دفع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية للعام الثاني، الحكومة المصرية إلى الاستعانة بفريق يضم 350 خبيرًا بينهم مصريين وأجانب، بالاشتراك مع “مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار” بمجلس الوزراء، لوضع تصور كامل للسيناريوهات المختلفة للاقتصاد المصري خلال الـ 3 إلى 5 سنوات المقبلة.
جاء التحرك الحكومي المستحدث مع توقعات باستمرار الحرب لعامين أو 3 أعوام قادمة. ما تطلب وضع سيناريوهات واضحة جدًا للاقتصاد المصري لتفادي تفاقم الأزمة. ذلك في ظل الأعباء الكبيرة التي تلقيها الحرب على الموازنة العامة للدولة، تحديدًا ما يتعلق بأسعار القمح والنفط.
يقول الدكتور صلاح فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، إن التصريحات المتواترة من قادة الغرب حاليًا تشير لمساع إطالة أمد الحرب. ما يتطلب وضع خطط للتعامل مع تأثيرات الأزمة العنيفة على الاقتصاد المصري، وأهمها التضخم الكبير الذي طال غالبية السلع خاصة المنتجات الغذائية.
تقدير الخسائر
ورغم استمرار الحرب لمدة عام، لم تصدر الحكومة دراسة حديثة ترصد تأثيرات الحرب الروسية على الاقتصاد المحلي حتى الآن. وكان آخر تقديراتها الرسمية تعود لشهر مايو/ أيار 2022. حينما قدرت كلفتها بنحو 465 مليار جنيه، موزعة بين 130 مليارًا كتكلفة مباشرة، و335 مليارًا غير مباشرة.
وفي حين تتجسد الخسائر المباشرة في ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية كالقمح والذرة والوقود بجانب عائدات السياحة، فإن “غير المباشرة” تتمثل في زيادة الأجور والمعاشات والحماية الاجتماعية. ذلك بالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية، بحسب البيانات الحكومية.
يضيف فهمي، لـ”مصر 360″، أن تداعيات الحرب الروسية تظهر في تخفيض وزارة التخطيط توقعاتها لمعدل النمو مرتين متتاليتين من 5% إلى 4.7% ثم 4.3%. وكذلك تخفيض وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني للاقتصاد المصري وتغيير النظرة المستقبلية.
اقرأ أيضًا: ماذا يعني تخفيض “موديز” تصنيف مصر ائتمانيا؟.. خبير مالي: يضعها في مجموعة الدول عالية المخاطر
وكانت وكالة “موديز للتصنيف الائتماني”، خفضت تصنيف مصر السيادي درجة واحدة من (B2) إلى (B3)، مشيرة إلى تراجع احتياطياتها من النقد الأجنبي وقدرتها على امتصاص الصدمات الخارجية. كما غيرت نظرتها المستقبلية لمصر إلى مستقرة من سلبية.
يؤكد فهمي أن استمرار أمد الحرب الروسية يلقي بظلال ثقيلة على الاقتصاد المصري لتأثيراته على العملة الصعبة من جانبي ارتفاع تكاليف المنتجات المستوردة وغالبيتها سلع أساسية. فضلًا عن عبء سداد الالتزامات الخارجية مع تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار.
مدى التأثر
تعد مصر واحدة من أكثر دول العالم تأثرًا بالأزمة الروسية الأوكرانية. وهي تحتل المرتبة الأولى عالميًا في استيراد القمح، الذي تعتمد على 80% من وارداته من الدولتين المتحاربتين (روسيا وأكرانيا). كما كانت السياحة الوافدة من البلدين تشكل قبل الأزمة نحو 31% من إجمالي الوافدين.
وروسيا هي ثالث أكبر منتج للقمح بالعالم والأولى في التصدير، حيث تزرع 85.9 مليون طن. أما أوكرانيا فتحتل المرتبة الثامنة بمعدل 24.91 مليون طن عام 2020. ويستحوذ البلدان معًا على نحو 29% من صادرات القمح العالمية.
وسبق أن قدرت وزارة المالية العبء الإضافي جراء ارتفاع القمح والنفط على الموازنة العامة للدولة بقيمة 10.2 مليار دولار للعام المالي 2022/2023 موزعة بين 3 مليارات دولار إضافية لاستيراد القمح للعام المالي 2023/2022. بينما تقدر تكاليف استيراد النفط الإضافية بنحو 7.2 مليار دولار.
وتخطط مصر لاستيراد 5 ملايين طن من القمح للسنة المالية 2022-2023. وتدور أسعار القمح، عالميًا، حاليًا بين مستوى 320 و340 دولارًا. وتتعرض للتذبذب باستمرار مع تطورات الحرب وإمكانية تعليق اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود. وهو اتفاق بين روسيا وأوكرانيا وتركيا بقيادة الأمم المتحدة، وقع في الـ 22 يوليو/تموز 2022 بهدف عودة حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستوى ما قبل الحرب أي تصدير 5 ملايين طن متري شهريًا.
وأيضًا، ارتفعت أسعار الزيوت منذ الأزمة. فروسيا وأوكرانيا تنتجان معًا 77% من البذور الزيتية في العالم. وتمثل كييف وحدها نصف صادرات زيت عباد الشمس بالعالم. كما أنها المصدر الثالث لبذور اللفت. لذا فالحرب هناك انعكست على مصر التي تستورد ما يقرب من 97% من احتياجاتها من زيت الطعام لسد العجز بين الإنتاج والاستهلاك كأنواع زيوت النخيل والصويا ودوار الشمس.
وفي الأشهر العشرة الأولى من 2022، استوردت مصر زيوتًا بقيمة بلغت مليارًا و674 مليونًا و886 ألف دولار، وارتفعت أسعارها في السوق المحلية بالتزامن مع ارتفاعها عالميًا وتطبيق الدول المصدرة لزيوت النخيل هي الأخرى إجراءات حمائية لضبط الأسعار محليًا. وبلغ سعر زجاجة الزيت “800 مللي” نحو 65 جنيهًا للذرة، وعباد الشمس 60 جنيهًا “800 مللي”، في مقابل 38 جنيهًا و32 جنيها على الترتيب قبل الحرب.
من اللقمة حتى اللحمة
الارتفاعات القياسية في التضخم التي تشهدها مصر حاليًا مرتبطة أيضًا بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وإطالة أمدها واستمرارها، في ظل الاعتماد على الدولتين في صناعة مكونات الأعلاف المحلية خاصة الذرة الصفراء التي سجلت في السوق، حاليًا، مستوى 16 ألف جنيه للطن.
وبحسب تقرير صادر عن الحجر الزراعي التابع لوزارة الزراعة عن حجم واردات الذرة الصفراء خلال العام المنتهي 2022، تم استيراد 8.5 مليون طن من عدة مناشئ أبرزها أوكرانيا وروسيا، والبرازيل والأرجنتين وبلغاريا ورومانيا. وكانت أوكرانيا الأكثر تفضيلاً لمصر بسبب وصول شحناتها خلال أسبوع واحد من التعاقد ما يعني تكلفة شحن أقل وبالتالي تكلفة أقل لسعر الطن.
ومؤخرًا، استوردت مصر 60 ألف طن ذرة صفراء، مزمع وصولها مع مطلع مارس/ آذار القادم. ما يعني أن التوريد لا يزال قائمًا، لكن المشكلة في الأسعار التي ارتفعت منذ الحرب، وتشكل عبئًا على الصناعة المحلية. خاصة مع توقعات لغرفة الصناعات الغذائية بمصر بصعود أسعار الذرة الصفراء عالميًا لشهر مارس/ آذار 2023 بعد ارتفاعها على أساس سنوي بنسبة 17%.
ومع الارتفاعات الكبيرة في أسعار العلف تضررت جميع مصادر البروتين الحيواني بمصر -أو “الزفر” كما يسميه المصريون في ثقافتهم الشعبية- حتى ارتفعت أسعار الدواجن لمستوى 75-85 جنيهًا للكيلو وتجاوزت اللحوم ببعض المناطق حاجز الـ 250 جنيهًا. فيما صعدت أسماك المزارع التي تعتمد على العلف المستورد أيضًا، لمستوى 65 جنيهًا لكيلو البلطي (أقل أنواع الأسماك سعرًا) جنيهًا للكيلو حسب المنطقة.
أزمة الأموال الساخنة
مع اشتعال الحرب وارتفاع التضخم عالميًا، تسابقت البنوك المركزية على رفع الفائدة وفي مقدمتها “الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي، لتخرج من مصر 22 مليار دولار “أموال ساخنة” في فترة قصيرة، ويدخل الجنيه، دائرة من التخفيضات، حتى وصل لمستوى 30 جنيهًا للدولار الواحد.
وتسببت الأزمة الروسية في زيادة عجز الموازنة العامة للدولة مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة واضطرت الحكومة لرفع الأجور بداية من شهر إبريل/ نيسان 2022. ذلك علاوة على ارتفاع العجز في الميزان التجاري نتيجة للالتزامات بالعملة الأجنبية الناتجة عن زيادة الغذاء والطاقة.
تسبب خروج الأموال الساخنة في تراجع الاحتياطي النقدي من مستوى 40 مليار دولار، ليصل بنهاية يناير/ كانون الثاني إلى 34.2 مليار دولار. وشهدت مصر نقصًا في العملة الصعبة وانخفاضًا في قيمة الجنيه لترفع معها السلع المستوردة. خاصة وجبات الفقراء. إذ سجلت أسعار الفول والعدس ارتفاعا بنسبة 52.2% و100% على الترتيب.
وسجل العجز في الميزان التجاري غير البترولي 9 مليارات دولار في الربع الأول من العام المالي (يوليوـ سبتمبر) بينما سجل الميزان التجاري البترولي عجزًا عند 106 ملايين دولار. نظرًا لانخفاض الصادرات من كل من البترول الخام بنحو 449.9 مليون دولار والمنتجات البترولية بمقدار 393.3 مليون دولار. وكذلك ارتفاع الواردات البترولية بمقدار 812.2 مليون دولار.
كما ارتفع العجز في ميزان دخل الاستثمار ، خلال الربع الأول من 2022 ــــ 2023، بمعدل 16.8% ليسجل نحو 4.5 مليار دولار مقابل نحو 3.9 مليار دولار، كمحصلة لارتفاع مدفوعات دخل الاستثمار بمقدار 815.4 مليون دولار لتسجل نحو 4.8 مليار دولار مقابل نحو 4 ملیارات دولار، انعكاسًا لارتفاع كل من الأرباح المحققة للاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، والفوائد المدفوعة من الدين الخارجي.
المتضرر الأول
بحسب دراسة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، انخفض دخل قرابة 20% من الأسر المصرية بعد الحرب الروسية الأوكرانية بينها نحو 60% بسبب تعطل عائلها عن العمل، بينما عانت 37.7% من أسر الريف من عدم كفاية الدخل لمواجهة الاحتياجات مقابل 35.8% بالحضر.
يقول الدكتور عمرو عدلي، الخبير الاقتصادي والباحث بمعهد كارنيجي، إن الحرب أثرت على غالبية دول شمال إفريقيا لأنها كثيفة السكان وتعتمد على المواد الغذائية المستوردة من روسيا وأوكرانيا خصوصًا الحبوب والزيوت، ما أثر على الأسعار أولًا ثم أثر على الإمدادات.
وتزيد مشكلة عدم كفاية الدخل كلما ارتفع عدد أفراد الأسرة. فأقل نسبة لعدم كفاية الدخل بلغت 31.9% للأسر التي يتراوح حجمها من فردين أو ثلاثة. وارتفعت إلى 51.9% للأسر التي عدد أفرادها 6 أفراد فأكثر. لكن المشكلة الأخطر كانت في الاقتراض فـ 95% من الأسر التي لم يكف دخلها للوفاء باحتياجاتها، اعتمدت على الاقتراض.
وبحسب عدلي، فإن الضغوط المجتمعية والاقتصادية تُجسد معدلات تضخم بالغة الارتفاع بمصر تقترب مما كانت عليه في 2017 وأيضًا تلامس ما كانت عليه خلال فترة الثمانينات وهي أعلى فترة سجلت فيها مصر تضخم حيث كان المعدل الرسمي يتجاوز 30%.
يضيف الخبير الاقتصادي أن التضخم يعني انخفاضا في القدرة الشرائية وكذلك الدخول الحقيقية، وبالتالي القاعدة العريضة من المصريين متأثرة بشدة خاصة أن جزءًا كبيرا منهم بما يصل إلى ثلث الأسر تقريباً تنفق ما يزيد عن 50% من دخولها على المواد الأساسية فقط.
وتشير دراسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلى أن 99.2% كانت المشكلة الأساسية لهم في ارتفاع الأسعار وليس توافر السلع إذ اشتكي 2.2% فقط من عدم توافر بعض السلع الغذائية واحتكار التجار لها.
ويُستشف من دراسة الجهاز، أن الموظفين وذوي الدخول الثابتة الأكثر تضررًا من الأزمة فأرباب الأسر الحاصلين على تعليم جامعي هم أكثر الفئات التي تغيرت حالتهم. ما يعني أن أصحاب التعليم المتوسط أو غير المتعلمين وهي فئة الحرفيين قادرون على رفع قيمة خدماتهم والتواكب مع زيادة الأسعار.