في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وبينما كان عادل “حاتم*” متجهًا إلى عمله في منطقة وسط البلد، صادفه كمينًا شُرطيًا. طلب منه الضابط هاتفه المحمول فمنحه إياه دون غضاضة إذ لم يكن يكتب على حسابه في موقع “فيسبوك” أي منشورات سياسية، حسبما يقول. لكن الضابط الذي كتب عدة كلمات في محرك البحث الخاص بحساب عادل سرعان ما وجد عدة منشورات تعود إلى نحو 10 سنوات مضت، وفيها يعبّر الشاب عن امتعاضه من الحكم العسكري.
حاول “عادل”، الذي تخطى الثلاثين من عمره، إقناع الضابط أن هذه المنشورات كانت قبل سنوات عديدة وأنه كان حينها صغيرًا، وأنه لم يعد يهتم بالشأن العام. لكن الضابط صمم على استدعاء قوة شُرطية تتمركز بالقرب من ميدان تحرير للتحقيق معه.
يقول الشاب لـ”مصر 360” إن تلك الساعات الخمس التي قضاها رفقة آخرين للتحقيق معه، في أحد الممرات الجانبية للميدان، كانت “أسوأ ساعات حياتي، مكنش في دماغي غير أمي وإزاي هتعيش من غيري بعد ما أبويا اتوفى، وإزاي مستقبلي هيتدمر وهخسر شغلي عشان حاجة مليش ذنب فيها”.
لكن الضابط المسئول والذي فتح هاتفه دون أن يطلب منه كلمة السر الخاصة، كما يشير عادل، اقتنع في النهاية بحديثه عن أن هذه المنشورات كانت منذ زمن مضى وأنه لم يعد مهتمًا على الإطلاق بما يحدث في البلد. سمح له الضابط في النهاية بالرحيل، ولكن أخبره بأن “ينظف” هاتفه وألا يفكر في كتابة أي شيء مجددًا. ومنذ ذلك الحين وعادل يفرض على نفسه رقابة ذاتية يتجنب فيها حتى الإعجاب بأي منشور سياسي.
كان عادل أفضل حالًا من مئات المواطنين الذين ألقي القبض عليهم خلال الأشهر الماضية نتيجة “التفتيش العشوائي” لهواتفهم قسرًا. وهي عملية سبق أن وصفها المجلس القومي لحقوق الإنسان بأنها مخالفة لنصوص الدستور الذي يضفي حماية على حرمة الحياة الخاصة وتحصين مراسلات المواطنين واتصالاتهم.
إغلاق نوافذ التعبير الإلكتروني
ناهيك عن التفتيش العشوائي للهواتف، وهو أسلوب مُتبع منذ أعوام، شنت السلطات الأمنية حملة ممنهجة خلال الأسابيع الأخيرة تستهدف الأفراد الذي يعبرون عن سخطهم من الغلاء والتضخم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بل وامتدت إلى بعض “المؤثرين” ممن تحظى المواد التي ينشرونها بمتابعات عالية، رغم عدم تعبيرهم عن أي رسائل سياسية.
وصفت صحيفة “وول ستريت جورنال” تلك الحملة القمعية على مواقع التواصل بأنها “في إطار حملة أوسع على حرية الرأي والتعبير بالتزامن مع أزمة اقتصادية تواجه مصر في الوقت الحالي”.
في الرابع عشر من الشهر الجاري، ألقت قوات الأمن القبض على مواطن يُدعى “محمد الفتلة”، من قرية شطا بدمياط، بعد نشره مقطع فيديو ساخر، يُعلن فيه عن فتح محل جزارة لبيع اللحوم بالتقسيط، في إشارة إلى ارتفاع أسعار اللحوم التي تجاوز سعر الكيلو منها 250 جنيهًا، إثر ارتفاع أسعار الأعلاف في ظل أزمة الاستيراد، بعدما كان سعره 150 جنيهًا في نفس الشهر من العام الماضي.
في نفس الفترة، تم تجديد حبس الشاعر الغنائي محمد فريد 15 يومًا على ذمة اتهامه بعدد من الاتهامات منها “نشر أخبار كاذبة”، و”التحريض على العنف”، بسبب 12 منشورًا على حسابه في “فيسبوك” عن الغلاء بحسب محاميه.
اقرأ أيضًا: الرأي العام من الاستقطاب إلى التوحيد
وهي ذات التهمة التي واجهها الفنان التشكيلي، أمير عبد الغني، في سبتمبر/أيلول الماضي على خلفية عدة منشورات شاركها على “فيسبوك” تعود لأعوام سابقة حول ارتفاع الأسعار، قبل أن يُطلق سراحه الشهر الماضي.
وفي مطلع الشهر الجاري، قبضت نيابة أمن الدولة العليا، على أربعة أشخاص من “صناع المحتوى” بتهمة “الانضمام لجماعة إرهابية وتمويلها، وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ونشر أخبار كاذبة”، على خلفية نشرهم فيديو ساخر جسدوا فيه فتاة تزور خطيبها المحبوس بأحد أماكن الاحتجاز، دون أن يشمل الفيديو أي رسائل سياسية.
وانضم إليهم صانع المحتوى المعروف باسم “بيبو دامبل”، بعد اتهامه بنشر فيديوهات تسخر من جهات الدولة، إثر ارتدائه ملابس مشابهة لملابس القوات المسلحة في مقطع تمثيلي. وهو اتهام مشابه وجه لأربعة أشخاص -في أغسطس/آب الماضي- أدوا مشهد تمثيلي لرجال شرطة يستوقفون سيارة بداخلها شاب وفتاة.
“في الوقت الذي تواجه البلاد أزمة اقتصادية خانقة، وتتزايد الضغوط على الحكومة، يقول ناشطو حقوق الإنسان إن النظام يريد إجبار المصريين ممن لديهم حضور واسع على وسائل التواصل، على الالتزام بخطّ الحكومة”، تقول “وول ستريت جورنال”.
محاولات السيطرة على السلوك
بدأ الناس العاديون وحتى بعض المسئولين بالتساؤل عن طرق إدارة الدولة للاقتصاد، والتي أدت لمفاقمة معدلات التضخم العالية أصلًا، والتي تخطت 21.5% بحسب الأرقام الرسمية. وتركت أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية العالية، المصريين في حالة من الكفاح اليومي لتأمين المواد الأساسية مثل الخبز واللحم.
ونقلت الصحيفة عن حسام بهجت، المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قوله: “هناك غضب واضح، والناس يلومون السيسي على إدارة الاقتصاد، لأول مرة منذ تسعة أعوام”. وأضاف “تشعر السلطات بالعصبية وتحاول السيطرة على السلوك”.
محاولات السيطرة على السلوك تبدت في حبس 58 مواطنًا من محافظات متفرقة، في الشهر الماضي فقط بسبب فيديوهات على تطبيق “تيك توك” عن الغلاء وارتفاع الأسعار، بحسب المحامي الحقوقي محمد أحمد.
ويعد ذلك امتدادًا لحملة مبكرة منذ عام 2020 شنتها السلطات على مستخدمي التطبيق مع ازدياد أعداد مستخدميه، وتنامي نشر محتوى سياسي مناهض للسياسات الحكومية، بحسب مؤسسة “حرية الفكر والتعبير” التي تُرجع ذلك إلى ربط المحتوى المنشور ما بين الفضاء العام الواقعي والفضاء الإلكتروني.
وشملت هذه الحملة أشخاص دعوا إلى فعالية اشتهرت بـ”باتمان حلون” في صيف العام الماضي، وتدعو إلى ارتداء زيًّا تنكريًّا لشخصية باتمان الشهيرة، والتجمع أمام مترو الأنفاق في منطقة حلوان بمحافظة القاهرة. ولكن الأجهزة الأمنية رأت في ذلك خطرًا سياسيًا، مرتبط “بحرية استخدام المواطنين للشوارع وما ينتج منها من تجمعات جماهيرية”.
اقرأ أيضًا: “دام” يصدر ورقة بحثية جديدة.. مسار استراتيجية حقوق الإنسان بين الرؤيتين الرسمية والحقوقية
كما ألقي القبض على أشخاص نشروا أغانٍ ذات بُعد سياسي، أو اُتهموا بـ”ازدراء الدين الإسلامي” أو “الإخلال بالسلم الاجتماعي والقيم الأسرية” أو حتى “الحط من شأن مقدمي إذاعة القرآن الكريم”، وفقًا لما ذكرته “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية“.
وتضيف أن تلك الحملة كانت مقصورة في البداية على استهداف ناشراتِ المحتوى الراقص من الفتيات تحت دعاوى حماية الأخلاق وقيم ومبادئ المجتمع. وهو الأمر الذي لا يزال مستمرًّا حتى الآن ولكن بوتيرة أقل بكثير من العامين الماضيين. ولكن مع ازدياد استخدام المصريين لـ”تيك توك” في أشكال متعددة زادت الانتهاكات المرتبطة باستخدام التطبيق.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى المتضامنين مع أصدقائهم المعتقلين أو حتى الساخرين من مسلسل تلفزيوني.
طالب معتز حسب النبي بالحرية لصديقه عبد الرحمن طارق “موكا” في منشور يوليو/تموز 2021 فتم القبض عليه وإيداعه بنفس الزنزانة مع صديقه قبل أن يخرج “موكا” ويستمر حبس حسب النبي حتى الآن، بحسب ما تذكره صحيفة “واشنطن بوست“. كذلك يخضع نبيل أبو شيخة للاحتجاز منذ أبريل/نيسان 2022، بعدما سخر من الممثل ياسر جلال الذي أدى دور الرئيس السيسي في مسلسل “الاختيار 3”.
بنية تشريعية لتطويق التهديدات
خلال السنوات الماضية توجهت السلطات، تشريعيًا وتنفيذيًا وقضائيًا، إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات والانتهاكات جميعها متعلقة باستخدام الإنترنت في التعبير. والهدف منها محاولة تطويقه والحد من التهديدات السياسية الناتجة عنه، عن طريق توجيه المستخدمين إلى خلق رقابة ذاتية تُشكَّل بنوع من الخوف نابعٍ من التعرض لانتهاكات جسيمة.
تعددت وجوه تلك الانتهاكات، بحسب “حرية الفكر والتعبير“. فمن جهة تستهدف الأجهزة الأمنية نشطاء ومعارضين وحتى مواطنين عاديين على خلفية تدوينات على مواقع التواصل وبشكل عشوائي في أغلبية الوقائع. ومن جانب آخر تُقلل حجم المعلومات المتاحة خارج الرواية الرسمية بحجب مئات من المواقع الإلكترونية.
في عام 2014، أنشأت الحكومة المجلس الأعلى للأمن السيبراني، بما في ذلك لجنة مكلفة بمراقبة الفضاء الإلكتروني بحثًا عن أي رأي عام “منحرف” ومحتوى “إرهابي”. ونهاية 2018 تم إصدار الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني التي “سلطت الضوء على التهديدات الغامضة للإرهاب السيبراني والحرب الإلكترونية”، بتعبير “المجلس الأطلنطي“.
كما كثَّفت السلطة التشريعية ممثلةً في البرلمان إصدار عدد من التشريعات المتعلقة باستخدام الإنترنت والتعامل مع مستخدميه وعلى رأسها قانون جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 وقانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018.
وزادته خلال عام 2021 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 10 لسنة 1972 في شأن الفصل بغير الطريق التأديبي، وجميعها تضع قيودًا على استخدام الإنترنت ويجري استخدامها في استهداف الأفراد على خلفية سياسية.
يقول محامون ونشطاء حقوقيون إن السلطات تستخدم بشكل متزايد قانون مكافحة الإرهاب الذي صدر عام 2015، والذي يُعرّف الإرهاب على أنه أي شيء يتعارض مع المصلحة الوطنية والسلامة العامة، بهدف مطاردة أشكال التعبير المختلفة، بما فيها غير السياسية.
وجميع البنية التحتية للاتصالات في مصر تقريبًا مملوكة لشركة “المصرية للاتصالات”، ما يسهل قدرة السلطات على تعليق الوصول إلى الإنترنت أو تقليل السرعة. وفي 2019 أصدر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي المرسوم رقم 242، الذي وضع البنية التحتية للاتصالات تحت ملكية “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية”، التابع لوزارة الدفاع “مما يعزز سيطرة الدولة على الاتصالات”، بحسب مؤسسة “فريدوم هاوس” التي صنفت مصر عام 2022 في المركز 18 من أصل 100 دولة من حيث حرية التعبير على الإنترنت، متراجعةً 8 مراكز بعدما كانت في المركز 26 في عام 2021.
بالإضافة إلى ذلك وعقب تعيينه نائبًا عامًّا في سبتمبر/ أيلول 2019 نشط المستشار حمادة الصاوي في استهداف مستخدمي الإنترنت، وليس فقط على خلفية سياسية بل قاد حملة لاستهداف مستخدمين للإنترنت يقدمون محتوى ترى النيابة العامة أنه يهدد أخلاق الأسرة المصرية.
وتقول المؤسسة الحقوقية إن الهدف من كل تلك الإجراءات خلال السنوات الماضية هو “محاولة تعميم حدود رقابية لتقليل حجم المحتوى غير المرغوب فيه”. ورصدت، في عام 2022، 33 واقعة قبض على خلفية استخدام الإنترنت للتعبير عن الرأي.
وكانت أغرب تلك الوقائع وأكثرها شرحًا لما تريده السلطات من الإنترنت، هي واقعة القبض على الصيدلية إيزيس مصطفى والتي نشرت عبر حسابها عن تعرضها للضرب والتحرش من قبل بعض موظفي وموظفات الوحدة الصحية التي تعمل فيها بمحافظة الشرقية بسبب عدم ارتدائها الحجاب.
وبدلًا من أن يتم إجراء تحقيقات جادة في الواقعة التي نشرت عنها الصيدلية، فوجئ الجميع بالقبض عليها وعرضها على نيابة أمن الدولة العليا في أكتوبر/تشرين الأول 2021، قبل أن تأمر النيابة بحبسها 15 يومًا واتهمتها بالانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة.
من التأميم إلى التكميم
بعد أن نجحت السلطات في تأميم المجالات العامة التقليدية والإعلامية اتجهت إلى محاولة تأميم الفضاء الإلكتروني، خاصة تطبيقات التواصل الاجتماعي، إلا أنها اصطدمت بعدم قدرتها على استخدام أدواتها التقليدية في إنهاء الأمر وتأميم هذا الفضاء.
فهي لا تستطيع حجب مواقع التواصل الاجتماعي لسببين: الأول، هو انتشارها الكاسح حول العالم وخاصة في مصر وتأثيرها على عملية صناعة القرار. والثاني هو مدى ارتباط تلك المواقع اليوم بعالم الأعمال وتأثيرها في كثير من الاقتصاديات ما يجعل حجبها أمرًا بالغ التكلفة السياسية والاقتصادية.
المساحة الرقمية ظلت وبشكل نسبي من المساحات المتبقية للتعبير الحر، ولكنها ليست كذلك الآن. يقول حسام بهجت إن لدى السيسي إدراك شديد لقوة وسائل التواصل. فقد كان يشغل منصب مدير المخابرات العسكرية في عام 2011، عندما انتشرت الدعوات على منصات التواصل الاجتماعي للإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك، بما في ذلك عبر منصتَي “فيسبوك” و”تويتر”.
ومنذ توليه السلطة بشكل رسمي في عام 2014، دأب على التحذير مرارًا من مخاطر الإنترنت وما وصفه بـ “الحرب” من خلال استخدام وسائل الإعلام والاتصال المختلفة لإحداث حالة من عدم الاستقرار في المجتمع.
تشير منظمة “الديمقراطية الآن للعالم العربي” إلى أن الحكومة المصرية تسعى بشكل أساسي إلى نسخ نموذج الإنترنت الصيني وفرضه على المجتمع. إذ أن لها مصلحة في خلق نوع من “الإنترنت السيادي”، ولذلك “اتخذت أيضًا خطوات لوضع نظام للتحكم في الإنترنت على النمط الصيني”.
واستثمرت الصين بشكل متزايد في قطاع الاتصالات في مصر، حيث زودتها بتكنولوجيا مماثلة للتي تستخدمها بكين لإنشاء إنترنت بطريقة “الحديقة المسورة”. كما عُقدت العديد من الاجتماعات الثنائية مع المسئولين الصينيين لمناقشة كيفية إنشاء إنترنت “سيادي” أو مغلق في مصر. وفي 2020، تعاون “قسم البحث الفني” التابع للمخابرات العامة مع شركات صينية. بينما تزود عدة مصادر غربية قوات الأمن بتقنيات لحفظ الأمن ومراقبة السكان.
يلفت معهد “نيو لاينز“: “قد لا يكون مُجديًا، في حالة حدوث اضطرابات جماعية مستقبلية.. أن تحاول الدولة إدارة تصرفات السكان دون الاستخدام المكثف للأدوات التكنولوجية. من الناحية المثالية، من منظورها، ستحتفظ الحكومة المصرية بالسلطة دون الاضطرار إلى اللجوء إلى الاعتقالات الجماعية والسجن المطول والعنف، وستستبق التحديات المزعزعة لاستقرار الدولة من خلال تشكيل سلوك السكان كجزء من مشروع قومي مدعوم بالتكنولوجيا”.
تقلل الرقابة على الإنترنت من حالة عدم اليقين الحكومية من خلال الحد من فرصة الأفراد لانتقاد الحكومة والانخراط في عمل جماعي عبر الإنترنت. وبحسب “المجلس الأطلنطي” يوفر الأمن السيبراني وسيلة للحكومة المصرية “للتلاعب بعدم اليقين” لصالحها. وتستخدم هذه الممارسات والتقنيات لزيادة عدم اليقين حول ما هو مقبول وغير مقبول على الإنترنت.
*اسم مستعار