في خطوة فاجأت العالم، أعلنت السعودية وإيران توافقهما على استئناف العلاقات الدبلوماسية. ذلك بعد قطيعة دامت قرابة سبعة أعوام، بدأت بإعدام السعودية المعارض الشيعي نمر النمر، وما أعقبه من هجوم محتجين إيرانيين على البعثات الدبلوماسية للرياض في إيران عام 2016. لكن ربما الأكثر مفاجأة من استئناف العلاقات بين الطرفين الأكثر عداوة في الإقليم هو تمكن الصين من التوسط لإنهاء هذا الصراع، والنجاح في الوصول إلى حل دبلوماسي يبدو أنه مرضيًا للطرفين. وهي خطوة استراتيجية لم تأت من فراغ، كما ستكون لها آثار ملحوظة على الإقليم كله، ودور القوى العظمى فيه.
الصين والسعودية.. المصالح والتوازنات
اهتمام الصين بمنطقة الخليج ليس بالأمر الجديد، فهناك عدة مصالح استراتيجية لبكين في المنطقة، ظهرت معالمها في السنوات الأخيرة. وفي أواخر العام الماضي، أجرى الرئيس الصيني شي جين بينج، زيارة تاريخية إلى السعودية التقى خلالها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ذلك في وقت تصاعدت فيه التوترات بين الرياض وواشنطن. كما وقعت الصين مع إيران في مارس/ آذار 2021، اتفاقًا استراتيجيًا في مجالات متعددة مثل الطاقة والنفط والتعدين لمدة 25 عامًا.
يقول بنيامين هوتون، في دراسة الدور الصيني في المنطقة، إن الصين تسعى لبناء توازنات في علاقاتها مع الطرفين المتصارعين بالمنقطة؛ إيران والسعودية، في إطار الحفاظ على مصالحها، وأبرزها اعتمادها المتزايد على النفط -الذي وصل إلى استهلاك 14.5 مليون برميل يوميًا في 2019- بينما احتلال النفط السعودي الصدارة يجعل منطقة الخليج استراتيجية في السياسات الخارجية الصينية.
كما أن الصين، وفقًا لـ”هوتون”، لها استثمارات في مجالات البنية التحتية والتكنولوجيا في إيران ودول الخليج العربي على حد سواء. وهي مهمة للأخيرة في تنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط. ذلك فضلًا عن كون السعودية وإيران من زبائن السلاح الصيني.
كذلك تستغل الصين العلاقات الجيدة مع البلدين في إطار تعزيز دورها على الساحة العالمية. فضلًا عن شرعنة سياساتها بهذه العلاقات ضد أقلية الإيجور. لكنها فيما يتعلق بإيران والسعودية لا تسعى لتغيير التوازن الذي وضعته الولايات في المنطقة، كما يرى “هوتون”.
وهو ما تتفق معه أيضًا دراسة لجوناثان فولتون، الذي يجادل بأن الصين لا تسعى لتغيير التوازنات الأمريكية بالمنطقة، بل تحاول منافسة الولايات المتحدة دون إثارة عدائها. دافعًا بأن بكين قد تكون ترى -كما واشنطن- في إيران خطرًا نظرًا للهجمات التي تهدد استقرار المنطقة، ومنها الهجوم على “أرامكو”، الذي أضر اقتصاديًا بالصين. ومن هنا يبقى للصين أنها قادرة على استخدام نفوذها للضغط على إيران لوقف الهجمات ضمانًا لاستقرار المنطقة، وبالتالي استقرار مصالحها مع دول الخليج بما يشمل إمدادات النفط.
ووفق فولتون، قد يصل الأمر إلى أن تنحاز الصين للجانب الخليجي، نظرًا للمصالح الأكبر معه مقارنة بإيران. ففي العام الماضي، أصدرت الصين مع مجلس التعاون الخليجي بيانًا مشتركًا، يدعو إلى التوصل لحل سلمي يتوافق مع القانون الدولي في أزمة جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى المتنازع عليها بين الإمارات وايران. وقد آثار هذا البيان استياء طهران، التي استدعت السفير الصيني احتجاجًا. كما أدانت بكين رسميًا هجوم الحوثين على المحطة التابعة لأرامكو في 2019.
الصين وحدود الاتفاق
حفاظ الصين على هذا التوازن بين البلدين جعلها الطرف الأمثل للوساطة في اتفاقهما. فالصين تربطها علاقات استراتيجية قوية بالطرفين، وهي قادرة على محاورتهما، على عكس الولايات المتحدة.
وكان الاعتقاد السائد قبل الاتفاق أن الصين لا تسعى لتحقيق نفوذ سياسي في الشروق الأوسط. بل تكتفي فقط بمد مصالحها الاقتصادية في سياق الاستقرار الذي تضمنه الولايات المتحدة في المنطقة. لكن كما لوحظ مؤخرًا تغير هذا الوضع. وهو ما يتفق معه بعض محللي المركز الأطلسي الذين يرون أن الصين اليوم تسعى لزيادة نفوذها السياسي في المنطقة في تحد واضح لدور الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن المحلل بوبي غوش بشبكة بلومبيرج يوضح أن تدخل الصين في هذا الملف على وجه التحديد جاء متأخرًا. وقد سبقها إلى هذا الدور قبل سنتين عُمان والعراق. كما يرى أن عودة التمثيل الدبلوماسي بين السعودية وإيران لن ينهي الحروب بالوكالة بين الطرفين.
وربما كانت هناك بالفعل مساعي للوساطة وتقدم في تخفيف العداء السعودي الإيراني. لكن هذا لا يقلل من الدور الصيني. فالصين بنفوذها قادرة على الحفاظ على التزام الطرفين وخاصة إيران بالحد من هجماتها. وبالطبع الاتفاق لن ينه الصراع السعودي – الإيراني وحرب الوكالة في المنطقة، لكنه سيخفف من حدة الصراع.
وفي كل الأحوال، تحقيق الاستقرار بين القوتين ستكون له آثار إيجابية على جميع الأطراف. حيث أن تحقيق الأمن الإقليمي سيعود بالنفع على أسواق وإمدادات النفط. وهو أمر يفيد الصين والسعودية وإيران وحتى الولايات المتحدة.
دور صيني جديد
هذا الاتفاق لا يجب أن ينظر إليه بمعزل عن توتر العلاقات بين واشنطن والرياض في ظل إدارة بايدن. وقد شهدت أوج توترها مع انتقادات الولايات المتحدة لسجل حقوق الإنسان بالسعودية، خاصةً بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، وتوعد الرئيس جو بايدن بجعل السعودية دولة “منبوذة” بسبب سجلها السيئ في حقوق الإنسان. ذلك قبل أن يتراجع لاحقًا ويزورها في 2022.
ويبدو أن هذا التوتر لن يزول قريبًا، فقد اتفقت الرياض وموسكو، قبيل انتخابات الكونجرس الأمريكية، على خفض إنتاج النفط لرفع أسعاره. ذلك في تجاهل سعودي واضح لمحاولات إدارة بايدن دفعها لزيادة الإنتاج لخفض الأسعار. كما أن الولايات المتحدة لم تتخذ موقفًا جادًا في مواجهة الهجوم على أرامكو في 2019. وهو ما جعل السعودية تفقد الثقة في الدعم الأمني الأمريكي الذي استمر سنوات طويلة سابقة، كما يقول دبلوماسي أمريكي سابق.
يقول المفكر والباحث الأمريكي جون الترمان إن إقصاء الولايات المتحدة من الاتفاق السعودي الإيراني يشير إلى أن الرياض تسعى لتنويع “مراهناتها” على أمنها. وهو يوضح أن واشنطن تريد سعودية أكثر اعتمادًا على نفسها لحماية أمنها، لكنها لا ترغب أبدًا في سعودية مستقلة عن الوجود الأمريكي، لأن هذا يضر بمصالحها.
لكن هل أقصت السعودية الولايات المتحدة تمامًا في هذا الاتفاق؟
لا يبدو أن هذا حقيقي، فقد صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي بأن بلاده كانت على علم بالمحادثات السعودية الإيرانية. لكنها لم تتدخل بشكل مباشر. وقد رحبت واشنطن بالاتفاق دون إبداء أي تحفظات.
يقول أحد المحللين لنيويوك تايمز إن الصين تبعث برسالة إلى العالم بأن قيادة الولايات المتحدة فشلت في تحقيق الاستقرار. لكن، مايكل ستيفنز -الزميل المشارك في معهد رويال يونايتد للخدمات في لندن- يرى أن الصين ربما لا تستطيع تحدي قوة ونفوذ الولايات المتحدة في المنطقة بسبب القوة العسكرية والعلاقات القوية التي تجمع واشنطن بإسرائيل.
أداء الصين في الاتفاق الإيراني – السعودي يتوافق مع سياساتها تجاه المنطقة. وهي تعتمد على الحفاظ على الاستقرار الإقليمي دون معاداة الولايات المتحدة ودون محاولة تغيير التوازنات بدعم قوى على حساب أخرى. واليوم بتمكنها من الحفاظ على التوازنات بين الخليج وإيران تكتسب الصين قوة جديدة تجعلها تنافس الولايات المتحدة وبشكل جاد في رسم الخريطة الأمنية والسياسية للمنطقة.
من المستبعد أيضًا أن تتخلى السعودية تمامًا عن الولايات المتحدة وتتجه نحو الصين. وعلى الأرجح لن توفر لها بكين حماية مماثلة لما توفره واشنطن. كما أن الصين لا تطمح للعب الدور الأمريكي في هذا الملف. لكن هذا الاتفاق الأخير يعود بالنفع على الجميع وخاصة السعودية وعلى عدة مستويات، منها تخفيف العداء مع إيران ومن ثم الحد من خطر المد الشيعي على السعودية، وأيضًا إمكانية استغلال التنافس بين واشنطن وطهران في المنطقة، وتقارب الأخيرة مع الصين، في الضغط على الولايات المتحدة في المسائل الاستراتيجية التي تتعلق بأمن السعودية ومنها إيران نفسها.
مكاسب الصين تتخطى الحدود
ربما الصين ليست قادرة على تنحية نفوذ الولايات المتحدة بالمنطقة، وربما لا تريد هذا، لكنها قد تنجح في إعادة رسم الخريطة السياسية والأمنية بالمنطقة. فعلاقاتها بالأطراف المختلفة في المنطقة جعلها لاعبًا فاعلًا قادرًا على تنفيذ أدوار عجزت فيها الولايات المتحدة.
وبكين تستخدم سردية تتحدى بها النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، بإظهار النموذج الصيني على أنه بديل ناجح للنموذج الغربي. وهي في ذلك تؤكد على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول في قضايا مثل حقوق الإنسان، كما أنها تمنح الدول الصديقة مساعدات غير مشروطة. هذا فضلًا عن تسويقها لعالم متعدد الأقطاب لا تسيطر عليه الولايات المتحدة فقط. ففي العام الماضي صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانج ون بين بأن “شعوب الشرق الأوسط هم سادة المنطقة، والشرق الأوسط ليس باحة خلفية لأحد، ولا يمكن أيضًا اعتباره ما يسمى فراغًا”. وبهذا نجحت الصين في فرض سرديتها تلك بالشرق الأوسط.
ومع ذلك، فهذا خطاب في جوهره يخدم الطموحات التوسعية للصين ويهدف إلى بسط الهيمنة والسيطرة الصينية على دول الجنوب العالمي في إفريقيا والشرق الأوسط وامريكا الجنوبية. لكنه يختلف في كونه أكثر مكرًا يصور الصين باعتبارها قوة ونموذج معادي للاستعمار والتدخل.
لا شك أن خطاب الصين جاذبًا للعديد من الدول السلطوية في إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تكتسب سرديتها إقناعًا أكبر لدول لا تريد لأحد انتقاد ملفها الحقوقي السيئ. وبالتأكيد ستكتسب هذه السردية مزيدًا من الإقناع بعد الوساطة الأخيرة للصين في العلاقات الإيرانية – السعودية. ومن ثم قد تكون هذه البداية لسحب البساط بشكل تدريجي من تحت أقدام أمريكا ونفوذها في هذه المنطقة.