جاء الإعلان عن حزمة من القرارات لتحسين وضع الأجور في الجهاز الإداري بالدولة، بعد يوم من زيادة أسعار البنزين، ورفع الحد الأدنى للأجور مجددًا بعد شهور قليلة من رفعه في أكتوبر الماضي، وكذلك زيادة المعاشات ورفع حد الإعفاء الضريبي، لتمثل خطوة إيجابية نسبيًا في مواجهة موجات غلاء الأسعار وتراجع سعر العملة المحلية.
ورغم الترحيب الواضح بهذه الخطوة، إلا أنها تحتاج لعدة إجراءات رئيسية مكملة، فالقرارات الصادرة تخص العاملين بالجهاز الإداري للدولة، ولا بد أن يصاحبها تحرك مماثل على مستوى العاملين بالقطاع الخاص، وهم الأغلبية من العاملين من المواطنين المصريين. وهو ما لا يمكن أن يكون قابلًا للتحقق فعليًا باستجابة القطاع الخاص لزيادة جديدة للأجور، إلا بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعاملات التجارية وأوضاع السوق في مصر، كي لا تمثل عبئًا جديدًا على المؤسسات والشركات في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، بما قد يؤدي عمليًا بعد فترة لتسريح موظفين وعمال أو إغلاق منشآت أو تخارج مؤسسات من السوق المصري كما جرى في حالات عديدة على مدار الفترة الماضية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن النقطة الثانية المكملة لقرارات تحسين الأجور والمعاشات هي العمل على تفعيل آليات التحكم في الأسعار، وإجراءات جادة لمواجهة التضخم. وهي العوامل الأهم التي تضمن عدم التهام قيم أي زيادات تجري على دخول وأجور المصريين، خاصة أن نسب الغلاء والتضخم أعلى من نسب تلك الزيادات بفروق واضحة.
لكن ومع هذين العاملين، فإن هناك عاملا أكثر أهمية كي لا تذهب تلك القرارات سدى مثلما جرى في أكتوبر الماضي عندما تم رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة الرواتب، ليأتي بعدها مباشرة قرار تعويم الجنيه، وما أدى إليه من ارتفاع مباشر في سعر الدولار ليهدر القيمة الفعلية للزيادات التي تمت حينها.
الأمل الآن ألا يعقب تلك الزيادات الأخيرة إجراءات مماثلة في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل موجات الغلاء القائمة بالفعل، وكذلك في ظل مواسم تهل على المصريين بكل أعبائها الاقتصادية مثل شهر رمضان وعيد الفطر.
مفهوم أن هناك تفاوتات في التقديرات والآراء بخصوص الإجراءات الاقتصادية والتعامل مع اشتراطات صندوق النقد الدولي، التي قد تضطر لبعض الإجراءات والخطوات. ومفهوم أن هناك من يرى في الوضع الحالي رغم كل مساوئه فرصًا لتعزيز الاستثمار بالذات الأجنبي، أو فتح آفاق للتصدير أو غيرها. لكن النقاش هنا بالأساس بعيدا عن تفاوت الاختيارات الاقتصادية، هو في الآثار الاجتماعية، وفي قدرة عموم المصريين على مواجهة الأعباء المعيشية المتزايدة. وهو فيما نظن الجانب الأساسي وراء القرارات الأخيرة. وبالتالي، أولوية ذلك البعد هو ما يهمنا الآن في ألا تتحول تلك القرارات رغم عدم كفايتها وضرورة استكمالها بغيرها من الإجراءات المشار لبعضها، إلى مجرد أرقام لا تغني ولا تسمن، إذا ما أعقبتها موجات غلاء جديدة، أو إذا ما جرى تعويم جديد، أو للدقة اتخذت إجراءات تؤدي لارتفاعات جديدة في أسعار الدولار، بكل تأثيراته على الأسعار في الأسواق، والأوضاع الاقتصادية بشكل عام للشركات العاملة في السوق المصري.
إذا كان ذلك هو الوضع الراهن والمتوقع استمراره لفترة مقبلة على الصعيد الاقتصادي، وهو وضع يحتاج لطرح حلول وإجراءات غير تقليدية وخارج الصندوق، شرط أن يكون هدفها وانحيازها لعموم المصريين ومصالحهم وقدرتهم على الحياة الكريمة، وهو أمر لا يبدو سهلًا، ونبدو محصورين بين اختيارات كلها صعبة إما بين إجراءات تكلفتها الاجتماعية مرتفعة، أو مواصلة مسارات كانت جزءًا من وصولنا للوضع الراهن، أو سياسات تحتاج دون شك لتعديلات كبرى، لكن آثارها لن تحقق نتائج سريعة وعاجلة تعالج الأوضاع الراهنة.
الأهم من ذلك ومعه، هو إدراك أن الأزمة الاقتصادية رغم أثرها الضاغط بالأساس على عموم المصريين، ورغم تفهم أنها جزء من أوضاع عالمية مرتبكة بشكل عام دون إنكار أن السياسات الداخلية كانت جزءًا رئيسيًا فيها، إلا أن ما نشير إليه هنا وما نظنه أهم، هو أن الاقتصاد تديره وتتحكم وتؤثر فيه السياسة بمعناها الأشمل. وليس مقصودًا بالسياسة هنا التوجهات والإجراءات الاقتصادية، وإنما السياسة بمعنى المجال العام المنفتح سياسيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا، وهو المدخل الرئيسى لمواجهة مشكلات وتحديات مصر.
أعلم ويعلم غيرى كثيرون أن الهم الرئيسي للمواطن المصري هو قدرته على توفير الاحتياجات الأساسية، وبالتالي، فالهم الاقتصادي والاجتماعي هو الأكثر ضغطًا على أعصاب ومشاعر وعقول الغالبية العظمى من المصريين. وهو أمر طبيعي وإنساني تمامًا لا يحق أن يكون محل لوم ولا نقاش، وجزء من المسئولية السياسية للسلطة أو المعارضة أو أي ممن يشغلون أدوارًا في المجال العام أن يكون ذلك محل اهتمامهم وتفكيرهم وجزءًا من أطروحاتهم للتعامل معه، لكن عزل ذلك عما هو سياسى أو تصور أن هناك حلولا اقتصادية ممكنة دون حلول سياسية، أو الاعتقاد بأن ما يخص السياسة هو رفاهية وترف في ظل مثل تلك الأوضاع الاقتصادية، هو أمر في ظني حتى وإن كان سائدا مجتمعيًا وشعبيًا، إلا أنه لا ينبغي أبدًا أن يتم التسليم بصحته، وإنما تفهمه وإدراك أسبابه، دون أن يعني ذلك تراجعًا عن أولوية الإصلاح السياسي بقناعة حقيقية وإيمان راسخ أن ذلك هو المدخل الصحيح ولا أريد أن أقول الوحيد.
في كل الأحوال، لا حلول اقتصادية ناجزة وعاجلة ستؤدي لتغير الأوضاع فعلًا، وفي كل الأحوال نحن أمام مرحلة صعبة بكل ما فيها، عالميًا ومحليًا، لأسباب تتعلق بكلاهما بدرجات تتفاوت تقديراتها حسب وجهات النظر والرؤى. لكن ما يهمنا هنا هو إدراك أن كلاهما عامل رئيسي دون إنكار الآخر، لكن على الصعيد السياسي، ورغم توصيفات يقال أحيانًا إنها نخبوية أو لا تمس الناس أو منعزلة عنهم، إلا أن العكس بالضبط هو الصحيح، فهي إدراك واضح أن مشكلات الناس ومعاناتهم لا يمكن أن يتم حلها إلا عبر مناخ مفتوح ومجال عام آمن للتعبير عن الرأي، ولبناء تنظيمات سياسية حزبية وحركية، وتفعيل دور النقابات المهنية والعمالية، وقدرة المتخصصين والخبراء على التعبير عن رؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم وحلولهم البديلة بشكل حر ودون خوف، وتمكين المجتمع من تأطير الفاعلين فيه للدفاع عن مصالحهم من خلال الأشكال التنظيمية المختلفة سياسيًا ونقابيًا وأهليًا، وفتح الآفاق للانتخابات الحرة التي تتنافس فيها الأطراف على أساس برامج سياسية واقتصادية وانحيازات اجتماعية مختلفة ومتفاوتة.
قد يرى البعض وربما الغالبية من المصريين -وهو حق لهم- أن هذا كله محض ترف في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الراهنة، لكن ظني وقناعتي أن هذا هو المدخل الأساسى والرئيسى للحل، ولا أبالغ إذا قلت أن غياب السياسة طوال السنوات السابقة هو جزء من أسباب ما وصلنا إليه الآن بما في ذلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وأن الرهان الحقيقي على أي إصلاح على أي صعيد يبدأ من هنا، لا فقط باعتباره الممكن والأقل كلفة، بل ولأنه المدخل الأصح والأكثر تأثيرًا وفاعلية.
ربما يرى بعض السياسيين أحيانًا -وهم أيضًا على حق- أن أولوية الهم الاقتصادى الآن يجعل ذلك هو الملف الذى يحتاج لتفاعل أكبر وحلول أسرع ليشعر الناس أن السياسيين ليسوا بمعزل عنهم وأنهم يشعرون بمعاناتهم وأوجاعهم التي نتشاركها جميعًا، لكن دور السياسي في تقديري أن يكون أكثر شجاعة وجرأة في مصارحة الناس بحقيقة تصوراته ورؤاه للمشكلة وطرق حلها وأولوية السياسة كمدخل للحل.
ومن هنا، فإن هذه دعوة لجميع القوى والشخصيات السياسية التي تتشارك هذا الفهم، أن تتمسك بطرح أولوية حلول ما يتعلق بالحريات والعمل السياسي والانتخابات والتعبير عن الرأي وحق التنظيم وغيرها، دون أن تخشى من غضب يرى في ذلك ليس الحل المناسب في الوقت المناسب، لأنه دائمًا وبتجارب التاريخ والحاضر يثبت أن الإصلاح السياسي وتوافر بيئة ديمقراطية سليمة هو الحل الآمن والمدخل الصحيح دائمًا.