لا تكفي حسابات صندوق الاقتراع وحدها لتقييم شرعية الأنظمة السياسية، ففشل تلك الأنظمة في إدارة شؤون البلاد بما يضمن توفير احتياجات الناس الأساسية وتحسين أحوالهم المعيشية وتحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهم، يفقدها شرعية استمرارها.
تقام شرعية أي نظام على قاعدتين أساسيتين، تدعم كل منهما الأخرى، الأولى إجرائية وتتمثل في «الشرعية الدستورية» أي الوصول إلى السلطة وممارستها وفق أحكام الدستور والقوانين واللوائح المنظمة، أما الثانية فهي موضوعية وتضمن تعزيز الشرعية الدستورية وتعرف بـ«مشروعية الأنظمة» أي قناعة الشعوب ورضاها عن أداء السلطة وبقائها في الحكم.
الإجراءات الدستورية السليمة ونزاهة العملية الانتخابية يضفي الشرعية على الأنظمة الحاكمة. لكنه لا يمنحها المشروعية التي لا تتحقق إلا بمعايير الإنجاز والقبول والاقتناع والرضا الشعبي العام، وعليه فمن حق الشعب باعتباره المانح الحقيقي للشرعية سحب الثقة من الحاكم المنتخب حتى قبل انتهاء مدته الدستورية.
في الدول الديمقراطية تستطيع الشعوب عبر وسائل إعلامها وممثليها في المجالس النيابية أن تُقيم الأنظمة وتراقب أعمالها وتقوم مساراتها، فإذا فشلت تلك الأنظمة ولم تحقق ما وعدت به ولم تعتذر للناس وتطالبهم بمنحها فرصة جديدة باعتبارهم أصحاب السلطة الأعلى، يُسحب منها الثقة وتُعزل عبر أطر وقنوات حددتها نصوص الدساتير.
أما في البلاد التي تحكمها أنظمة مستبدة قمعية لا تقنع برأي الناس ولا تلقي بالا برضاهم ولا بإرادتهم، ترفض التقييم والتقويم، وتزور الانتخابات وتهندس البرلمانات وتحاصر الصِّحافة وتغلق كل نوافذ التعبير عن الرأي، فلا يجد الناس طريقا للتعبير عن سخطهم وغضبهم من فشل السلطة وفسادها واستبدادها سوى الشارع.
لا ينزل الناس إلى الشوارع إلا بعد أن يضيق بهم الحال إلى الحد الذين لا يستطيعون فيه التَكَيُف مع الأوضاع الاقتصادية القاسية الناتجة عن سوء إدارة السلطة لموارد البلاد وعجزها عن توفير السلع والخدمات وكبح جماح الأسعار وضبط الأسواق، لا يلجأون إلى هذا المسار إلا بعد أن يتمكن منهم اليأس والإحباط والسأم من الاستماع إلى الوعود المكررة الكاذبة عن الإصلاح والتطوير والإنجازات.
تندلع الثورات بعد أن تستنفد الأنظمة رصيدها وتفشل كل محاولاتها في تخدير الناس وتسكينهم، فإذا ما كان هناك تيارات سياسية قادرة على التعاطي مع غضب الناس وعلى تحمل المسؤولية ولديها تصورات وبرامج وبدائل لوضع قواعد المستقبل تتخطى البلاد مراحل الاضطراب وتبدأ في التعافي إلى أن تصل إلى بر الأمان.
من خطايا الأنظمة المستبدة أنها بمجرد أن تحكم قبضتها على السلطة تستهدف السياسة فتجرفها وتحاصر أدواتها وتسد قنواتها وتوأد كل محاولة لإنتاج بدائل لها، ظنا منها أنها غلق المسارات أمام الناس يضعهم أمام خيارين أحلاهما مر، إما القبول باستمرارها أو السقوط في مستنقع الفوضى.
قد تحصل سلطة ما على رضا الناس لفترة ما، لكن القبول والرضا ليس مكسبا أبديا، بل هو عملية يعاد تقييمها على نحو دائم وتحتاج إلى تجديد وتطور على نحو مستمر، وعلى الحكومات أن تعمل ما عليها وما تفرضه الظروف حتى تحافظ على هذا الرضا، وإلا فُسخ العقد الذي بموجبه حصلت على الشرعية من قبل المحكومين.
لا يمكن لنظام حكم مهما بلغ من قمع أن يستمر معتمدا على القوة والإكراه، فبمجرد أن تفقد السلطة رصيدها لدى الناس وينقلب الرضا إلى سخط والتأييد إلى رفض تصبح الشرعية معلقة في الهواء ويصبح سقوطها مسألة وقت، فما أن تهيئة الظروف وتقاطعت عوامل الفشل الاجتماعي والاقتصادية بالسياسي يصدر حكم الشعب في قضية الحكم.
تسعى النظم الاستبدادية فقط إلى الاستقرار الظاهر، تمارس العنف الرسمي لتقصي كل من يناوئها، تشيع مناخا من الخوف لتفرض به على الشعوب طاعة قسرية، تستخدم في تحقيق مرادها كل آليات الإكراه، لا تعلم أن هذا الاستقرار الهش يخفي تحت رماده نار قد تضطرم بين لحظة وأخرى.
تلجأ بعض الأنظمة الفاقدة للمشروعية إلى إحاطة سلطتها بمؤسسات دستورية ديكورية (البرلمانات والأحزاب.. ألخ) تستخدمها لإضفاء الشرعية على استمرارها في السلطة وتصدير صورة بأن قرارتها وتوجهاتها وسياساتها تصدر عبر آليات ديمقراطية وبموافقة ممثلي الشعب، لا تصمد تلك المؤسسات ساعة واحدة بعد أن يصدر الحكم الشعبي بسحب الثقة من السلطة، فما ينطبق عليها ينطبق بالتبعية على المؤسسات التي صنعتها.
لو فشلت السلطة في تحقيق قدر مقبول من العدالة والمساواة وعجزت عن مواجهة احتكار فئة أو مجموعة للوظائف والثروات وتلاعبت بإرادة الشعب وشعر المواطنون بأن استمرارها يلحق بهم المهانة اهتزت مشروعيتها، وفي حال لم تبادر تلك السلطة بإصلاح المسار وترميم الشروخ التي ضربت قواعد وأسس شرعيتها أصبح زوالها في حكم المؤكد.
تجاهل رضا الناس يزيد من حالة السخط وكلما ارتفع منسوب السخط كلما فقدت الأنظمة قدرتها على إقناع الناس بجدوى أي عمليات ترميم وإصلاح.
كي لا يصل أي بلد إلى مرحلة الغليان والانفجار الشعبي، يجب أن يكون هناك قنوات اتصال قادرة على خلق حالة من التوافق مع المحكومين لتصحيح المسار وتحقيق الاستقرار في المدّة المتبقية من عمر السلطة.
حصل معظم من حكموا مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 على شكل من أشكال الشرعية الدستورية، لكنهم لم يستمروا في السلطة بذات القدر من الرضا الشعبي الذي حازوه فور وصولهم إلى مواقعهم، حقق الرئيس جمال عبد الناصر شعبية كاسحة صنعها بما قدم من إنجازات لمسها الناس وأدركوها في التحسن الذي طرأ على أحوالهم المعيشية، لكن تلك الشعبية اهتزت بعد الهزيمة القاسية في يونيو 1967 التي عرضت شرعية يوليو ذاتها للطعن.
عززت انتصارات أكتوبر من شرعية الرئيس السادات ومكنته من السيطرة على مفاصل الدولة لكنها لم تكن كافية لتحقيق الرضا الشعبي، فالشارع لم يتوقف عن الحركة تقريبا طوال السنوات العشر التي حكمها فيها الرجل البلاد، أما خلفه الرئيس مبارك فنجح خلال العشرين عاما الأولى من عهده في امتصاص العديد من الصدمات التي كان من شأنها شرخ شرعية نظامه، إلا أنه ومع بداية العقد الثالث من عمر نظامه بدأ هذا النظام في فقدان مشروعية استمراره، تحللت مؤسساته شيئا فشيء حتى سقط في يناير 2011.
لا ينكر أحد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي وصل إلى الحكم في 2014 بشعبية كاسحة، نافس بها شعبية الرئيس عبد الناصر، على حد تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل حينها، أسست تلك الشعبية للرئيس الجديدة آنذاك شرعية سياسية كان من الممكن أن يستند إليها في وضع قواعد مصر الجديدة التي خرج من أجلها الملايين في 2011 و2013، «دولة مدنية ديمقراطية حديثة تخاصم سوءات الماضي وتنطلق نحو المستقبل».
بدأت تلك الشعبية في التراجع عام بعد عام، وتسللت الشروخ إلى مشروعية نظامه إثر توالي الأزمات الاقتصادية التي أثرت على أحوال الناس المعيشية، فانتقل العديد من هؤلاء إلى كتلة الغاضبين بعدما كانوا من أشد المؤيدين.
منسوب الرضا الشعبي عن السلطة وسياستها انخفض للدرجة تبعث على القلق، وإن لم يشعر القائمين على حكم البلاد بهذا القلق وعملوا على إزالة أسباب الاحتقان المتصاعد فنحن أمام سيناريو مخيف.
أي تأخير في علاج حالة السخط العام والشروع في وضع أجندة إصلاح اقتصادي وسياسي من شأنها إقناع الناس بأن السلطة بصدد إعادة النظر في سياساتها التي دفعت بالأمور إلى تلك الحافَة، قد يضعنا جميعا في موضع الخطر.
اليأس والإحباط مدخل للوقوع في المحظور، لا يكفي تذكير الناس بما جرى بعد ثورة 25 يناير أو بتحميل الثورة والمشاركين فيها مسئولية ما آلت إليه الأوضاع من تردي، الإسراع بفتح نوافذ التغيير السلمي الديمقراطي وفق الآليات الدستورية المتوافق عليها، يعيد للناس الأمل بأن هناك مخرج وحل آمن للبلاد.