تعد العلاقة بين المالك والمستأجر واحدة من أعقد العلاقات بين المصريين، إذ أنها من أكثر الأمور المسببة في تعكير صفو العلاقة بين أفراد المجتمع.
فتأبيد عقود الإيجار في كافة العقارات، المخصصة لغرض السكن أو للغرضين التجاري أو الإداري، سواء كانت تلك العقود تخص المحلات أو الشقق، كانت هي السبب الرئيس في هذا المناخ الذي أصاب الملاك بالإحباط، وهدد السلم الاجتماعي في مقتل.
وحتى بالنسبة إلى الملاك الذين ليست لهم حاجة في استرداد ممتلكاتهم العقارية من المستأجرين، فإن غضبهم وحنقهم أصبحت آيته استحالة زيادة الإيجارات الشهرية لتلك العقارات، بما يتلائم مع التضخم الذي جرى طيلة العقود الماضية، لا سيما وقد ظهر أن ما يسدد لتلك الوحدات شهريًا بضعة جنيهات، رغم أن القيمة السوقية لها ناهزت عدة ملايين من الجنيهات، بما يشي بكون تلك المدفوعات هي تقريبًا لا تتخطى 1% من قيمة إيجارها الحقيقي.
أكثر الأمور التي زادت الطين بلة، هي أن تلك العلاقة الإيجارية المستمرة التي حكمتها عقود وقع أحدثها في الثمانينيات، وكان بعضها من القدم حتى لكونه قد قام في أربعينات القرن الماضي، قد مات معظم أطرافها.
بعبارة أخرى، استمرت حالات الغبن في تلك العلاقة بعد أن تم توريث العقود الإيجارية، التي أصبحت تحكم ورثة كل من المالك والمستأجر على السواء، حتى أصبحنا اليوم نعيش بين الجيل الثاني وأحيانًا الثالث في تلك العلاقة. فورث المالك العين المؤجرة ورقيًا، بينما ورثها المستأجر بحكم الأمر الواقع.
عدم ثقة بين الأطراف كافة
عديد الأمور الإجرائية في هذا الشأن قد ساهمت في الإبقاء على حالات عدم الثقة بين الناس وبعضهم، وبينهم وبين الحكومة:
أولًا: وعود الحكومة المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود بحسم الخلاف في العلاقة بين المالك والمستأجر، دون أن تكون هناك نوايا حقيقية لحلحلة تلك المشكلة، التي امتلأت ردهات المحاكم وساحات القضاء بتفاصيلها.
ثانيًا: إن الخلافات بين أطراف العلاقة الإيجارية، تأثرت بشكل كبير بالمناخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فخلال تلك الفترة حدثت موجات متتالية من ارتفاع الأسعار، وخفض قيمة العملة المحلية.
وترافق كل ذلك مع زيادة مناخ البطالة، لا سيما مع بيع مؤسسات القطاع العام، وإعادة الهيكلة، وطرد العمال من المنشآت المباعة، وقد ترافق ذلك كله مع المناخ العولمي المتمثل في ظهور الهواتف النقالة والنت والفضائيات، التي غيرت بشكل سلبي قيم المجتمع ومثله.
ثالثًا: ارتبط بالأمر السابق بروز حيل من قبل الملاك لاستعادة أملاكهم، خاصة مع ثبات مقابل إيجارها لسبع عقود دون تغيير، وكذلك فعل المستأجرون للإبقاء على العقود الأبدية، وكلها زادت من الإساءة للعلاقة بين الطرفين، إذ قام بعض المستأجرين بتأجير الوحدات السكنية من الباطن أثناء أو بعد وفاه المستأجر الأول، كما سجل بعضهم بوسائل ملتوية العقار كأثر لمنع هدمه، ناهيك عن أن البعض أغلق العقار وأودع إيجاره الذي رفض المالك استلامه في المحاكم.
أما الملاك، فقام بعضهم باستخدام المال بسخاء لإغراء السكان على المغادرة لتسكين أبنائهم أو إعادة تأجير المكان بشكل حر أو هدم العقار واستثمار أرضه، كما قام بعضهم بإغراق الشوارع بمياه الصرف لهدم العقار، أو الحفر حوله بحفارات وجرافات للتسريع بسقوطه، ناهيك عن استخدام البلطجة أحيانًا لطرد المستأجرين.
رابعًا: أما الحكومة فقد جزأت حل المشكلة، دون أن تقترب من صلبها.
فبداية وفي العام 1992 بتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في الأرض الزراعية (قانون 96 لسنة 1992) بمنح المستأجر خمس سنوات، زادت فيها من قيمة إيجار الأرض الزراعية، ثم قامت بعد ذلك بإنهاء العقود الأبدية بين الطرفين وحررت إيجار الأرض كلية. وبعد ربع قرن تقريبًا، اتجهت إلى العقارات المبنية، وبدا أنها قسمتها إلى ثلاثة أقسام، بدأت بأيسرها.
القسم الأول، صنف يخص الشقق وصنف يخص المحلات.
القسم الثاني، قسمت فيه الصنف الأول من القسم السابق إلى صنف شقق بغرض السكن وصنف شقق تستخدم للغرض التجاري أو الإداري.
القسم الثالث، وفيه صنفت الشق الثاني من القسم السابق، إلى شقق مؤجرة للأشخاص الطبيعيين، وشقق مؤجرة للأشخاص الاعتبارية لغير غرض السكن. ومن هذا الشق الأخير، أي المؤجر للأشخاص الاعتبارية ولغير غرض السكن بدأت الحل!
حلول جزئية جرت على أرض الواقع
إن لجوء الحكومة إلى حل قضية الشقق المؤجرة للأشخاص الاعتبارية بغرض غير السكن، جاء رغمًا عنها، إذ قضت المحكمة الدستورية العليا فى القضية رقم 11 لسنة 23 قضائية “دستورية” بجلستها المعقودة فى الخامس من مايو سنة 2018، بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 18 من القانون 136 لسنة 1981 فى شأن الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، فيما تضمنه من إطلاق عبارة “لا يجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان، ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد،…”، لتشمل عدم دستوريتها في عقود إيجار الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لاستعمالها فى غير غرض السكني.
المهم في كل هذا السجال أن القانون الذي حمل الرقم 10 لسنة 2022 أصدره مجلس النواب، في 22 فبراير 2022، وصدق عليه رئيس الجمهورية، وتم نشره في الجريدة الرسمية في العدد رقم 9 مکرر (۱) في 6 مارس سنة 2022.
وكان أهم بنود هذا القانون، إخلاء الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لغير غرض السكنى بعد 5 سنوات من تطبيق القانون، وهؤلاء هم من شملتهم المادة 52 من القانون المدني رقم 131 لسنة 1948، وهم الدولة والمحافظات والبلديات وغيرهم ممن منحهم القانون لفظ “شخصية اعتبارية”، والهيئات والطوائف الدينية المعترف بها، والأوقاف، والشركات التجارية والمدنية، والجمعيات والمؤسسات والأحزاب السياسية. وأن تنتهي عقود الإيجار تلك بقوة القانون دون الحاجة لاتخاذ أي إجراء.
وأن تكون الأجرة المستحقة عند صدور هذا القانون 5 أضعاف القيمة الإيجارية القانونية المحددة، وأن تكون هناك زيادة سنوية للأجرة القانونية بنسبة 15% من قيمة آخر أجرة قانونية وذلك لمدة أربع سنوات. وأن يُخلي المستأجر العين المؤجرة ويردها للمالك في اليوم التالي لانتهاء المدة القانونية، وإلا يحق للمالك التقاضي ليأمر بالطرد وإخلاء العين من محتوياتها.
مهم أيضًا أن نذكر أنه في إطار تطور الموضوع، صدر القانون 4 لسنة 1996، ليحكم العلاقات الإيجارية بين المالك والمستأجر في الأماكن التي لم تعد مؤجرة، وهو ما سمى إعلاميًا بقانون الإيجار الجديد.
وهذا القانون حرر التعاقد من حيث تحديد المدة، وقيمة الإيجار، ووضع شروطا ميسرة لتسليم وتسلم المكان المؤجر، وجعل الاتفاق حرًا بين المالك والمستأجر في دفع الخدمات كالكهرباء والمياه وصيانة المبنى، وتعويض المالك عن التلفيات.
المهم أن هذا القانون جعل المستأجر يخلي العين المؤجرة لغرض السكن بمجرد انتهاء مدة العقد، مع إمكانية التجديد باتفاق الطرفين، وزيادة قيمة الإيجار بنسب متفق عليها كل عام، وأعطى القانون الحق للطرفين في كتابة شرط جزائي لعدم إخلال أي طرف بالتزاماته، إضافة إلى كتابة تأمين متفق عليه.
الإيجار السكني القديم ينتظر الحل
والآن ماذا عن المشكلة الرئيسة المتصلة بالكم الأكبر من الخلافات بين المالك والمستأجر في الشقق السكنية، والتي قدرها رئيس لجنة المحليات بمجلس النواب بـ3.2 مليون وحدة سكنية، منها مليون وحدة مغلقة؟.
تلك المشكلة ذات أبعاد سنجد أن حلها يتباين مع طبيعة تلك الأبعاد. فأولًا: ما هو تاريخ بناء العقار؟ وما هي مساحة العقار؟ وما هو تاريخ بناء العقار؟ وماهو موقع العقار؟ وما هو تاريخ التعاقد على تأجير العقار؟ وهل أطراف العقار ما زالوا على قيد الحياة؟ وهل العقار المعني مغلق أم مسكون؟ وما هو الظرف الاجتماعي الحقيقي الراهن للمستأجر من حيث مدى القدرة على إيجاد سكن بديل؟
كل تلك الأبعاد، جعلت الحلول متباينة، وجعلتها ملتبسة إلى حد كبير. حتى اليوم لم يخل الأمر من استمرار وعود الحكومة للطرفين في حلول ترضي جميع الأطراف.
أحد الحلول التي اقترحها مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، هو أنه ما دام يوجد كم معتبر من المستأجرين غير قادرين على إيجاد بديل للسكن محدود الإيجار، وأنهم لا بديل لهم إلا البقاء في العين المؤجرة، فإنه من المقترح أن يؤسس صندوق يتحمل جزءا من تكلفة الإيجار الحقيقي أو الجديد للعين المؤجرة.
ومن المقترحات التي وردت من نواب البرلمان، تعديل العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر في الشقق السكنية، بحيث يخرج المستأجر من العين المؤجرة ما دام لا ينتفع بها، وذلك إذا ثبت أنها مغلقة لثلاث سنوات فأكثر، وإذا توفى المستأجر إلا لو كان لدية قاصر من الورثة، سواء كان من الذكور ولم يبلغ السن القانوني، أو من البنات ولم تتزوج أو تبلغ السن القانوني.
كما ورد اقتراح آخر بأن يمنح المالك للمستأجر 40% من قيمة الوحدة السكنية مقابل خروجه، وإذا ما رغب المستأجر في تملك الوحدة فيدفع 60% من قيمتها السوقية للمالك، وإذا لم يرغب الطرفان في تخصيص الوحدة السكنية لهما يقوم المالك ببيعها للغير مقابل حيازته 60% من قيمتها وحيازة المستأجر 40% من تلك القيمة.
من المقترحات الأخرى أو المكملة أيضًا، أن يقاس مدى إشغال الوحدة بالسكن من عدمه فيما يتصل لغلقها لثلاث سنوات بكم استهلاكها من المياه والكهرباء من قبل أجهزة الدولة الرسمية، وأن يكون مبلغ 300 جنيه هو الحد الأدنى لأي عقار مر على نشأته أو إيجاره 60 سنة، و400 جنيه كحد أدنى لأي عقد إيجار مر عليه أقل من 60 سنة، و600 جنيه إيجار للمحلات مع زيادة سنوية 10% لمدة ثلاث سنوات بعدها تحرر العقود تلك المحلات. وكل ما سبق يتحتم أن يترافق مع وضع أسعار مخفضة ومقسطة لوحدات الإسكان الاجتماعي التي ينتقل لها مستأجرو الشقق القديمة أو ورثتهم من غير القادرين على إيجاد بديل.
وهكذا، ورغم الحلول المطروحة، لا زالت المشكلة قائمة. فهل ستنجز الحكومة الأمر خلال الأشهر القادمة، أم ستبقى اليد مرتعشة لحسم واحدة من أكثر القضايا حساسية في المجتمع المصري؟