لم يكن الوضع الاقتصادي قبيل حركة الجيش في 23 يوليو 1952، أفضل من أي وضع عاشه الشعب المصري خلال القرن الماضي. وكل ما يقال حول الرفاهية التي كان يعيشها المجتمع في فترة الملكية، هي محض مكايدة سياسية في أنظمة الحكم المتعاقبة.
استخدم ضباط يوليو الفروق الطبقية الواضحة بين الملاك وعموم الشعب من عمال وفلاحين، كوقود لدعم حركتهم الثورية حينئذ، ورغم قلة الأدوات الاعلامية. إلا أن صورة البشوات والبهوات في قصورهم المنيفة، وسط الأشجار، والسيارات الفارهة والمجوهرات، نفذت إلى الوعي الجمعي، للفقراء والمعدمين، وجعلتهم أعمدة بنيت عليها الشعبية الجارفة لجمال عبد الناصر بعد ذلك.
كان لدى ناصر مشروع محدد يخص تذويب الفوارق بين الطبقات، وهامش للترقي الاجتماعي، عبر التعليم والسلم الوظيفي، ولم يخل قطعًا من بعض المحسوبية للمقربين من السلطة، وعائلات الضباط، وعدد من الرأسماليين ممن وفقوا أوضاعهم لخدمة نظام الحكم الجديد. ثم تلقى النظام ضربة قاصمة في حرب 1967، وما نتج عنها من توجيه لموارد الدولة لصالح المجهود الحربي.
بذل السادات جهودًا متواصلة لتحويل دفة الاقتصاد القائم على القطاع العام وملكية الدولة، مستغلًا الرصيد الشعبي بعد فوز الجيش المصري في معركة تحرير سيناء، واصطدمت محاولاته بالجماهير في يناير 1977، لتتراجع شعبيته بشكل كبير فيما بعد.
استكمل مبارك ما بدأه السادات، ولكن بحذر شديد من خطورة الغضب الجماهيري، وتحول النظام الاقتصادي تدريجيا، من ملكية الدولة وحتى السيطرة الكاملة لرجال الأعمال، عبر إهمال متراكم للقطاع العام، ودعم مستمر للقطاع الخاص، وانتهاء بمشروع الخصخصة.
خلال السنوات العشر الماضية، أعاد النظام محاولة بناء “رأسمالية الدولة”، التي سبق وأسسها ناصر عبر القطاع العام. سمح النظام الجديد لمؤسسات الدولة بتأسيس شركات ومصانع وفنادق، ومنحهم حق التربح من تلك المشروعات.
وبالإضافة إلى امتيازات الإعفاءات الضريبية والجمركية، تم تقديم عشرات ومئات الأعمال بالأمر المباشر لتلك الشركات، واستخدمت الدولة مليارات الدولارات التي حصلت عليها نتيجة منح وقروض، لتوسيع قاعدة شركات الدولة في الاقتصاد بشكل أفقي، عبر تنويع الاستثمارات في كافة المجالات، ورأسيا بتضخيم أصولها وأرباحها.
يرفض العديد من الاقتصاديين وصف تجربة جمال عبد الناصر بالاشتراكية، ويستبدلون بها مصطلح “رأسمالية الدولة”. وهو تحديدًا ما حاول النظام الحالي صناعته.
تحرر النظام الجديد من تركة القطاع العام، وكل ما يقيد عملها من إجراءات وقوانين، وصنع قطاعًا جديدًا يستفيد بامتيازات القطاع العام، من تسهيلات وإعفاءات، وامتيازات القطاع الخاص، من عقود عمل مؤقتة وحرية التسعير، وصلاحيات غير محدودة للإدارة، مع غياب كامل لرقابة أجهزة الدولة المعنية.
منحت تلك الشبكة من الشركات النظام حلولًا لمشكلات الأسعار، واحتكار كبار التجار للسلع، ودرجة من التحكم في المعروض بالأسواق. وهو ما تم استخدامه عبر منافذ توزيع، لتوفير السلع الغذائية للمواطنين في أوقات زيادة الطلب.
رغم ما يحمله تصور النظام الجديد لدور الدولة في الاقتصاد من قصور. إلا أن التناقضات التي ظهرت بعد تنفيذ ذلك التصور هي الأخطر حاليًا.
لم يقدم النظام الحالي مشروعًا اقتصاديًا محددًا، ولم تظهر لنا ورقة واحدة توضح ما ينتوي النظام عمله. كل ما نملكه هو مجرد تحليل -تخمين بمعنى أدق- للخطوات التي اتخذها النظام، وبعض التصريحات على لسان المسئولين.
وبسبب غياب المشروع، سقطت تجربة النظام في فخ الديون، ووقعت الدولة أسيرة لصندوق النقد الدولي، باعتباره وكيلًا للدائنين وضامنًا لقدرة الدولة على سداد التزاماتها.
اشترط الصندوق خلال مفاوضات القرض الأخير، أن تتخارج الدولة من أغلب قطاعات الاقتصاد، وأن يتم طرح الشركات المملوكة للدولة للبيع، وأن تتوقف كافة الامتيازات التي تحصل عليها، وأن تفصح عن تقاريرها المالية.
لا يعلم أحد الهدف مما جرى خلال السنوات الماضية من توسع في الاقتصاد الحكومي، وما إذا كانت الدولة تخطط منذ البدء لإعادة بيع الشركات التي أسستها، أم أن ما يحدث حاليًا هو مطالب الدائنين والدولة مرغمة على تنفيذها.
ولكن ما نعلمه جيدًا، أن نموذج النظام الجديد للاقتصاد انتهى، وأننا سنعود إلى ما قبل 2011، عبر برامج واسعة للخصخصة ومساحات أكبر لرجال الأعمال.
التضخم ونقص العملة الأجنبية ليسا سوى أعراض للأزمة الاقتصادية الحالية، ولكن لب الأزمة في عجلة الاقتصاد الحكومي التي لا تزال عالقًا بها مئات المشروعات والشركات، وقدرة النظام على إعادة الزمن للوراء وجذب المستثمرين ورجال الأعمال، بالتزامن مع تخلي الدولة عن المساحات التي شغلتها في السوق.
مائة عام قضيناها في محاولة اختراع نظام اقتصادي، يتوافق مع شكل الحكم، قرن من الزمان نجتهد لتطويع الاقتصاد ليكون أداة لتثبيت وضع الحكام، بينما يمضي العالم في طريقه، تتقدم الدول وتتطور الأنظمة، تنجح وتفشل، ولكنها في النهاية على الطريق، بينما نحن لازلنا نبحث عن شكل اقتصادي، لا يحمل الدولة أي مسئوليات تجاه المواطنين، ويمنحها كل الصلاحيات.
لن نعرف أبدا تكلفة الطريق الذي سلكناه خلال القرن الماضي، ولن يخبرنا أحد بتكلفة العودة، ولكن الأكيد أننا نسدد تلك التكاليف مضافة إليها الفوائد والأرباح.