظل صافي تدفق الدولارات كما هو. ويمكن استخدام الودائع الجديدة بالدولار لدفع عوائد الودائع القديمة في أبهي صور المخطط البونزي، في الوقت نفسه، استمرت البنوك التجارية في شراء السندات الحكومية.
والمخطط البونزي هو نظام هرمي يحمل اسم تشارلز بونزي الذي اشتهر بعد القيام بعملية تزوير عقاري في ولاية كاليفورنيا، ويعتمد على استخدام أموال المستثمرين الجدد لدفع مستحقات السابقين وهي خطة قد تسير جيدًا، حتى تفشل عملية استقطاب مستثمرين جدد فينهار التمويل ويتوقف المخطط.
بحسب “ريجوي” فإن تلك الوصفة كانت سبب ما حدث عام 2019، عندما نفد زخم المخطط وجف تدفق الدولارات. اضطرت البنوك حينها إلى الحد من عمليات السحب النقدي، ما أثار أعمال شغب جماعية أدت إلى سقوط الحكومة، ومن حينها ذهب كل رقم اقتصادي في الاتجاه الخاطئ.
ويحمل رئيس اتحاد نقابات موظفي مصارف لبنان، جورج الحاج، حكومات لبنان المسئولية. فالمديونية بدأت الارتفاع في 2016 وأبقت الدولة حينها على إنفاقها الكبير مقابل إيرادات قليلة مع استسهال الاقتراض من القطاع المصرفي واستخدام أموال المودعين، حتى وصلت المصارف إلى نقطة لا يمكن لها الاستمرار. ووقع المحظور.
يلخص مايك عازار، أستاذ الاقتصاد اللبناني، الأوضاع بحال الليرة اللبنانية، يقول “إنها لم تعد عملة يمكن تخزين القيمة فيها، فلا يمكن التعامل بها، وعلى مقدمي السلع والخدمات أن يغيروا الأسعار كل ساعة.
هل تمتد الأزمة للجوار؟
مع تفاقم الأوضاع في لبنان تدور تساؤلات حول إمكانية امتدادها لدول الجوار. خاصة سوريا التي تعاني من أزمة اقتصادية، أضيف عليها أخيرا الأوضاع الصعبة في الشمال بعد الزلزال المدمر الأخير.
تقول الخبيرة الاقتصادية المصرية سلوى العنتري، رئيس قطاع البحوث الأسبق بالبنك الأهلي، في حديثها مع “مصر 360” إن لبنان نموذج فريد لا يتكرر في أي دولة بالعالم، مع انتشار الفساد السياسي والاقتصادي والمالي والطائفي بما لا يضع مجالا للمحاسبة أو المساءلة عن أسباب المشكلة القائمة.
تضيف العنتري إن مشكلة النظام المالي في لبنان في أن ودائع المودعين بالعملة الأجنبية لم تعد موجودة بعد تهريبها، والنظام المصرفي يطالب المودعين بالحصول على مقابلهم بالليرة وبسعر الصرف الرسمي، وليس سعر الصرف بالسوق السوداء، ما دفع المودعين لاقتحام البنوك.
وتشير إلى أن مصر على سبيل المثال تعاني من مشكلات اقتصادية. لكن تتم مناقشتها ووضع حلول لها. ولا يصح أن توضع في مقارنة مع لبنان. فمصر تتمتع بجهاز مصرفي قوي ومؤشرات الأداء المعلنة من قبل البنك المركزي تؤكد سلامة أداء البنوك.
وهي ترى أن القطاع المصرفي يواجه تحديات كجزء من مشكلات الاقتصاد لكن مؤشرات الأصول والخصوم التي تتعلق بالودائع الأجنبية “جيدة”.