فاجأت مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، الأسواق العالمية بالإعلان عن عزمها الانسحاب من المعاهدة الدولية للحبوب التي أبرمتها الأمم المتحدة في لندن قبل 28 عامًا، في خطوة من شأنها أن تشجع دول أخرى على أن تحذو حذوها.

عزت مصر موقفها الرسمي إلى تقييم لوزارة التموين والتجارة الداخلية كشف أن الاشتراك في الاتفاقية، التي تضم مستوردي ومصدري الحبوب الرئيسيين مثل: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا وروسيا والأرجنتين والهند والسعودية وجنوب إفريقيا وسويسرا وتونس وتركيا، “لا تتضمن فائدة”.

أرنو بيتي، المدير التنفيذي لمجلس الحبوب الدولي، يقول إن الخطوة المصرية جاءت دون سابق إنذار، ومثلت صدمة وحزنًا للعديد من الوفود داخل اللجنة الحكومية الدولية.

يخشى مجلس إدارة الاتفاقية من أن تبدأ الدول النامية خاصة المجموعة العربية الموجودة ضمن الاتفاقية مثل تونس والجزائر، بالانسحاب من الاتفاقية، وهو ما عبر عنه أرنو بيتي الذي يقول إن العديد من الأعضاء سيطلبون من مصر إعادة النظر في قرارها.

بحسب الخبراء المصريين، فإن الاتفاقية كانت غائبة في الأزمات الدولية المرتبطة بالغذاء، ففي عام 2010 لم تتدخل “الاتفاقية” حينما تم استخدام الحبوب في إنتاج الوقود الحيوي ما رفع أسعار الحبوب حينها وأثر بشكل كبير على الدول المستوردة مثل مصر، وكذلك عام 2008 إبان الأزمة العالمية عندما ارتفعت الأسعار العالمية دون أي تدخل منها.

مجدي الوليلي عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات
مجدي الوليلي عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات

مجدي الوليلي، عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات، يقول إن انسحاب مصر يعطي رسالة بأن الالتزام بالاتفاقيات مرهون بالجدوى والقيمة المضافة للدول الأعضاء، فمصر لم تجد الدعم اللازم والكافي بعد اندلاع أزمة الحرب «الروسية ــ الأوكرانية»، وما فرضته الأزمة في اضطراب سلاسل الإمداد والتموين.

تنص الاتفاقية على تبادل المعلومات والتحليل والمشاورات حول سوق الحبوب وتطورات السياسات مع تعهد الدول المانحة بتقديم كميات محددة سنويًا من المساعدات الغذائية إلى البلدان النامية في شكل حبوب مناسبة للاستهلاك البشري، أو نقدًا لشراء الحبوب المناسبة بالبلدان المتلقية

يضيف الوليلي أن مصر تنوي الانسحاب لأنها أدركت أن عضويتها بدون قيمة مضافة وهذا ما أكدته وزارة الخارجية المصرية بأن قرار الانسحاب تم اتخاذه بعد تقييم من وزارة التموين والتجارة الداخلية، خلص إلى أن عضوية مصر في الاتفاقية “بدون قيمة مضافة”.

يرى خبراء مصريون أن الاتفاقية لم تستطع التدخل مع الدول المنتجة للسيطرة على ارتفاع الأسعار أو الوقوف بجانب الدول المستوردة خصوصًا الدول الإفريقية الفقيرة التي تعتمد على واردات الحبوب إلى حد كبير ما يعني أن الاتفاقية تحقق مصلحة المنتجين فقط.

يؤكد الوليلي أن مصر استطاعت تأمين احتياجاتها من السلع الاستراتيجية وفي مقدمتها القمح خلال الفترة الماضية، ونوعت مصادر الاستيراد، وبالتالي ليس للاتفاقية أي أثر عليها.

تتجه وزارة التموين والتجارة الداخلية لتنويع مصادر استيراد القمح رغم اعتمادها 22 منشأ، لتضيف صربيا وبلغاريا ورومانيا، والتوريد من خلال ميناء كونستانتا الروماني، كما تدرس أيضًا استيراد القمح من باكستان والمكسيك بعد حظر صادرات القمح الهندي.

شروط جديدة لروسيا

تأتي الخطوة المصرية قبل خمسة أيام من انتهاء مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب التي توسطت فيها الأمم المتحدة وتركيا في يوليو/تموز 2022 وأسفرت عن تصدير الحبوب من ثلاثة مواني أوكرانية، بإجمالي 23 مليون طن من الحبوب والمواد الغذائية الأخرى، وفقًا لمركز التنسيق المشترك في تركيا الذي يشرف على تنفيذ الاتفاق.

لم يصدر تعليق رسمي حتى الآن من أمريكا والمجموعة الأوروبية بخصوص الخطوة المصرية، خاصة وأن القرار المصري جاء بعد غموض مصير اتفاقية تصدير الحبوب بالبحر الأسود المقرر انتهائها في 18 من الشهر الجاري، فوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قال إنها مُقسمة لجزأين أولهما ضمان التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية والثاني إزالة الحواجز أمام الصادرات الروسية، والأمران مرتبطان ارتباطًا وثيقًا.

وأضاف لافروف أن روسيا لبت جميع التزاماتها فيما يتعلق بالجزء الأول مع الأتراك لكن الجزء الثاني والخاص بمصالح روسيا لم يتم تنفيذه على الإطلاق، وإذا كان الاتفاق صفقة فهي شاملة، وإذا كانت صفقة نصف منفذة فإن مسألة التمديد تصبح معقدة للغاية.

جدد الرئيس فلاديمير بوتين حديث وزير خارجيته، مؤكدًا الحاجة إلى تنفيذها الشامل.

لكن المتحدث الرئيسي للشؤون الخارجية بمفوضية الاتحاد الأوروبي بيتر ستانو، يقول إن روسيا لديها «مزاعم خاطئة» بشكل واضح، فالمفوضية الأوروبية في توجيهاتها اعتبرت نقل الأسمدة والأعلاف الروسية إلى دول وسيطة، وكذلك التمويل أو المساعدة المالية المتعلقة بهذا النقل من قبل مشغلي الاتحاد الأوروبي، أو عبر أراضي الاتحاد الأوروبي أمر مسموح به”.

تأتي الخطوة المصرية قبل خمسة أيام من انتهاء مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب (وكالات)
تأتي الخطوة المصرية قبل خمسة أيام من انتهاء مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب (وكالات)

غموض موقف صادرات روسيا

بسبب غموض أرقام صادرات روسيا تدور الاتهامات بينها وبين أوروبا وسط دعم كبير من الدول النامية لهذه الصفقة “مبادرة البحر الأسود”باعتبارها توفر الطعام لها، فروسيا وأوكرانيا من بين أكبر مصدري الحبوب والأسمدة في العالم.

ورغم العقوبات، زادت صادرات القمح الروسي بنسبة 11% عام 2022. كانت الأرقام خلال الأشهر الأولى من الحرب أقل من المعتاد لكنها عادت مرة أخرى عندما بدأت في تصدير القمح المحصود في يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين.

السفارة الروسية بالقاهرة تحدثت عن فشل الأمريكيين والأوروبيين في تعطيل إمداد مصر بالقمح الروسي، موضحة أن الإمدادات يمكن أن تصل إلى 8 ملايين طن في العام الزراعي 2022-2023.

وقالت السفارة إنه في الوقت الذي يتم فيه إرسال الحبوب الأوكرانية بشكل أساسي إلى أوروبا لدفع ثمن الأسلحة المنقولة إلى نظام كييف لمواصلة الحرب، تساعد روسيا أصدقاءها المصريين. وارتفعت حصة واردات مصر من القمح الروسي في 2023 إلى 1.49 مليون طن من الكمية الإجمالية.

الخبز.. أمن قومي

لم تراع الدول الغربية حساسية الخبز بالنسبة للمصريين حتى أنهم يطلقون عليه “عيش” وهي كلمة مرادفة للحياة كما أن دعم الخبز في مصر مسألة تتعلق بالأمن القومي و”خط أحمر” لا يمكن تجاوزه.

تجربة عام 1977 “ما سمي الانتفاضة الشعبية أو انتفاضة الخبز” عندما سعت الحكومة المصرية تحت ضغط من صندوق النقد الدولي لزيادة سعر الخبز تسببت في أعمال شغب استمرت ليومين، وتحتاج مصر 9 ملايين طن من القمح سنويًا لإنتاج أرغفة الخبز الخمسة اليومية، التي يحق لمعظم المصريين الحصول عليها.

الدكتور نادر نور الدين مستشار وزير التموين السابق
الدكتور نادر نور الدين مستشار وزير التموين السابق

لكن الدكتور نادر نور الدين، مستشار وزير التموين السابق، يقول إن قرار مصر سيكون نافذًا اعتبارًا من نهاية يونيو/حزيران القادم، على اعتبار انتهاء السنة الزراعية في هذا الميعاد في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وإذا استطاعت الدول تقديم بعض التسهيلات للدول المستوردة أو مظلة حماية من الأسعار المرتفعة للحبوب، وذلك بعمل منح وقروض ميسرة أو تقديم الدعم، فمن الممكن أن تراجع مصر نفسها.

يقول نور الدين إن انسحاب القاهرة قد يكون بمثابة كرة الثلج، التي قد تجر في طريقها دولًا أخرى إلى الانسحاب من اتفاقية تجارة الحبوب، مضيفًا أن الولايات المتحدة اتجهت إلى زيادة أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة، مستغلة أزمة الحرب الروسية دون أي تدخل كبير من الاتفاقية لمعالجة أضرار هذه الخطوة على الدول المستوردة، وتحملت مصر تكلفة الاشتراك بهذه الاتفاقية الأممية التي تبلغ عدة ملايين من الدولارات سنويًا دون الاستفادة من الحصول على الحبوب بأسعار مناسبة.