استطاعت المملكة العربية السعودية بسط نفوذ هائل على المنطقة عقب الربيع العربي في 2011، واستمر نفوذها بالازدياد حتى الوقت الراهن.
هنا، قد تبدو الأموال السعودية اللاعب الأساسي في بسط هذا النفوذ المتزايد. بيد أنه من الخطأ اختزال الأمر في الأموال فقط. فالرياض استخدمت أموال النفط نعم ولكن بشكل استراتيجي في سياق سياسات لها أبعاد قيمية ترتبط بالهوية والأفكار ونمط الحكم، مع بناء علاقات وتشابكات مع جماعات ونخب نافذة في بلدان المنطقة.
السعودية ونشر الأوتوقراطية
يفسر الخبراء صعود السلطوية في المنطقة عقب الربيع العربي إلى وجود مصالح مشتركة بين النظم الاستبدادية في المنطقة. ولكن هذا التفسير يتجاهل الدور المحوري الذي لعبته السعودية في نشر السلطوية والأوتوقراطية (سلطة الفرد).
في دراسة لهما يفسر الباحثان توبياس زومبراجيل Tobias Zumbrägelوتوماس ديملهوبر Thomas Demmelhuber، نفوذ الرياض بمفهوم “مركز الجذب السلطوي”. وفي سياقه تمثل السعودية مركز جذب أوتوقراطي مرتبط بالمنطقة الجغرافية. فالسعودية لديها القدرة على نشر أفكارها السلطوية بالخارج، خاصةً في دول المنطقة القريبة جغرافيا.
وتختلف وسائل نشر هذه الأفكار الأوتوقراطية. فقد تأخذ شكل سيطرة مباشرة بالعقوبات مثلًا، أو عن الطريق الضغط على البلدان باستخدام الاستثمارات المباشرة والمساعدات المالية، أو باستخدام الدعم المعنوي والدبلوماسي. والسعودية وفق هذا المفهوم تمثل للعديد من النظم السلطوية الأخرى بالمنطقة مثالًا يحتذى به.
اقرأ أيضًا: صوت صاحب السمو يعلو على الخبير والشعب.. في تناقضات البيروقراطية والأوتوقراطية بالسعودية
الخليج أول الضحايا
يشير الباحثان إلى عدة أمثلة توضح هذا. فالسعودية لها نفوذ هائل على الدول الخليجية الأفقر مثل عمان والبحرين، بسبب المنح التي تغدقها بها، وتمكن السلطات الحكومية هناك من الحفاظ على المزايا المالية الذين يمنحونها لمواطنيهم.
كذلك، تستخدم السعودية قوتها النفطية بامتلاكها أكبر حقول الخليج في سبيل الضغط على الكويت والبحرين اللتين تمتلكان حصصًا أصغر بكثير من السعودية. وعلى الرغم من أن الكويت بها حريات سياسية نسبية مقارنة ببقية دول الخليج. لكن نفوذ الرياض فيها يصل حد أن تعتقل الكويت المنتقدين للسعودية. ويكفي أن تبلغ السفارة السعودية وزير الخارجية الكويتي لأن يعتقل المنتقد. وتلجأ السعودية إلى تلك العملية من أجل تجاوز سلطات البرلمان الكويتي.
ولا يخفى أن أحد أبرز أمثلة نفوذ السعودية ودورها في الخليج تعديل الإمارات قانونها لمكافحة الإرهاب ليماثل القانون السعودي.
ما بعد السلفية
في الماضي، اعتمدت السعودية على مركزها في العالم الإسلامي لنشر أفكارها خارج السعودية. فوطدت علاقاتها بالجماعات السلفية في مختلف دول المنطقة، وكانت مركزًا لتمويل شبكات من الجماعات السلفية ونشر الأفكار الوهابية حول العالم، عن طريق الدعوة والتعليم. إلا أن إصلاحات ولي العهد محمد بن سلمان غيرت تلك المقاربة. فالرجل سعى حثيثًا لإضعاف المكون الديني في هوية السعودية واستبداله بهوية قومية. وبدأ في رفع العديد من القيود الدينية في المجال العام بببلاده، في مرحلة أطلق عليها “ما بعد السلفية“.
هذا بدوره، أضعف دور السعودية في قيادة الحركة السلفية، خاصةً مع ظهور جماعات إرهابية مثل تنظيم الدولة (داعش)، الذي سعى للاستيلاء على قيادة الحركات السلفية. وهو ما دفع محمد بن سلمان إلى شن حرب ضد السلفيين السعوديين، مُنعت خلالها قيادات السلفية من الظهور في الإعلام.
اقرأ أيضًا: سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم
ولكن على المستوى الخارجي، يبدو أن علاقة الرياض بالسلفيين لم تنته. إذ يلاحظ أحمد ناجي، وهو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير-كارنيجي للشرق الأوسط، أن السعودية لا تزال تعد السلفيين من حلفائها المركزيين لمواجهة الحوشيين في اليمن -على سبيل المثال. كما أن الجماعات السلفية التابعة للسعودية لا تعكس القوى الناعمة السعودية فقط، بل أصبحت تعكس أيضًا القوى الصلبة، بعد أن أصبحت مسلحة وتقاتل في اليمن وليبيا، وفق “ناجي”.
السعودية والسردية الطائفية
جزء أيضًا من استراتيجية السعودية لبناء تحالفات في المنطقة وجذب جماعات وأفراد في نطاق نفوذها هو بناء سردية طائفية، تقوم على تقسيم المنطقة بين السنة والشيعة. في هذه السردية، تضع الرياض نفسها كقائد وحامي القوى السنية في مواجهة الخطر الشيعي.
لبنان أحد النماذج على هذا. فقد استغلت السعودية الاسنشقاقات الطائفية بلبنان. ولم تكتف بدعم الحركات السلفية، لكنها سعت كذلك لدعم القوى السنية المعتدلة وأهمها “تيار المستقبل”، بالأموال، والعلاقات الشخصية مع رموز كرفيق الحريري ثم سعد الحريري؛ لتصبح القوى السنية في لبنان أداة للسعودية في معركة وقف مد إيران وحزب الله.
ويمكن القول إن علاقة الرياض بالقوى السنية اللبنانية شكلت نوعًا من “الزبونية” على المستوى الإقليمي.
نموذج لبنان هذا يوضح أن السعودية ترفض أي قدر من الاستقلال في اتخاذ القرار. فمع شيء من استقلال القوى السنية بقراراتها منذ 2016، بدأت السعودية في وقف بعض المساعدات. الأمر الذي تصاعد إلى حد الحديث عن “اختطاف” سعد الحريري وإجباره على الاستقالة. ثم بدت سيطرة السعودية مجددًا عندما انتشرت تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي يهاجم فيه السعودية لشنها حربًا على اليمن. ما جعل الحكومة اللبنانية تسارع بنشر بيان تتبرأ فيه من تصريحات قرداحي.
مصر.. غصة في الحلق
السعودية كانت قادرة على جعل العديد من القوى السنية في مختلف البلدان تابعة لها بشكل كامل، ولبنان هو النموذج الأبرز. إلا أن الأمر مع القاهرة كان مختلفًا ومثل تحديًا كبيرًا، وإن بدا النفوذ المالي السعودي في مصر كبير.
في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، أعلن وزير التجارة والصناعة المصري المهندس أحمد سمير، أن السعودية هي ثاني أكبر مستثمر بمصر وتتنوع استثماراتها في الزراعة والسياحة والصناعة والاتصالات والتمويل. لكن ورغم هذه الاستثمارات الهائلة، لم تنجح السعودية في تطويع النخب السياسية والاجتماعية المصرية. بل واختلفت القيادة المصرية مع الرياض في عدة قضايا مصيرية بالنسبة للسعودية، خاصةً فيما يتعلق بنظام بشار الأسد أو المشاركة بالحرب السعودية على اليمن.
وقد وصلت هذه الخلافات إلى أشدها بين البلدان في الآونة الأخيرة. ويرجع هذا إلى عدة أسباب:
أولًا، ترفض القاهرة قبول سردية السعودية المتعلقة بالصراع السني-الشيعي. بل تنظر لعلاقاتها مع الدول من منظور آخر لا يرتكز على سرديات طائفية.
ثانيًا، على عكس لبنان، مصر متماسكة ولا توجد بها خلافات طائفية حادة تُمكن السعودية من استغلالها. ذلك بالإضافة إلى أن الوضع الاقتصادي المصري أفضل من اللبناني وإن كان قاسيًا.
ثالثًا، ثقل القاهرة التاريخي في المنطقة يجعلها ترفض تسليم قيادة المنطقة للسعودية بسهولة، ما يسبب تنازعًا بينهما من حين لآخر.
لكن بالعودة إلى تحليل مركز الجذب السلطوي، فالرياض لا تزال قادرة على الضغط نسبيًا على القاهرة. خاصةً في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية. بيد أن هذا الضغط يبقى محدودًا في قضايا معينة.
ومع ذلك، يبقى تأثير السعودية على مصر بكونها مثالًا في الاستقرار النسبي على مدار سنوات سابقة شهدت تقلبات سياسية عديدة منذ الربيع العربي. وهذا أمر يختلف تمامًا عن فكرة السيطرة الكاملة على مصر، وهو أمر بعيد المنال حتى الآن.
التأثير السعودي بالإعلام المصري
مع مصر، تتعامل السعودية بمنطق التدخل والتأثير في قطاعات تُمكنها من نشر قيمها ورؤيتها حول العالم والمنطقة وبين النخبة المصرية والمجتمع على نحو تدريجي وغير مباشر. ذلك من خلال الرياضة مثلًا والفن والإعلام.
وقد أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية عن مشروع قطاع إخباري ضخم، كشفت مصادر، لموقع “مدى مصر“، أنه واجه عواقب تمويلية، ذلك قبل التوصل إلى اتفاق شراكة مع السعودية أعاد إحيائه. وبحسب المصادر، فإن المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام ستتولى وضع خطة الإنتاج وتوفير المعدات التقنية وتدريب العاملين. وبالفعل تم إطلاق إحدى القنوات باسم “القاهرة الإخبارية”.
هذا الاهتمام السعودي بالإعلام المصري ليس بالجديد. فالسعودية تخصص قناة بمجموعتها “إم بي سي MBC” باسم مصر. وهي من المنابر الرئيسية التي تستخدمها السعودية ترويجًا للنظام السعودي ووجهات نظر الرياض في أمور متعددة داخل المجتمع المصري.
بيد أن الجديد هنا، هو تمويل السعودية لقنوات مصرية تابعة لجهات سيادية بالدولة المصرية. وهو خطوة توضح أن السعودية لم تعد تكتفي بقنواتها. بل تطمح لمحاولة نشر أفكارها خدمةً لمصالحها عن طريق قنوات محلية مصرية. ومصر على الأرجح رأت أن هناك مصلحة مشتركة وأنها فرصة لإعادة إحياء المشروع الإعلامي الذي أيضًا يهدف لتحقيق مصالح استراتيجية للحكومة المصرية، تأجلت منذ مؤتمر المناخ العام الماضي.
تركي لم يسجل الهدف
القطاع الآخر المثير للاهتمام السعودي بالاستثمار فيه هو كرة القدم والرياضة المصرية. وقد استثمرت السعودية ممثلة في تركي آل شيخ رئيس الهيئة العامة للترفيه حاليًا، في نادي “بيراميدز – الأسيوطي سابقًا” لهذا الغرض. كما ضخ أموالًا في بناء ستادات لناديي الأهلي والزمالك صاحبي الشعبية الجماهيرية الأكبر في مصر. ذلك بالإضافة إلى تنظيمه دورات للألعاب الإلكترونية بجوائز مالية كبيرة.
هدف تلك الاستثمارات كان وبلا شك محاولة زيادة شعبية ونفوذ المملكة في مصر من خلال الرياضة، وبشكل خاص اللعبة الأكثر شعبية بمصر (كرة القدم).
وقد توقع تركي ومن وراءه السعودية أن الرياضة منفذ سهل للتأثير السعودي في المجتمع المصري. لكن هذه الرؤية فشلت رغم الأموال الطائلة، وانتهت بخلافات حادة. بينما على مستوى الجماهير لم تجد ثمارها، وأدت أفعال وتصريحات تركي آل شيخ المثيرة لجدل واسع، بل وأثارت غضب الجماهير المصرية ضده عدة مرات.
ولم تقتصر استثمارات تركي آل شيخ على قطاع الكرة في مصر فقط. بل اخترق أيضًا القطاع الفني المصري في السينما والمسلسلات والأغاني، وببناء علاقات مع فنانين مصريين بارزين وتمويل الأعمال الفنية الخاصة بهم. وهو هنا وإن كان أداؤه أفضل نسبيًا من الرياضة. لكنه أيضًا لم يحقق النتائج المطلوبة على المستوى الشعبي. فأضر بمصالح السعودية في مصر أكثر مما نجح.
تحديث السياسات السعودية الخارجية
حققت السعودية تأثيرًا واسعًا في المنطقة بنشر رؤيتها وقيمها وسرديتها للصراع حول المنطقة، بالإضافة إلى بناء شبكة علاقات مع مجموعات ونخب سياسية واجتماعية. واختلفت الأبعاد القيمية للسياسة الخارجية السعودية، فبعد أن كانت مرتبطة بنشر الوهابية أصبحت اليوم ترتبط بنسخة حديثة للدولة السعودية.
وقد أضعف هذا علاقات وشبكات قديمة، لكنها فتحت آفاقًا أجدد لبسط نفوذها على المنطقة. وتنوعت الاستراتيجيات التي تستخدمها للتأثير في المنطقة، وأيضًا تفاوت مدى تأثيرها باختلاف السياقات السياسية والاقتصادية المتسارعة في منطقتها.