التقطت الكنيسة الإثيوبية أنفاسها بعد فاصل ليس بالقصير من أزمة انقسام داخلي، على خلفية الحرب الأهلية المنقضية قبل عدة أشهر بـ”إقليم تيجراي”. وهي أزمة تداخل فيها الديني بالسياسي، وشهدت حربًا كلامية، كادت تتطور إلى احتجاجات تؤثر على وحدة الداخل الإثيوبي. قبل أن يعود الهدوء النسبي إلى البيت الكنسي الإثيوبي، في أعقاب اتفاق جرى بين البطريرك “الأب متياس الأول” -رأس الكنيسة الإثيوبية والمنتمي إلى “تيجراي”- وكبير المنشقين الأنبا “ساويرس”-الذي نصب نفسه بطريركًا على إقليم “الأورومو” ورسّم 26 أسقفًا-، برعاية رئيس الوزراء آبي أحمد في 15 فبراير/ شباط الجاري.
الاتفاق بين الكنيسة والمنشقين جاء على خلفية دعوة الأب متياس لمظاهرات عارمة داخل، وخارج إثيوبيا حال عدم تدخل الحكومة الإثيوبية لحل الخلاف. غير أنه بدا اتفاقًا مشروطًا بعد مطالبة “الأنبا ساويرس” بإجراء الطقوس الدينية الكنسية بلغة “الأورومو”، واللغات الإثيوبية الأخرى، وعدم الاقتصار على اللغة “الأمهرية” فقط، وهي لغة دارجة إلى جانب التيجرية في “إقليم تيجراي”.
وحسب مقربين من المقر البابوي بـ”القاهرة”، فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بذلت جهودًا واسعة لاحتواء أزمة الانقسام الكنسي الإثيوبي، للحفاظ على وحدة الكنيسة. ورأت الكنيسة المصرية أن “الابنة الكبرى” لا يجب أن تترك وحدها في مهب رياح الانشقاق، حفاظًا على تقاليد الإيمان الكنسي، وتعاليمه.
قصة الانشقاق
يقول القمص سرجيوس سرجيوس وكيل البطريركية بالقاهرة، إن “الحركة الانفصالية التي جرت مطلع العام الحالي بالكنيسة الإثيوبية يمكن أن توصف بأنها (إغاظة) للبطريرك الإثيوبي الأب متياس الذي ينتمي لإقليم تيجراي، الذي شهد حربًا أهلية على مدار عامين”.
قاد عملية الانشقاق 3 أساقفة (الأنبا ساويرس، الأنبا أوستاثيوس، والمطران زينا مرقس) ينحدرون جميعًا من إقليم “الأومورو”، بحجة أن كنيسة التوحيد الإثيوبية -بقيادة الأنبا متياس- لا تعرف التنوع، وتؤثر سلبًا على لغة وثقافة شعبها، نظير إقامة طقوسها باللغة الأمهرية.
وفي الثاني والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، نصب الأنبا ساويرس- رئيس أساقفة جنوب غرب شوا، نفسه “بطريركًا”، ورسم بصحبة زميليه 26 أسقفًا آخرين، 17 منهم لـ”إيبارشيات إقليم أوروميا الذي يحيط بأديس أبابا. وهي المنطقة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في البلاد”، في مراسم أقيمت بكنيسة هارو بيل ولد.
الأمر الذي انتفض معه المجمع المقدس للكنيسة الإثيوبية برئاسة البطريرك “الأب متياس” في غضون أربعة أيام من تاريخ إعلان الانشقاق، وأصدر قرارًا بإلغاء سلطة الأساقفة الثلاثة، وتوصيف ما جرى على أنه “غير قانوني”، و”حدث عظيم استهدف الكنيسة”، مرجحًا فصل المنشقين عن الأنشطة الكنسية، وتسميتهم بأسمائهم العلمانية دون لقب كهنوتي.
لكن المجمع المقدس للكنيسة عاد، وترك الباب مفتوحًا، رغم إعلانه عقوبات كنسية مشددة. وأعلن أن “أبواب رحمة الكنيسة ستبقى مفتوحة لرؤساء الأساقفة الثلاثة إذا قرروا التوبة والاعتذار”.
تصاعدت حدة الانشقاقات على خلفية هجمات على إحدى كنائس مدينة شاشاميني بمنطقة “أوروميا”، التي تعد أكثر المناطق من حيث عدد السكان في إثيوبيا، بعد احتجاجات راح ضحيتها نحو 30 شخصًا.
وتعد الكنيسة الإثيوبية أكبر هيئة دينية في إثيوبيا، ويقدر عدد أتباعها بنحو 40 مليون شخص في البلاد. كما أنها تدعى الابنة الكبرى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمصر، وقد ارتبطت منذ تاريخها بالعائلة المالكة الإثيوبية، وكان لها دورًا بارزًا إبان فترة الإمبراطور هيلا سيلاسي، آخر أباطرة إثيوبيا.
تأسست الكنيسة الإثيوبية على يد “الملك عزانا” في القرن الرابع الميلادي. وقد تحول من الوثنية إلى المسيحية على يد الراهب الشهير “فرومنتيوس” الذي أصبح فيما بعد أول أسقف لإثيوبيا، ويعرف الآن باسم “القديس الأنبا سلامة”.
وانفصلت كنيسة التوحيد الإثيوبية عن نظيرتها “المصرية” عقب اتفاق توصلت إليه الكنيستان عام 1948، مهد بدوره لاستقلال الكنيسة الإثيوبية. ذلك بعد أن رسم البابا يوساب الثاني ( جلس على كرسي مار مرقس الرسول في الفترة من 1946 إلى 1956 خمسة أساقفة إثيوبيين جدد، تختار الكنيسة هناك من بينهم بطريركًا لـ”إثيوبيا” وفق الاتفاقية، وجرى الانفصال بعد أن أقام البابا “الأنبا باسيليوس” رئيسًا لأساقفة إثيوبيا عام 1951. وفي عام 1959 توج البابا كيرلس السادس نظيره “باسيليوس” الإثيوبي كأول بطريرك على الكنيسة الإثيوبية.
وقد ظلت الكنيسة التي ارتبطت روحيًا بنظيرتها “المصرية” بمثابة حجر الزاوية للمسيحية في إثيوبيا، ولا يزال أثرها واضحا من حيث أديرتها إلى ممارساتها الروحية.
تدخل الكنيسة القبطية
ربما لهذا التاريخ من العلاقات الممتدة بين الكنيستين، وما يكتنفها من “أبوة روحية”، تدخلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في أزمة الانشقاق الأخيرة.
يقول الأنبا بيمن، منسق العلاقة بين الكنيستين والأسقف البارز بالمجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية: “ثمة وساطة مصرية جرت بناءً على تواصل جرى مع البابا تواضروس الثاني-بابا الإسكندرية-بطريرك الكرازة المرقسية”. لكنه لم يفصح عن مصدر “طلب التدخل” لدى الجانب الإثيوبي.
وقد سارعت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في 26 يناير/ كانون الثاني المنصرم، بإصدار بيان عن لجنة العلاقات المسكونية بالمجمع المقدس برئاسة الأنبا توماس مطران القوصية، ندد بانشقاق “الأنبا ساويرس” عن الكنيسة، واعتبرت فعله مخالفًا للقوانين الكنسية، والأصول الراسخة على الكنائس الأرثوذكسية عبر الأجيال.
ولدى إعلان تضامنها مع نظيرتها الإثيوبية، ناشدت الأساقفة والمطارنة التمسك بوحدانية الكنيسة وسلامتها.
ويرى “القمص سرجيوس” أن تدخل -الأنبا توماس رئيس لجنة العلاقات المسكونية- ينبثق من حرص الكنيسة القبطية على ابنتها الكبرى (كنيسة إثيوبيا). لكن الأنبا بيمن يشير إلى أن وساطة “القبطية الأرثوذكسية”، وحرصها على رأب الصدع لدى الكنيسة الإثيوبية، ينطلق من ثوابت القانون الكنسي العام. ما يعني أن الكنيسة لها قيادة “البابا” وقادة “أساقفة” في الأقاليم، متسائلًا: “هل يصح أن ينفصل القادة الفرعيون عن الأصل؟”.
ويضيف لـ”مصر360″، “رأي كنيستنا في الأزمة الإثيوبية كان قولًا فصلًا، لإعادة الأمور إلى نصابها، وانتهى الأمر باعتذار الأساقفة”.
وسبق أن أبدى البابا تواضروس الثاني –بابا الإسكندرية-بطريرك الكرازة المرقسية- سعادته ببوادر حل أزمة الكنيسة الإثيوبية”، لافتًا -إبان عظته الأسبوعية 15فبراير/ شباط الماضي- إلى أن الأساقفة متزعمو حركة الانفصال قرروا العودة لكنيستهم الأم”. وعرج البابا خلال حديثه على العلاقة بين الكنيستين بقوله:”الكنيسة الإثيوبية تهمنا جدًا، وهي أختنا، ويكفي أن كنيستنا هي التي أسستها منذ القرن الرابع الميلادي”.
الانفصال ليس بجديد
لا يمكن قراءة نزعة الانفصال داخل الكنيسة الإثيوبية بمعزل عن تاريخ انفصالي طويل.
ففي عام 1991، ومع وصول الائتلاف الحاكم “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية” إلى السلطة عُزل البطريرك “مرقوريوس” نظير ما اعتبره آنذاك تدخلًا سياسيًا لا مبرر له في شؤون الكنيسة، وانتخب “الأب باولس” بطريركًا جديدًا خلفًا له.
وشكل “مرقوريوس” لدى إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية “مجمع الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في المنفى”. فيما رفضت بعض الكنائس الاعتراف بـ”الأب باولس”، وأقر المجمع المقدس الآخر داخل إثيوبيا بشرعية “البطريرك” المنتخب “الأب باولس”.
كما انفصلت كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترية عام 1991 عن نظيرتها الإثيوبية، بعد استقلال إريتريا. وأصبح للكنيسة الإريترية مجمعًا مقدسًا خاصًا بها بعد أن كانت تتبع “الإثيوبية”، واعترف البطريرك الإثيوبي باستقلالها عام 1993.
ويفسر الأنبا بيمن منسق العلاقة بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، نزعات الانفصال تلك بأنها “تأتي في الغالب من تضخم الذات-الأنا- بينما القيادة الروحية لابد أن تكون لها رئاسة عليا تخضع لها”. ويضيف لـ”مصر360″، أن متزعمي الانفصال داخل الكنيسة الإثيوبية من المنتمين لإقليم “الأورومو” أرادوا الانفصال كنسيًا، وليس سياسيًا، على عكس إريتريا مثلًا، التي انفصلت سياسيًا وكنسيًا.
دور آبي أحمد
لم تبتعد دعوة منشقين عن الكنيسة الإثيوبية للانفصال عن وجود “بعد سياسي”. فمنذ بدء الحرب في إقليم تيجراي قبل عامين، أعرب البطريرك الإثيوبي الأب متياس عن مخاوفه بشأن معاناة المدنيين إزاء الصراع في الإقليم.
ورغم العلاقة الجيدة التي جمعت رئيس الوزراء الإثيوبي بالكنيسة خلال الأيام الأولى من ولايته. إلا أن قيادات كنسية شعرت بقلق من الاستهداف إزاء صراع احتدم في “تيجراي”-إقليم البطريرك الإثيوبي- قبل عامين.
ومع تصاعد وتيرة الحرب الدائرة في الإقليم وصف “الأب متياس”-في مقطع فيديو تداولته وسائل التواصل الاجتماعي– ما يجري بأنه “إبادة جماعية” في المنطقة، مهددًا بإطلاق مسيرات تجوب البلاد، مما أدى إلى فرض قيود على وسائل التواصل الاجتماعي.
لذلك، ومع إعلان الانشقاق في يناير/ كانون الثاني الماضي، اتهمت كنيسة التوحيد الإثيوبية حكومة “آبي أحمد” بدعم مجموعة الأساقفة المنشقين. وطالبته بتقديم اعتذار رسمي عما وصفته بـ”التواطؤ” مع مجموعة غير شرعية تستخدم اسم الكنيسة في إقليم “الأورومو”.
وفي تصريحات متلفزة قال رئيس الوزراء الإثيوبي، معلقًا على موقف المجمع المقدس من المنشقين بإقليم “الأورومو”: “إن كلا الجانبين على حق، محذرًا أعضاء حكومته من التورط في شؤون الكنيسة”.
ودفعت هذه التصريحات المجمع المقدس للكنيسة الإثيوبية إلى وصفها بـ”المضللة، وتتجاهل قرارات المجمع، وتتحدى سلطته، وتعترف بجماعة غير شرعية”.
وتطورت الأمور بين الحكومة، والكنيسة على خلفية الانشقاق إلى مستوى غير مسبوق من التراشق العلني، بنبرة تصعيدية وصلت إلى إعلان قيادات كنسية مواصلة التحدث حتى لو اضطروا إلى التضحية بأرواحهم.
واختلف محللون حول موقف الحكومة الإثيوبية من أزمة الانشقاق. فمن ناحية أشاد البعض بموقف “آبي أحمد” الرافض لأي تدخل حكومي إبان الأزمة، منعًا للمساس بشؤون الكنيسة الداخلية. بينما اعتبره آخرون موقفًا غائمًا، أدى لمزيد من التراشق، والحدة بين المنشقين، وكنيسة التوحيد الإثيوبية.
وسبق أن قاد “آبي أحمد” مصالحة وصفت بالتاريخية لإعادة البطريرك “مركوريوس” من الولايات المتحدة، وإتمام التوافق بين الكنيستين الإثيوبيتين عام 2018، بمقتضاها أصبح الأب متياس بطريركًا إداريًا، في حين يشغل الأنبا مركوريوس منصب البطريرك الروحي.
نهاية الأزمة
قبل أن تنفرج الأزمة، ويقود رئيس الوزراء آبي أحمد اتفاقًا على الحوار بين الطرفين لإنهاء الانشقاق، طالب المجمع المقدس للكنيسة الإثيوبية الحكومة بكشف الغطاء السياسي، والأمني عن المجموعة المنشقة.
مطالب المجمع المقدس امتدت قبيل اتفاق الحوار إلى دعوة أتباع الكنيسة لارتداء الملابس السوداء حزنًا على شهدائها، وصيام ثلاثة أيام لكشف الغمة، وانتهاء الفتنة، بجانب مطالبة المنشقين للعودة، وإعلان التوبة.
ولم يحسم القمص سرجيوس سرجيوس وكيل البطريركية، ما إذا كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ستدعو الفريقين إلى زيارة المقر البابوي بالقاهرة، لإتمام التوافق. لكنه، أكد في تصريح لـ”مصر360″ أن ما جرى داخل كنيسة التوحيد الإثيوبية لا أثر له على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إلا من ناحية الارتباط الروحي بينهما، وفقط.
وعلى صعيد قانوني، كلف المجمع المقدس للكنيسة الإثيوبية عشرة محامين لإقامة دعاوى قضائية ضد المنشقين، والمؤسسات الرسمية بإقليم “الأورومو”، بتهمة التواطؤ، والمسئولية عن مقتل 3 أشخاص على الأقل في الأحداث الواقعة بمدينة شاشاميني.
ورغم تخوف البعض من تجدد النزاع داخل الكنيسة الإثيوبية، إلا أن اتفاق الحكومة مع الكنيسة بعد مباحثات بالقصر الجمهور، أفضى إلى تجميد دعوات التظاهر التي أطلقتها الكنيسة، وقبول الحوار.
ويقول الأنبا بيمن “إن مساعي الصلح تجري على أعلى المستويات، والتواصل مستمر لتدارك الأمور بعد اعتذار المنشقين”.