في الزمن البعيد اخترع الإنسان المقايضة، كان يعطي ليأخذ، تتحدد قيمة العطاء بقيمة الأخذ، وتطور الأمر إلى اختراع العملات أو ما نُسميه المال، فبات هناك فكرة التسعير، وإذا كان الإنسان قد نجح في وضع نظم مالية وتسعير للخدمات، لكن ظلت هناك أشياء لا يُمكن تسعيرها، أشياء تنبت من القلب والروح وقد تتطور إلى جهد لكنها وبرغم قيمتها العالية فهي بلا سعر أو رقم يمكن وضعه كمقابل لما نقدم، فينسحب كثيرون في تقديم ما لا يمكن تسعيره ثم تأتي تلك اللحظات المتكررة حين يشعر أحدهم بأنه لا قيمة له فتنكسر روحه وقلبه وقد يتطور الأمر إلى الإحساس بلا قيمة الشخص نفسه وليس فعله فقط.
الناموس البشري
ذات يوم كان لي صديقة جاءها عرض عمل وجدته أفضل من عملها الحالي وقتها، استقالت وانتقلت إلى العمل الجديد، وعندما ذهبت إلى العمل لم تجد العرض المالي كما هو متفق، لكن كانت هناك وعود بتعديل الموقف، كانت صديقتي متفانية في عملها، فيما يسميه البعض “حمارة شغل” تنجز مهام عملها ومهام أخرى، لا تبخل بجهد، وتتجاوز عدد ساعات العمل وتستمر ساعات إضافية، وهي تسمع كلمات التقدير من مديرها ورؤساء الأقسام، فكانت صديقتي تتهلل بابتسامة الرضا، لكن الوضع المالي استمر لشهور دون تعديل، وحينما تقدمت إلى مديرها تشكو ذلك، كان المدير لديه تقرير من الحسابات بكل ما حصلت عليه من مكافآت وبحسبة بسيطة، كان متوسط ما تحصل عليه هو الرقم المتفق عليه، كان الأمر بمثابة صدمة بالنسبة لها، لم تقف لتقول أن زملاؤها يتقاضون نفس المكافآت، ولم تتحدث عن ساعات العمل الإضافية، ولا المهام الإضافية التي تقوم بها، كانت فقط تشعر بالصدمة، من منا لم يمر بموقف شبيه، وشعر بالخذلان، فمثل هذه المواقف تفتت ثقتنا في الجهد والتضحية.
أوجه الشبه بين الإنسان والناموس
قد يظن البعض أنه لا صفات مشتركة بين الانسان والحشرات، بل أن هجومًا يمكن أن ينشأ عندما نصف الإنسان ببعض صفات الحشرات، لكن دعونا نتأمل للحظة، الناموس تلك الحشرة التي تستغل لحظة انشغالك أو نومك، ثم تنقض عليك تمتص دمك، وعندما تنتبه وقد أن تأخذ موقف تكون قد طارت لتبدأ رحلة أخرى مع شخص آخر، وربما معك أنت، هذه الرحلة ألا تتشابه مع سلوكيات بعض البشر؟
بعض البشر يتقدمون نحوك بهدوء يمتصون طاقتك، يأخذون منك كل ما لا يمكن تقييمه بمال، فالإخلاص والحب والجد في العمل، والتفاني قيم مهمة في الحياة لكن كيف نقدرها؟؟ كثير من المخلصين طُردوا من أعمالهم، وحب عملك لا يجد في حالات غير قليلة من يقدره ويحوله إلى ترقية أو مكافأة، وبرغم ذلك ستجد من يدعو إلى التفاني والإخلاص من يُحثك على بذل الجهد.
كيف تُستغل ويجعلونك مجانيًا؟
تبدأ خطوات استغلالك بأن يكون الشخص الآخر حولك يُربكك بكثرة ما يطلبه، ويُسمعك معسول الكلام، إنه الكلام الحلو الفخ الذي نقع فيه جميعًا، يقدم الآخرين الكلام وأنت تقدم جهدًا، يقدم الآخرين كلامًا وأنت تقدم مشاعر ووقت، في الغالب أنت تبذل دمك، تقدم ما لا يمكن تسعيره، أو وضع قيمة مالية مكافئة له، أنت تمنح بلا مقابل وتبتسم حين تسمع كلامًا حلو، لكنك في لحظة سوف تختنق حين ينعدم الكلام، ويبدأ الآخرون في حسابك على التقصير.
المثل الشعبي “أبو بلاش كتر منه” يعكس تعامل الآخرين على كل ما هو مجاني، فيمكنك أن تلاحظ تعامل الكثير مع فكرة الأوبن بوفيه وكيف تمتلئ أطباقهم بما لن يأكلونه، وإذا كان هذا يحدث مع الأكل فهو لا يختلف بالنسبة للمنشورات والكتب الدعائية الموجودة في افتتاح الندوات والمؤتمرات، هذه الثقافة التي تخللت تفاصيل المجتمع فباتت سلوك يقلل من قيمة أي شيء لا يدفع صاحبه مقابل مالي، إذا أن الآخرين لا يقدرون الا ما يدفعون فيه، ومن ثم فكل ما يأتيهم دون مقابل هو بلا قيمة عندهم حتى لو كان ذهبًا.
الكلام المعسول هو أول فخاخ الاستغلال، فلا تسمح لأن تعطي جهدًا مقابل كلمات معسولة مهما كانت تكسبك سعادة.
الحديث عن المجانية لا يعني أن تقدم كل شيء بمقابل مادي، لكن يعني أن يكون هناك مقابل، فعندما تبتسم لأحدهم الطبيعي أن يبتسم لك، عندما تساند أحدهم ينبغي أن تجد التقدير المستحق، فحتى الأفعال والمشاعر التي لا نقايضها بشكل مادي، لابد أن يكون لها مقابل.
حين تعمل ساعات عمل إضافية فأنت تستحق مكافأة أو على الأقل إجازة مقابل تلك الساعات.
الكلام المعسول هو السحر الذي يحولنا لنكون مجانيين، نفرح ببضع كلمات ونقدم الكثير من المشاعر والجهد، ومن ثم يا عزيزي حين تتوقف أفعال الآخرين على الكلام فقط اعلم أنك وقعت في الفخ، وعليك أن تسعى للهروب منه، فقلة هم من يقدرون.