فرض نجاح الوساطة الصينية في استئناف العلاقات بين كل من المملكة العربية السعودية وإيران، عددًا من الأسئلة في الفضاء العام بشأن إمكانية أن يكون هناك دور صيني في أزمة سد النهضة، وخصوصًا أن هذه الخطوة قد تم الترحيب بها من جانب واشنطن، إلى جانب عواصم إقليمية أخرى. فضلًا عن أن نجاح الصين في هذه الخطوة هو مؤشر على أداء صيني مغاير لطبيعة أداء بكين التاريخي الذي يراهن على العلاقات الاقتصادية لا السياسية في مجمل علاقات الصين بالعالم، وهو الدور الذي كان ينأى بنفسه عن التدخل في أي من الأزمات خصوصًا على المستوى الإقليمي أو في سياق أية نزاعات بسبب حرصه على علاقات جيدة بجميع الأطراف.
التقديرات المرتبطة بإمكانية دور صيني في أزمة سد النهضة تتبلور في طبيعة الاهتمامات الاستراتيجية الصينية بالقارة الإفريقية عمومًا، وبكل من إثيوبيا ومصر خصوصًا. وذلك في ضوء أن مشروعها الأعظم “الحزام والطريق” يمر طريقه الرابع بالبحر الأحمر، فضلًا عن أن اتساع أزمة من نوع سد النهضة، وإمكانية أن تتسبب في تصاعد التوتر في منطقتي شرق وشمال إفريقيا، هي مهددة لاستثمارات على مستوى استراتيجي للصين، هي الأضخم في كل القارة الإفريقية، حيث بلغت 4 مليارات دولار موزعة في 400 مشروع للبنية التحتية والصناعات التحويلية، طبقًا لأرقام أوردها تقرير لمعهد الولايات المتحدة للسلام بواشنطن.
وربما هذا ما يفسر أن بكين قد سمت مبعوثًا صينيًا خاصا لمنطقة القرن الإفريقي خلال العام الماضي. زار مصر وإثيوبيا مطلع هذا العام، وهو المبعوث الذي عرضت بكين من خلاله وساطة في أزمة حرب إقليم التيجراي التي كانت جارية في إثيوبيا، ولكن واشنطن سارعت في إغلاق الطريق أمام هذا الطرح الصيني، وكان المبعوث الأمريكي هو بطل اتفاق السلام بين التيجراي وبين أديس أبابا.
وفي ضوء الموقف الإثيوبي الراهن بشأن التهرب من توقيع اتفاق قانوني ملزم يضمن لمصر التدفقات المائية المعتادة في سنوات الجفاف والجفاف الممتد، كما يضمن تنسيقًا في تشغيل السدود في دول نهر النيل، وحوض النيل الأزرق، يكون من المطلوب أن يكون الوسيط المتداخل في هذه الأزمة المتصاعدة حاليًا وسيطًا مالكًا لأوراق ضغط على أديس أبابا، وعلاقات دافئة مع كل من مصر والسودان.
في هذا السياق، يمكن تفصيل أن أوراق الضغط التي تملكها الصين في هذا الملف يتوجها الدين الإثيوبي الضخم للصين، والذي يتجاوز 18 مليار دولار، في حين أن الاستثمارات أتاحت توظيف 200 ألف إثيوبي، سواء في العمليات الإنشائية المتعددة، أو في تركيب التوربينات في سد النهضة. وبطبيعة الحال كان لذلك كله انعكاس مباشر وإيجابي على معدلات نمو الاقتصاد الإثيوبي قبل جائحة كوفيد 19.
وفي إطار مشروع الحزام والطريق الصيني، أنشأت الصين خط سكة حديد يربط بين إثيوبيا وجيبوتي بطول 750 كم، وبتكلفة 3.4 مليار دولار، وكذلك الممر الاقتصادي بينهما. فضلًا عن تطوير المنطقة الصناعية الإثيوبية. ومثّل الاستثمار الصيني في البنية التحتية الإثيوبية فرصة كبيرة لبعض الصناعات الصينية، مثل صناعة الصلب والبناء، إذ ضخت بكين فائضها من الصلب إلى السوق الإثيوبية.
التبادل التجاري بين الصين وإثيوبيا يبلغ 4.2 مليار دولار، إذ تعد بكين الشريك التجاري الأول لأديس أبابا، بينما تحتل واشنطن المركز الثاني وبفارق كبير. إذا لا يتجاوز التبادل التجاري الأمريكي الإثيوبي 1.8 مليار دولار، وتقع الهند في المركز الثالث بما يساوي مليار وثلث المليار دولار.
على المستوي العسكري، فإن التعاون بين بكين وأديس أبابا يعود الي عام 2005، طبقًا لاتفاقية تتيح لإثيوبيا التدريب العسكري وتبادل التكنولوجيا فأصبح تدريب الجيش الإثيوبي جله في الصين. كما اشترى الجيش الإثيوبي مؤخرًا مدفعية وعربات نقل صينية، على الرغم من أن منظومة تسلح الجيش الإثيوبي روسية، واستعان بطائرات بدون طيار من الصين كانت نتائجها حاسمة في حرب التيجراي، حين غيرت الموازين العسكرية لصالح أديس أبابا.
تراكم المجهود الصيني في إثيوبيا على مدي ما يزيد عن عقدين جعلها الصديق الأكثر مصداقية، والشريك الأكثر إعزازا لإثيوبيا، على حد وصف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال الفترة الأخيرة. من هنا، فإن تحرك بكين في ملف سد النهضة سيكون مؤثرًا.
إجمالي المعطيات السالف ذكرها، تعطي مؤشرات واضحة بشأن حجم التأثير الصيني في الاقتصاد الإثيوبي وفي التوازن العسكري للدولة الإثيوبية، على الصعيدين المحلي والإقليمي، وذلك في ضوء طبيعة النزاعات الداخلية الإثيوبية، وحالة عدم الاستقرار العامة في منطقة القرن الإفريقي، وكذلك طبيعة الطموح الإثيوبي في تكوين قوة عسكرية بحرية في البحر الأحمر.
أما على صعيد سد النهضة فإن مراكز الفكر البيئية الصينية تضعه ضمن اهتماماتها البحثية، وترفع توصياتها لدوائر صنع القرار الصينية بهذا الشأن. طبقا لما ذهبت إليه د. منى حلمي بجامعة بني سويف. وهو توجه قد يكون استجابة لقصور هذا النوع من الدراسات المؤثر على الحالة البيئية في كل من إثيوبيا ومصر والسودان، والذي أوردته اللجنة الدولية بخصوص سد النهضة، كما أنه قد يكون تحضيرًا للدور الصيني في هذه الأزمة.
تفاعلات النظام الدولي في المرحلة الراهنة قد لا تمانع في تفعيل دور صيني في أزمة سد النهضة المتصاعدة، فالغرب كله -على رأسه الولايات المتحدة- مشدود إلى الحالة الصراعية مع روسيا، ويرغب في تحييد الصين في هذا الصراع حتى لا يكون في صالح روسيا، وهو أمر سيكون له تداعيات مؤلمة على واشنطن وعلى مستقبل النظام الدولي طبقًا للمنظور الغربي.
وقد يكون أن التقدير وراء عدم الممانعة الأمريكية في إفساح المجال أمام الصين لتلعب أدوارًا في الأزمات الإقليمية ذات الأهمية الجيوسياسية لواشنطن، أنه من الممكن أن تجني إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عددًا من المكاسب في هذا السياق، فهي من ناحية تجعل الصين شريكًا بوزن تحدده الولايات المتحدة في تخفيف الاحتقانات الإقليمية المؤثرة على المصالح الأمريكية بالسلب، وهي من ناحية أخرى تخفف على إدارة بايدن أدوارًا قد تثقل كاهلها في ملف منفجر كسد النهضة، خصوصًا بعد فشلها في إقناع أديس أبابا في توقيع اتفاق واشنطن في فبراير/ شباط 2020 بما شكله ذلك من إظهار ضعف أمريكي في تسوية هذه الأزمة.
على الصعيد المصري فإن أي دور صيني في أزمة سد النهضة سوف يكون مرحبا به من القاهرة، وذلك في ضوء علاقات جيدة بين القاهرة وبكين في ضوء حالة من توازن المصالح بين الطرفين. ذلك أن مصر دولة تشاطىء مباشرة ساحل البحر الأحمر، ومالكة لقناة السويس، وكلاهما معطيان استراتيجيان في المشروع الصيني للهيمنة الدولية، بما يجعل الأهمية الاستراتيجية لمصر لدي الصين كبيرة. كما أن مصر سوقًا ضخمة للسلع الصينية، وهو سوق له طابع استهلاكي، بطبيعة الملاءة المالية للمصريين، مقابل حالة إثيوبيا.
التقديرات المصرية حاولت تطويق واحتواء حالة تصاعد التوتر بين القاهرة وأديس أبابا الناتجة عن التصرفات الأحادية الإثيوبية، وذلك بالاستمرار في التخزين المائي لبحيرة سد النهضة، ذلك أن الحالة الصراعية مع إثيوبيا لها تكاليف تحاول القاهرة تجنبها، وهو ما يفسر ربما المجهود الدبلوماسي الكبير الذي تقوم به في كل مناسبة دولية أو إقليمية في توضيح عدم ملائمة الأداء الإثيوبي، وقد أثمر المجهود المصري المتراكم في تصنيف أزمة سد النهضة باعتبارها مهددة للسلم الإقليمي والدولي، حيث تبنى هذا المفهوم موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي في منتدى الأمن العالمي بالدوحة المعقود مؤخرًا، في إشارة ربما إلى أن الاتحاد الإفريقي سوف يكون أكثر فاعلية ونشاطًا في هذا الملف، كما أنه في تقديري قد يكون المنصة التي يتبلور عليها المجهود الصيني في وساطة أجدها مرتقبة في هذه الآونة .