أصدر وزير التربية والتعليم، الدكتور رضا حجازي، مؤخرًا كتابًا دوريًا، يشمل توجهات تختص بالحفاظ على الهوية الوطنية. إذ أشار الوزير خلال مؤتمر صحفي إلى أن الوزارة تسعى لتعزيز الولاء والانتماء والحفاظ على الهوية، تتولى في إطار ذلك متابعة امتحان مادتي اللغة العربية والتربية الوطنية، سيضعهما الموجهين بالإدارات التعليمية.
شدد الوزير أيضًا على ضرورة ممارسة الاحتفالات الوطنية والأعياد الدينية، والالتزام بتحية العلم المصري في المدارس الدولية، ما يعزز روح الانتماء.
تاريخيًا، سعت الحركة الوطنية في صراعها مع الاستعمار البريطاني، للتأكيد على الهوية.
كان حزب الوفد الذي شغل موقع قيادة الحركة الوطنية يرفع شعار “مصر للمصريين والدين لله”. وظل الجدل قائمًا حول مفهوم ومحددات الهوية الوطنية، بما فيه من تأثر السياسات التعليمية والعولمة والتعددية الثقافية على تشكل الهوية الوطنية.
محددات الهوية
تنبع الهوية الوطنية من إحساس الشخص بالانتماء إلى الدولة التي يعيش فيها. كما تعني تماسك الأمة ككل، ممثلة بالتقاليد، والثقافة، واللغة. وتشير أيضًا إلى الشعور الذاتي الذي يتقاسمه الشخص مع مجموعة من الناس حول الأمة. ذلك بغض النظر عن حالة المواطنة القانونية. بينما ينظر اليها نفسيا على كونها “وعي بالاختلاف”، و”شعور واعتراف بـ “نحن وهم”.
وتشير الهوية السياسية المتماسكة إلى وجود تشكيل اجتماعي مهيمن أو مؤسسات حكومية شاملة على نطاق واسع تتمتع بقدره كبيرة على وضع وتنفيذ السياسة العامة.
هذا، وكانت قضية الهوية السياسية في العالم “العربي” مغلقة لفترة حديثة. فبالنسبة للكثيرين، محاولات إعادة فتح النقاش حول قضية الهوية ترتقي إلى بدعة تتصل في بعض الأحيان تنفيذ أجندات خارجية.
ويعكس هذا الرفض لنقاش موضوع الهوية إلى مصالح معظم النخب العربية الحاكمة، التي تعمل الهوية الوطنية المزعومة والمتجانسة والموحدة بالنسبة لها، على تفادي الحاجة إلى التعددية السياسية.
الهوية الوطنية وسياسات التعليم
لا يمكن التأكيد على أن قرار وزير التربية والتعليم سيكون له الأثر العميق في التأكيد على الهوية الوطنية والانتماء.
كان للعولمة تأثير سلبي على دور اللغة العربية والنظام التعليمي، وأحد العوامل التي ساهمت في عولمة النظام التعليمي هو الافتقار إلى وحدة النظم ووضوح فلسفة المناهج التعليمية.
ونتيجة لذلك، وبسبب حقيقة أن اللغة الإنجليزية أصبحت لغة عالمية (Barakat & Brooks، 2016)، انتشرت المدارس الأمريكية والخاصة على نطاق واسع في جميع أنحاء مصر. ويتغذى نمو وسيطرة اللغة الإنجليزية على المزايا التي تقدمها للمتحدثين بها، وقد وصلت إلى مكانة عالية في أكثر من خمسة وسبعين دولة.
توسع المدارس الخاصة
يمكن تعريف المدارس الخاصة على أنها نظام مدرسي أجنبي يختلف عن النظام المطبق في المدارس الحكومية (Barakat & Brooks ، 2016)، وتتميز بالرواتب التنافسية للغاية للمعلمين (Scott 2007، Barakat & Brooks 2016).
ووفقًا لوزارة التربية والتعليم المصرية عن العام الدراسي 2021-2022، بلغ عدد المدارس الحكومية 49067 مدرسة والمدارس الخاصة 9740 مدرسة
وكان عرض التطورات التكنولوجية بطريقة تصور الثقافة الغربية على أنها متفوقة على الثقافة الوطنية فرصة للمدارس الخاصة للتوسع والانتشار. وساهم ذلك في تراجع دور اللغة العربية لحساب اللغة الإنجليزية. كما نجحت المدارس الدولية في تنفيذ هدفها الثابت المشترك. وهو تقديم أسلوب تعليمي أمريكي عالي الجودة.
الهوية والتعددية الثقافية
تحتفي التعددية الثقافية بالتنوع، وتسعى إلى تعزيزه. على سبيل المثال: تشجيع لغات الأقليات. وهي تركِّز في الوقت ذاته على العلاقة غير المتكافئة بين الأقلية والثقافات السائدة أو ثقافة الأغلبية.
ويؤكد الدستور في مادته (50) على تراث مصر الحضاري والثقافي بجميع تنوعاته. ويلزم الدستور الدولة بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية. كما نصت المادة (47) على الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة.
وتؤكد الهوية الوطنية على القواسم المشتركة والوحدة. لكنها عادة تعمل لمصلحة الأغلبية المهيمنة. فالتعددية الثقافية معنية بحقوق الأقليات. لذا ظهرت بعض الشائعات تتمثل في أن التعددية الثقافية تكسر الهوية الوطنية، وتقوض الثقة المتبادلة والشعور بالتضامن اللازمين للمواطنين لدعم التدابير الجماعية (مثل مطالب الأقليات النوبية والأمازيغية بحماية اللغة وفقًا للدستور). لكنها تسبب الاستياء بين الأغلبية الثقافية من مطالبات الأقلية.
اقرأ أيضًا: الهوية المصرية.. المحروسة تهمل جذورها الفرعونية والإفريقية من أجل “العروبة”
ويتميز القرن العشرون، والألفية الجديدة، بازدهار عدد لا حصر له من الحركات الاجتماعية والحملات الدعائية التي أثرت بشكل عميق في الثقافة السياسية والمدنية، تلاقت خلالها الحركة النسائية والحملات المعنية بتغيير أوضاع الأقليات الجنسية وحماية البيئية .
على سبيل المثال- مع اتجاهَيْ مناهضة العنصرية والتعددية الثقافية لتشكيل ما سماه نقادها على وجه التحديد فترة “سياسات الهوية”، ورُفِعَت مطالب الاعتراف الثقافي، التي قد تكون أتَمَّت الكفاح اليساري والليبرالي السابق من أجل إعادة توزيع الثروة، أو تجاوزته واستنزفت طاقاته، حسب وجهات النظر المختلفة لكلا منهما.
لذا، فالدعوات التي ظهرت مؤخرًا من أجل “هوية وطنية متعددة الثقافات”، تشير إلى الحاجة إلى مزيد من الفروق الدقيقة حول هذه العلاقة، فإن القومية والتعددية الثقافية ليسا متعارضين، وفي الواقع، فإن التعددية هي إعادة بناء للمصطلحات الرمزية للوحدة الاجتماعية للقومية.
وتستلزم التعددية الثقافية شكلًا من أشكال الانتماء الوطني الذي يجعل الاختلاف الثقافي جزءًا أساسيًا من الوحدة الوطنية. ما يفتح إمكانات لمجتمع سياسي متنوع، والمفتاح لفهم هذا هو التمييز بين التقييمات العامة والخاصة للتنوع داخل التعددية الثقافية.
فليس مقبولًا أيضًا أن ننحاز لثقافة معينة تعود إلى مرجعية معينة دون الاكتراث بالروافد الأخرى الموجودة في المجتمع، لأن عدم الإيمان بذلك قد يؤدي حتما إلى صراع ثقافي، ولا يقود إلى حوار ثقافي يأخذ في حسبانه التعددية الثقافية، واحترام الآخر أيا كانت ثقافته!
من المؤكد أن هناك عنصر من الحقيقة في تهمة “تمزق الهوية الوطنية”. ولكن يظهر هذا في رد الفعل العنيف ضد التعددية الثقافية في الآونة الأخيرة. وسياسات التعددية الثقافية تعني أن مؤسسات الدولة يجب أن تخدم جميع المواطنين وليس فقط أولئك الذين ينتمون إلى الأغلبية الثقافية.
الانتماء بين الهوية الوطنية والعولمة
رأى البعض أن العولمة تؤدي إلى تدهور الهوية الوطنية، بينما يؤكد آخرون أنها تعزز الهوية الوطنية، وهي تشير إلى الهوية الجماعية المتجذرة في الرموز والذكريات والقيم الماضية المرتبطة بمنطقة معينة، وتميز نفسها عن الدول الأخرى والمشاريع المستقبلية (Gubernia، 2001).
على جانب آخر، تسببت هيمنة اللغة الإنجليزية على الإنترنت في ذعر شديد بشأن تهديد محتمل للغات والثقافات المحلية، حيث أن التطورات التكنولوجيا مع الألفية الجديدة تستخدم اللغة الإنجليزية (لغة الأغلبية) على تطبيقاتها ومنصاتها. وهذا أثر على غير الناطقين باللغة الإنجليزية، من حيث انخفاض الطلب عليهم، حيث يُنظر إليهم كعمال ذوي مهارات متدنية.
على العكس من ذلك، هناك طلب كبير على المتحدثين باللغة الإنجليزية ولديهم المزيد من فرص العمل والتسهيلات في الخارج. خاصة مع فرص السفر والعمل. وربما سيتأثر انتماء الخريجين المتحدثين باللغة الإنجليزية نتيجة للتحول الهائل في معدلات التوظيف إلى الشركات العالمية العابرة للدول.
في المجتمع المصري، يدور الجدل حول أن اللغة الإنجليزية هي العنصر الأساسي المهيمن. ما جعل الأمر أكثر إثارة للاهتمام بين الشباب بثقافات “الدول الغربية”. وبالتالي، حدث تكييف مع بعض تقاليد الغرب.
يرى البعض أن تراجع دور اللغة العربية وانتشار الهوية الغربية بين الشباب المصري هو نتيجة لتأثير العولمة. وهو ما يشكل تهديدًا لمفهوم “الهوية” بشكل عام و”الهوية المصرية” بشكل خاص.
الهوية الوطنية والديمقراطية
كان هناك ميل عارم لتقديم الثقافة العربية على أنها الثقافة الأساسية داخل مصر. لذا فإن مفهوم “الثقافة ” كتفسير لطبيعة السياسة. ومع فشل التحول الديمقراطي، اكتسبت “سمعة سيئة” في ضوء الطريقة التي تم بها استخدام المفاهيم المرتبطة بالديمقراطية، مثل الحرية، وفصل الدين عن الدولة، التنوع الثقافي والجندري، والتي غير معروفة داخل الإسلام والتقاليد السياسية العربية.
وتتحدد الهيمنة بنوع آليات الموافقة والإكراه المستخدمة، والتي تنتج من خلال البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولطالما كانت الثقافة هي إحدى وسائل بناء العلاقات الاجتماعية التي تدعم التسلسل الهرمي للسلطة -بين الدولة والمجتمع المدني. لذا فالثقافة العربية/ الإسلامية توفر تسلسلات هرمية للسلطة وترسيخ البنية التحتية للحفاظ على الاستبداد ومنع التحول الديمقراطي.
وتمارس الطبقة المهيمنة السلطة تاريخيًا من خلال آليات الإكراه، مثل المؤسسات الأمنية والقوانين، أومن خلال الموافقة المدعومة بالإكراه وأيضًا من خلال مجموعات مجموعات رجال الدين أو النقابات العمالية الحكومية وأيضا نظام التعليم .
كما أن المجتمع المدني (الموالي للسلطة) يمثل ساحة للإنتاج الأخلاقي والثقافي، تلعب دورًا هامًا في تدجين هيمنة السلطة، لأنها تؤثر على الأفراد العادين، قلوبهم وعقولهم، وتنجح في أن تظهر لهم أن الهيمنة في مصلحة غالبية المجتمع.
وحتى نصل إلى إشراك المجتمع بالكامل في مشاريع تعزز من التفاعل دون إضاعة الهوية الشخصية أو الجماعية، يجب تعزيز دور النساء في الحوار حول الهوية، لأن المرأة في الأغلب حاملة للقيم، والأنماط السلوكية.
كذلك يجب الاعتراف بالمساواة بين كل المواطنين. بما لديهم من أشكال متعددة من المعرفة، وباختلاف لغاتهم، وما يحملونه من عادات وتقاليد خاصة بهم. وأن يستوعب النظام التعليمي الاختلاف العرقي والديني. هذا بالإضافة إلى بناء نهج التعددية الثقافية التي تتمتع بها الدولة في إنتاج هوية وطنية يمكن أن تؤدي بسلاسة إلى التحول الديمقراطي داخل الحكم.