واهم سياسيا؛ ويخدع نفسه أو يخدع الجمهور، من يعتقد أن زلزال الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها مصر حاليا سوف يمر على مصر مرور الكرام دون توابع شديدة داخليا وخارجيا قد تدفع في مقابلها أثمانا باهظة.
على المستوى الداخلي نبدأ بالإشارة إلى توابع الأزمة:
-تآكل وفقدان الشرعية السياسية.
-التجرؤ على الكلام وتهاوي حاجز الخوف والرعب.
-شعور كبير بالمهانة وجرح كبير في الكرامة الوطنية.
-إحياء آمال “الإسلام السياسي وتنظيم الإخوان” الذي كان قد مات إكلينيكيا وينتظر فقط مراسم الدفن ولكن أعطاه الفشل الاقتصادي للحكومة قبلة الحياة.
– تجاوز الجمهور بغضبه من تدهور حياته المعيشية وتعبيره الفطري المتزايد عن هذا الغضب كلا من الإدارة الحاكمة والمعارضة المدنية معا تاركا الجميع خلفه بمسافات بعيدة وتجاوز معهما السقف المنخفض القديم الذي تحدد للحوار الوطني -الذي اقتربت الدعوة الأولي إليه من عام ولم يبدأ حتى الآن!
يركز هذا المقال على النقطة الأخيرة لعلاقة الشعب بالإدارة الحاكمة والمعارضة وحوارهما الوطني الذي وضع في الثلاجة لمدة 11 شهرا كامل.
في الغالب لأنه كان موجها للخارج أكثر من الداخل، ولأنه كان موجها لإعطاء إنطباع بالإصلاح وليس لإجراء إصلاحات حقيقية في بنية النظام المغلقة.
الحوار بصيغته القديمة لم يعد مقنعا لأحد، وأهدافه المتواضعة للغاية، ربما كانت تصلح قبل انكشاف كل أبعاد الأزمة المصرية الراهنة وقبل التفاعل الشعبي، الذي يتزايد سخطه ونفاد صبره. ولكنها لا تصلح الآن وإذا بقي على حاله الآني لن يلتفت إليه الجمهور، ولن يعلق عليه ولا على النخبة المشاركة فيه آمال من أي نوع.
تقول أي نظرة فاحصة إن مصر تعيش الآن أجواء ومناخات الاحتقان والاستقطاب العام المصري المفتوحة على كل الاحتمالات لمراحل ما قبل يناير 1977 وما قبل اكتوبر 1981، وما قبل 25 يناير 2011 وما قبل 30 يونيو 2013، ويفاجئك هنا إلى حد الصدمة والذهول كيف أن نصوصا مبدعة لبعض عباقرة هذا الشعب كتبت من وحي أجواء عصر السادات تنطق بالحرف والكلمة وبالحسرة والألم على ما تعيشه مصر اليوم/ وهي تستعيد مرة أخرى ذاكرة الغضب والحلم بالتغيير بعد سكون استمر عشر سنوات من أجل الحفاظ على الاستقرار وسير عجلة الإنتاج.
هنا تستدعي الذاكرة الوطنية الجمعية بيسر وسهولة إبداع شاعر كبير مثل عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته المهولة “المد والجزر” التي كتبها في 1981 قبل أشهر من وفاة الرئيس الراحل أنور السادات، فتشعر وكأن كل حرف وكل كلمة وكل إحالة شعرية عن مصر المأزومة – الغاضبة وقتها هو حديث عن مصر المأزومة – الغاضبة حاليا .
لكن التاريخ أثبت أن طريقة الاغتيال الإرهابية الدامية والتراجيدية التي أوجدت أزمة “خريف الغضب” بها حلا وتنفيس لها عام 1981 هي طريقة فاشلة وغبية وكل ما فعلته أنها أورثت حكم الصدمات العصبية والانعطافات البهلوانية ومجتمع “القطط السمان” المحدود في عهد السادات إلي حكم البلادة والوقوف الخائب في المكان وتقنين الفساد غير المحدود؛ وتحصينه من الملاحقة والمساءلة في عهد مبارك.
تحتاج مصر إلى أن تتعظ من خبراتها وتجاربها وأن لا تعيد إنتاج أزماتها، تحتاج لتعامل وطني رشيد بمقدوره أن يمنع الزلزال والانفجار الذي لا يمكن استبعاده تماما ولا يمكن التنبؤ لا بموعده ولا تبعاته .
هذا التعامل لابد له، أولا من الاعتراف بأن النظام السياسي المصري القائم منذ 3 يوليو 2013 لم يعد يتمتع بصورة مقنعة بالشرعية السياسية، ولا بالرضا العام وأنه أخفق إخفاقا تاما في معالجة مشكلات البلاد وزادها حدة وخطورة ووضعها على شفا الانهيار الاقتصادي.
والأخطر من ذلك أنه اتضح -بما لا يجعل مجالا للشك- أنه ليس لديه أي خيال أو مشروع سياسي يمنحه خطة للخروج من هذه الأزمة اللهم إلا بمزيد من بيع ثروات وأصول رابحة تدر عائدا لسداد ديون وقروض أنفقت على مشاريع ليست ذات أولوية ولا تدر عائدا.
إذا تم الاعتراف بذلك يتم التعامل مع المرحلة القادمة ولتكن عامين على أنها مرحلة انتقالي، ولابد من الاعتراف ابتداءا بأن الأزمة الاقتصادية الكارثية التي تعيشها مصر قد أطاحت بالعديد من المسلمات إن لم يكن كل المسلمات التي فرضت على المجتمع المصري في السنوات العشر الأخيرة.
وأي تقدير من السلطة أو المعارضة يتجاهل هذا الواقع الجديد لن يفعل شيئا سوي جرف الأزمة الخطيرة كي تنعطف بحدة نحو حالة مقلقة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي .
وعلى رأس هذه المسلمات التي أطيح بها: أن الإدارة الحاكمة الحالية قد لا تكون قادرة على البقاء الهادئ المستقر في السلطة حتى عام 2030 أي إلى المدى الزمني الذي قامت من أجله بتغيير الدستور، إذا ظلت على أدائها السياسي الراهن .
في الحقيقة، فقد أوصلت الأزمة الحالية مصر إلى أجواء شبيهة بمرحلة السادات ما قبل 77 ومبارك ما قبل 25 يناير ومرحلة مرسي ما قبل 30 يونيو، ألا وهي وجود سلطة منتخبة لديها شرعية الصندوق، لكنها فقدت أو كادت تفقد شرعيتها السياسية في صورة انهيار جسيم في شعبيتها، وذلك بسبب دفعها مصر إلي أزمة خانقة تهدد كيانها الوجودي وتجعل الحياة المعيشية لنحو ثلثي شعبها كابوسا يوميا لايحتمل.
في المرات السابقة أهدر الحكم المنتخب وقتها عشرات الفرص التاريخية لحل سياسي لمشكلة تآكل شرعيته وافتقاده للقبول والرضا العام فكانت النتيجة خروج الجماهير لمحاولة تغيير الأوضاع .
أمام النظام السياسي الحالي في مصر والمعارضة المدنية فرصة ذهبية لتجنيب البلد مصير انفجارات يناير 77 يناير 2011 ويونيو 2013 والاستفادة من دروسها بأن يعترفوا جميعا بأن سقف الحوار القديم لم يعد مناسبا لا لحجم الأزمة ودروسها القاسية ولا لغضب الشارع وأن الحديث عن إصلاح قانون هنا والإفراج عن سجين رأي هناك لم يعد كافيا لبلد حرمه غياب الديمقراطية والمشاركة السياسية من تفادي أزمة مخيفة كانت كل مؤشراتها منذرة بل وهي تكرار عقيم ولكن أكثر فداحة لذات الأزمة التي وقعت فيها كل أنظمة الحكم المشار إليها وتم الانتفاض عليها، فما باتت البلاد بحاجة إليه هو إصلاح ديمقراطي شامل يحل محل الحكم الفردي المطلق.
بوسع النظام السياسي أن يفتح بنفسه نافذة واسعة من خلال حوار وطني بسقف عال جديد لحل سياسي لأزمة تآكل الشرعية، وذلك عبر مرحلة انتقالية سلمية تقود البلاد – خلال عامين على الأكثر – إلى نظام ديمقراطي حقيقي وانتخابات ديمقراطية حقيقية بين قوى وأحزاب مدنية تؤمن بالمواطنة وترفض إقحام الدين في السياسة والسياسة في الدين، انتخابات عامة ورئاسية متكافئة مراقبة من جهات محايدة.
وما أقوله في السياسة عن حاجة مصر لنظام ديمقراطي حقيقي يركز الحوار الوطني في مرحلة ما بعد الأزمة عليه فيحول دون وقوعها في نفس الأزمة كل عدة سنوات ليس اختراعا من عندي بل هي فكرة النظام السياسي المصري نفسه .
فالنظام السياسي المصري في سردية ما بعد الأزمة يدافع عن أدائه في الاقتصاد في السنوات العشر التي حكم فيها البلاد بالقول إن هذه كانت مرحلة انتقالية مؤقتة فرضت عليه أن يتدخل سواء كدولة أو كمؤسسة عسكرية تدخلا كبيرا في النشاط الاقتصادي، ويقوم هو منفردا بترتيب أولويات الإنفاق العام وتوجيهها نحو البنية التحتية التي لا تدر عائدا مباشرا وليس القطاع السلعي الصناعي والزراعي الذي يدر عوائد مباشرة، وأن هذه الفترة انتهت وإنه مستعد لعرض أسهم في كل الشركات العامة وشركات الجيش في سوق الأوراق المالية وحتى إدارة بعض الخدمات والمرافق العامة للبنية التحتية التي أنشأها للبيع للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب، وأنه مستعد لأن يتخارج تدريجيا من النشاط الاقتصادي مانحا القيادة مرة أخرى للقطاع الخاص (وثيقة ملكية الدولة + تعهدات مصر القاطعة لصندوق النقد الدولي).
فإذا مددنا الحبل علي استقامته سنجد أن الانسداد السياسى وتآكل الشرعية وارتفاع منسوب الغضب الشعبي يحتاج أيضا مثل الانسداد الاقتصادي بل أكثر منه إلي مرحلة انتقالية تتفق فيها كل القوي السياسية المدنية على أنه آن الأوان لكي تتراجع أدوار الأمن في السياسة وتتقدم مؤسسات السياسة من أحزاب وبرلمان وصحافة حرة وقضاء مستقل يقوم بمراقبة الجميع وتعود إلي الحياة مرة أخري بعد عملية الإجهاز على السياسة التي تمت في السنوات العشر الأخيرة .
– على أن يتم التوصل خلال شهور هذه المرحلة الانتقالية إلى تصفية تامة ناجزة لملف المعتقلين السياسيين المدنيين وكل من- أمضي فترة حبسه الاحتياطي دون أن يحاكم أو قضى فترة عقوبته وما زال مسجونا دون سند من القانون.
– تنجز المرحلة الانتقالية فتح المجال العام المغلق ووقف ممارسات الكبت التي- سادت بما في ذلك أن يعاد لحق النشر والتعبير والإعلام المستقل حريتهم التي صودرت في السنوات العشر الأخيرة، ويسمح بحرية العمل الحزبي والسياسي في الشارع وخارج وداخل مقار الأحزاب وترفع قبضة الأمن على الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والجامعات ويتفرغ الأمن لدوره الجليل دستوريا في تطبيق القانون على الجميع دون تمييز ومحاصرة الواسطة والمحسوبية وحفظ الأمن العام ومنع الجريمة وحمايةالممتلكات العامة والخاصة والسيطرة على فوضى الأسعار وفوضى الشارع ومحاربة الاحتكار والتهرب الضريبي وتعقب الفساد .
– التوصل الي وثيقة برنامج وطني ديمقراطي مستمدة من دستور 2014 بعد إزالة كل التعديات السلطوية المشوهة التي جرت عليه في 2019.
– إعادة صياغة كل القوانين المتعلقة بمواد الباب الثالث في الدستور عن الحقوق والحريات صياغة ديمقراطية حقيقية وليس الصياغات التي تمت وفرغت مواد الدستور من مضمونها، وإعادة صياغة قوانين التظاهر والممارسة السياسية والأحزاب والانتخابات والحبس الاحتياطي ..الخ، صياغة تتسق مع الدستور والمواثيق الدولية التي وقعت مصر وصدقت عليها.
توابع الأزمة وما خلفته من ضعف في موقف الدولة المصرية امتد إلى إحداث خلل في علاقة النظام السياسي المصري بقوى الإسلام السياسي في الخارج وخلل في علاقته بالنظام الإقليمي، وبدفع مكانة مصر في إقليمها وعالمها إلى مزيد من التراجع الفادح.. ولكن هذا يستحق مقالا آخر.