مصر هي دولة الجيش، من ملوك الفراعنة العظام مع فجر التاريخ، إلى عصر ودولة وحكم المماليك، وفي العصر الحديث أقام محمد علي جيشًا مصريًا ترسخت فوقه قواعد بناء دولة مصر الحديثة، وبعد ستين سنة من تأسيسه، كاد جيش مصر أن يفعلها، ويطيح بحفيد محمد علي في ثورة العرابيين المؤيدة شعبيًا قرب نهايات القرن التاسع عشر، ولكنه بعد سبعين سنة أخرى فعلها وأسقط حكم الأسرة العلوية، وأقام الجمهورية، وحكم مصر منذ ثورة يوليو حتى اليوم.

قبل يوليو كانت السلطة تستولي على الجيش وتسخره لمصلحتها، حتى صار أداةً في يد الحاكم، وليس مؤسسة عسكرية وطنية، وجاءت ثورة 1952 لتصبح السلطة في يد الجيش، يسخرها ويستولي عليها، باطراد هذا الوضع واستمراره طوال السبعين سنة الماضية تكاد الحدود بين الدولة والجيش تتلاشى ليتحول من جيش الدولة إلى دولة الجيش.

**

تاريخ مصر الحديث ينقسم إلى فترتين رئيسيتين، في كل فترة عهود مختلفة باختلاف الحكام في سماتهم الشخصية، ونوازعهم وانحيازاتهم وثقافتهم وقدرتهم على حكم بلد في حجم مصر بعمقها التاريخي وثقلها الجيوسياسي.

حكم محمد علي وأولاده مصر طوال الفترة الأولى من 1805 حتى إسقاط الملكية في 1953، وحكمت مصر بعدها في ظل الجمهورية من 1952 حتى اليوم، توالى خلالها العديد من الرؤساء، في أربعة عهود رئيسية على مدار السبعين سنة الماضية.

وكما كان لكل عهد من حكم أسرة (محمد علي) سماته الخاصة التي تتغير بتبدل الجالسين على العرش، كذلك كانت السمات الشخصية للرؤساء الأربعة تحكم طريقة حكمهم، وتجعلها عهودًا مختلفة، متناقضة السياسات، ومتعددة الاتجاهات العامة، برغم وقوعهم جميعًا في قائمة حكام جمهورية واحدة مستمرة.

هذا المقال مناقشة افتتاحية حول فكرة تأثير السمات الشخصية والمعرفية لرؤساء مصر (الذين انقضت عهودهم، من عبد الناصر إلى مرسي) على تعاملهم مع الأزمات وآثرها على طريقة الحكم.

**

طوال السبعين سنة الماضية جلس على دكة الحكم كلٌ من: محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وصوفي أبو طالب، وحسني مبارك، والمشير حسين طنطاوي، ومحمد مرسي، وعدلي منصور، وأخيرًا الرئيس عبد الفتاح السيسي.

ستة عسكريين وثلاثة مدنيين، تراوحت المدة الرئاسية لكل منهم بين: أسبوعين (صوفي أبو طالب)، وسنة (عدلي منصور)، وجاء ثالثهم (محمد مرسي) عبر انتخابات رئاسية في أعقاب ثورة يناير 2011، ثم ثار عليه المواطنون بمؤازرة الجيش، وتم عزله من الرئاسة بعد مرور سنة من انتخابه.

تتراوح فترة حكم العسكريين الستة بين سنتين (محمد نجيب)، و14 سنة (جمال عبد الناصر)، و10 سنوات (أنور السادات)، و30 سنة (حسني مبارك)، وسنتين (المشير حسين طنطاوي)، و10 سنوات (المشير السيسي).

يتساوى كل من نجيب وطنطاوي في مدة السنتين بحكم أن فترة حكمهما كانت مؤقتة، فرضتها ظروف خاصة، الأول بعد ثورة يوليو، والثاني في أعقاب ثورة يناير، في حالة نجيب كانت بسبب ترأسه لمجلس قيادة الثورة في بدايتها، وفي حالة طنطاوي جاءت في أعقاب تخلي الرئيس مبارك عن الحكم وإسناده السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وعلى رأسها وقتها المشير طنطاوي.

طوال 71 سنة ترأس المدنيون مصر في ظروف استثنائية لمدة لا تزيد عن السنتين إلا قليلاً، بينما حكمها العسكريون لمدة تقترب من 69 سنة كاملة.

**

فترة حكم الرئيس الخامس هي الأطول، ليس في تاريخ ما بعد يوليو فقط، بل هي الأطول في تاريخ مصر الحديث بعد فترة حكم محمد علي التي قاربت 44 سنة، في حين بقي حسني مبارك فوق مقاعد السلطة طوال 30 سنة، وتكاد تصل مدته الرئاسية إلى نصف الفترة من يوليو 1952 إلى يناير 2011، وأكثر من مجموع رئاسات كلٍ من نجيب وعبد الناصر والسادات.

بحكم المدة التي قضاها كل رئيس في حكم مصر يُعد الرئيس مبارك هو الأكثر تأثيرًا بالسلب فيما آلت إليه الأمور في مصر بعد ثلاثة عقود من حكمه، كانت مرشحة للامتداد أو التمدد لولا قيام ثورة يناير، ولا نتجاوز الحقيقة إذا حمَّلناه المسئولية عن كل ما تعاني منه مصر حاليًا، وبالفعل فقد أصدرت الملايين التي احتشدت في الميادين تطالب بإسقاط النظام، حكمها التاريخي على مبارك وفترة حكمه، وأثرها الأسوأ على وضع مصر، وأحوال المصريين.

وهذا الحكم لا يعفي سلفه الرئيس السادات من المسئولية عما جرى خلال حكم مبارك الذي سار في مساره، وشيد طريقته في الحكم على القواعد الأساسية التي وضع بنيانها الرئيس السادات.

**

في حديث السمات الشخصية الأساسية المميزة لكل واحد من الرؤساء الأربعة (عبد الناصر، والسادات، ومبارك، ومرسي)، تبرز سمة المواجهة كواحدة من سمات عبد الناصر الشخصية، كما برزت سمة المناورة التي صبغت طريقة حكم السادات، وفي مبارك كانت أبرز سماته الشخصية تتمثل في البطء الشديد في ردود أفعاله، طوال فترة حكمه الطويلة، حتى صار علامة مميزة على عهده.

في حالة عبد الناصر كانت المواجهة التي تصل إلى حد العناد سمته الأبرز، أصلها نابع من شخصيته التي تجمع بين الشجاعة من ناحية والعناد من ناحية أخرى، خاصة أمام جرح الكرامة الشخصية أو الإساءة إلى الكرامة الوطنية.

وفي حالة السادات كانت سمة المناورة والالتفاف الذي يصل إلى حد التآمر تعود إلى طبيعته الشخصية التي شكلتها ظروف نشأته ومسيرته الحياتية المليئة بالهزائم على المستوى الشخصي، والمفعمة بالكثير من المعاناة التي عاشها من طرد من الجيش، والتعامل المبكر مع مخابرات دولة أجنبية أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى غير ذلك من المؤثرات على تكوينه النفسي وطبائعه الخاصة.

وفي حالة مبارك ستجد البطء الذي يصل إلى الجمود، وهي سمة ترجع إلى شخصية راكدة أكثر من كونه يرجع إلى التفسير القائل بأثر الحذر الذي تفرضه عليه طبيعة وظيفته كقائد طيران كما حاول بعض مؤيديه أن يروجوا لهذا التفسير.

**

يمكنك أن تنظر من هذه الزاوية إلى القرارات الرئيسية في حياة الرؤساء الأربعة، وخاصة أثرها في طريقة مواجهتهم للأزمات، وتأثيرها على طريقة إدارتهم للحكم.

شخصية عبد الناصر انعكست أكثر ما انعكست في معاركه مع خصومه بالداخل، كما تبدت في مواجهة أعدائه من الخارج، كما أن السمات الشخصية لأنور السادات انطبعت على إدارته لمعاركه مع خصومه السياسيين، وعلى طريقة تفكيره في الكيفية التي يدير بها مواجهاته في الخارج.

المباشرة والمسارعة إلى المواجهة، التي هي من مقومات شخصية عبد الناصر تبدت بوضوح في مواجهته مع الإخوان، فكان قراره الأول هو كسر شوكتهم التنظيمية، ثم راح يعمل على تصفيتهم على المستوى الحركي، وظل يكشف أساليبهم على المستوى السياسي، ويعري طريقة تعاملهم مع الثورة في مراحلها الأولى حتى لحظة الصدام الذي سعوا إليه.

وكانت ذروته التي حسمت قرار المواجهة معهم بشكل كامل إثر محاولة اغتياله في ميدان المنشية يوم 23 يوليو 1954، كما حرص على مواجهتهم على المستوى الفكري في خطبه وعبر وسائل الإعلام والصحافة التي ساعدت في تقليص وجودهم وتفنيد آراءهم، وتصفية تأثيراتهم في الشارع المصري.

**

تبدت تلك السمة في شخصية عبد الناصر أكثر ما تبدت في تصديه لسياسات الغرب المعادية، والمثال الأبرز هنا هو الكيفية التي تعامل بها مع إجراء بحجم وقوة والآثار المتوقعة لقراره تأميم قناة السويس.

التأميم كان مطروحًا على جدول أعماله مبكرًا في أعقاب الثورة، وظل مرهونًا باختيار الوقت الأمثل لإعلانه وجاء سحب الولايات المتحدة الأمريكية لعرض تمويل مشروع السد العالي بالطريقة التي أعلن بها، وبعد أن ظلت أمريكا وبريطانيا تتلاعبان في مفاوضات تمويل السد أكثر من عامين، وتبدت نيتهما على فرض شروط مجحفة تحمل تدخلاً سافرًا في الشئون المالية المصرية، ومطالب بتغيير سياسة مصر تجاه القضية الفلسطينية ودفعها إلى الصلح مع إسرائيل، ووقف صفقات تسليح الجيش المصري مع الجانب السوفيتي، وأرادوا عقابه على رفضه سياسة الأحلاف ومحاربته لحلف بغداد وغيره من الأحلاف العسكرية والسياسية ومشاركته في تأسيس حركة عدم الانحياز، فضلاً عن مساندته لثورة الجزائر واعترافه بالصين الشعبية.

ورغم أن “يوجين بلاك” مدير البنك الدولي أعلن في 18 فبراير 1956 موافقة البنك على تمويل مشروع السد العالي لكن السياسة الأمريكية كانت قد قررت معاقبة مصر على عدم انصياعها للإملاءات الغربية، وفي 19 يونيو 1956 وخلال جلسة المباحثات التي جمعت الدكتور أحمد حسين سفير مصر في واشنطن بوزير الخارجية الأمريكية أعلن المتحدث الرسمي باسم الخارجية سحب العرض الأمريكي بالمساهمة في تمويل السد لأسباب أرجعها إلى سوء وضع مصر الاقتصادي، وسارعت بريطانيا إلى اتباع الموقف الأمريكي وشككت في قدرة الاقتصاد المصري على تمويل السد العالي وسداد القروض المطلوبة.

وجدها عبد الناصر فرصة للتصدي المباشر ومواجهة محاولات الغرب التحكم في سياسات مصر، ورد اللطمة التي أرادوا تسديدها إلى الاقتصاد المصري، فذهب مباشرة إلى تأميم قناة السويس باعتباره الرد الأمثل على ما رآه مساسًا بالكرامة الوطنية، وجرحًا للكبرياء الوطني، وهو القرار الذي ترك آثارًا ضخمه على المستويات العالمية والإقليمية وداخل نصر، وتوج عبد الناصر زعيمًا وطنيًا، وقوميًا من يومها.

**

إذا كان عبد الناصر هو رجل المباشرة والمواجهة، فإن أنور السادات هو رجل المناورة، والتآمر.

حدثني أستاذنا كامل زهيري نقيب الصحفيين أنه حذر “جماعة مايو” من خطورة السادات، وقال لهم “إنه يملك عقلية متآمرة، يمكن أن يتناول معك طعام الغداء ويترك حقيبة القنابل إلى جوار مائدة الطعام، ويمضي إلى حال سبيله، ويتركك تواجه مصيرك، وحدك”، ولكنهم اغتروا بما في أيديهم من قوة، فانتصر عليهم السادات المراوغ، وزج بهم في السجون.

كان السادات يتقن فنون ضرب خصومه بعضهم ببعض، فاستخدم الإخوان بعد أن استقدمهم من الموات الذي فرض عليهم، طوال عهد سلفه، فأفرج عن البقية الباقية منهم في السجون، واستقدم الفارين منهم إلى الخليج، وسمح لهم بإعادة الجماعة إلى الحياة من جديد بشرط مساندته في معركته مع خصومه من اليسار المصري.

كانت طريقة السادات الملتوية في التعامل مع مفردات الحياة السياسية هي التي فرضت عليه أن يلعب لعبته في إذكاء التناقض بين خصومه السابقين (الإخوان وقد شارك بنفسه في محاكماتهم أمام محكمة الثورة أوائل ثورة يوليو)، وبين خصومه الحاليين الذين صاروا يشكلون عبئًا ثقيلًا عليه وعلى اتجاهاته السياسية المستجدة بعد أن تخلص من الذين زاحموه على السلطة في مايو 1971.

**

واجهت السادات منذ وصوله إلى السلطة انتفاضات طلابية حاشدة في العام 1972 و1973، وعادت المواجهة مرة أخرى مع الحركة العمالية في 1975 حيث شهد أول يوم في السنة تظاهرات عمالية احتجاجًا على سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأ تنفيذها في العام 1974.

لكن التهديد الأكبر الذي خلقه -هذا الجيل المسيس- لنظام السادات جاء في يناير 1977 حين توحدت الحركتان الطلابية والعمالية فيما عرفت بانتفاضة الخبز حيث عمت مصر التظاهرات يومي 18 و19 يناير رفضًا للقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة وتضمنت رفع الدعم عن عدد من السلع الأساسية.

في الوقت الذي سعى فيه السادات إلى تقليص السياسة في الجامعة والمجتمع راح يشجع تيار “الإسلام السياسي” في مواجهتهم مع التيارات اليسارية والناصرية.

وفي هذا المسار ومن نفس الزاوية جاءته فكرة بعث الوفد من جديد، على أساس أن تنشب مواجهة بين اليسار المعارض وبين اليمين العائد.

والغريب -بل والمفجع- أن تأتي نهاية الرئيس السادات على يد هؤلاء الذين أطلق يدهم في الحياة العامة، وأفسح لهم المجال واسعًا ليقضوا على خصومه السياسيين، فانقضوا عليه يوم احتفاله بالذكرى الثامنة لانتصار السادس من أكتوبر 1973 وهو الإنجاز الأعظم الذي ظل يفاخر به طوال حياته.

**

كانت ميزة مبارك الأساسية طوال فترة حكمه تتمثل في قدرته على تأمين النظام، بالتوازنات، وبالأمن، وبالإعلام، وكانت قدراته تتجلى أكثر ما تتجلى في هذا المجال، وهو الأمر الذي كان وراء استمرار مدة حكمة إلى ثلاثة عقود، بل وكانت سببًا في الشروع في مشروع التوريث.

إلا أن البطء الذي حكم مسار فتراته الرئاسية المتعددة، خاصة في الفترتين الأخيرتين، كان هو السبب وراء جمود الأحوال في مصر حتى تيبست مفاصل الدولة، وظهرت على السطح صراعات مخفية بين من أسموا بالحرس الجديد وبين رجال الحرس القديم، وبعضهم ظل على مقاعده في الوزارة أو في الحزب الوطني ما يزيد عن عشرين عاما متصلة، وكذلك في الصحافة التي استمر بعض رؤساء التحرير الموالين له إلى ما يزيد فوق العشرين عامًا.

ولذلك كان طبيعيًا أن تكون ثورة يناير – في صورة من صورها الكثيرة أنها جاءت لتنهي أزمة طالت فوق صلاحيتها، لسلطة شاخت فوق مقاعدها.

**

فترة رئاسة محمد مرسي كانت قصيرة جدًا، سنة واحدة لا تكفي للحكم على أسلوبه، ولم يتمكن خلالها من ممارسة الحكم بشكل فعلي.

فقد جاء على رأس نظام يرفضه، وفي وسط شعبي لم يقبل استمراره في الحكم طويلًا، من ناحية كانت الدولة العميقة معيقة لقراراته، ولم تتجاوب معه بالقدر الكافي لنحكم عليه، وعلى فترة رئاسته، ومن ناحية أخرى كانت أخطاء قيادة الجماعة هي السبب الأساسي وراء هذا الرفض العام على المستوى الشعبي لاستمرارهم في الحكم وكانت 30 يونيو هي القشة التي قصمت ظهرهم وأقصتهم من الحياة السياسية في المدى القريب والمتوسط على الأقل.

ولكن البادي من سلوكياته قبل الرئاسة وأثنائها وحتى بعد عزله أن شخصيته الضعيفة ساعدت كثيرًا على التحجيم المزدوج لدوره، من الدولة ومن الجماعة التي لم يكن هو المرشح الأساسي لها، وكان مرشحها الأصيل هو المهندس خيرت الشاطر الرجل القوي والأكثر تأثيرًا في قيادة الجماعة.

هذا الضعف البادي في شخصية الرئيس مرسي ساهم كذلك في أن يكون الحكم الحقيقي في يد قيادة الإخوان من خلف ستار، وكان هذا هو الخطأ الذي يقال عليه في أمثالنا الشعبية “غلطة الشاطر بألف”.

وللحديث بقية..