تزايدت قرارات نزع الملكية العقارية لآلاف المواطنين بمبرر المنفعة العامة في الآونة الأخيرة، وهو ما بدأ يؤدي إلى احتجاجات في بعض المحافظات، كانت ذروتها في سبتمبر 2020، وظهر في مناطق أخرى لاحقًا.
ويتجدد الحديث مرة أخرى حول هذه الإزالات مع عزم الدولة نقل سكان جزيرة الوراق بالإضافة إلى هدم مئات البنايات في الحيين السادس والسابع بمدينة نصر، غرب القاهرة، وبعض المناطق في شمال سيناء وهو ما كان محل انتقادات برلمانية لبعض أحزاب المعارضة.
ويستدعي ذلك ضرورة الحوار حول مدى ملاءمة هذه التصرفات مع روح القانون ومبادئ العدالة والحق في السكن الآمن. والمخاوف الدائمة من عمليات الإخلاء القسري لهؤلاء السكان بالرغم من إرادتهم وهو ما تحظره مواد الدستور والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهناك توسع كبير في هذا النهج بالفترة الأخيرة، بخلاف ما كان يحدث في سنوات سابقة، كان يمثل في جزء منه تطوير لبعض المناطق العشوائية غير المخططة، ونقل سكان بعض المناطق الجبلية الخطرة كما حدث في منشية ناصر والمقطم.
وبدأ الرأي العام يسمع عن أحياء ومناطق جغرافية كانت مجهولة إلى وقت قريب بعدما تردد صدى شكوى مواطنيها، وبعض هذه المناطق لم تكن أساسًا ضمن حزام العشوائيات في السابق، ومع ذلك يتم نزع ملكيتها ومنها مربع ماسيرو سابقًا، المرج، منطقة الكيلو 4.5 ومساكن ألماظة بالقاهرة، منطقة ترسا ونزلة السمان بالجيزة ومنطقتي الصيادين بالمكس وعزبة نادي الصيد بالإسكندرية، ومحور المحمودية بالبحيرة، فضلًا عن مئات المساكن التي تحيط بالطريق الدائري وكثيرًا ما يتم نزع هذه الملكيات الخاصة رغم بنائها في مناطق مخططة، ووفقا لتصاريح قانونية صادرة عن الجهات الإدارية.
يتم نزع هذه الملكيات وهدم البيوت أيضًا بهدف بناء عدد من الطرق والمحاور المرورية التي تؤدي للعاصمة الإدارية دون وضع المصلحة العامة للمواطنين محل الاعتبار بفقدان ملكياتهم، ونقلهم لأماكن أخرى بعيدًا عن مناطق عملهم ولا توفر الدولة إلا تعويضات أقل كثيرًا من قيمة هذه الأراضي على الرغم من إشارة دستور 2014 إلى ” تعويض عادل” في حالات نزع الملكية للمنفعة العامة، ويتم إعطاء المواطنين حق انتفاع لهم في الأماكن التي تم نقلهم إليها وبمقابل شهري، رغم أنهم كانوا يتمتعون بالملكية الكاملة لسكنهم السابق.
كما تأتي بعض الإزالات تنفيذًا للمخطط العمراني للقاهرة 2050، وهو ما يتم في بعض مناطق القاهرة المملوكية، ومنطقة الأهرامات، وإزالة عدد كبير من المقابر بمنطقة البساتين والسيدة نفيسة ومقابر منطقة المماليك التي تمثل جزءًا من التراث الأثري بالقاهرة القديمة.
كما تستخدم أجهزة الإدارة خطواتها في تجاهل شبه كامل لأي نوع من المشاركة المجتمعية والحوار حول هذه القرارات من خلال القبض على العشرات منهم في حال احتجاجهم على تلك القرارات وهو ما حدث في عدد من الحالات.
ولا يوفر قانون نزع الملكية رقم 10 لسنة 1990 وتعديلاته مظلة آمنة لحقوق المواطنين، حيث يعطي القانون عددا من الصلاحيات المطلقة للجهة الإدارية، ويعد من أعمال المنفعة العامة وفقًا للقانون إنشاء الطرق والشوارع والميادين أو توسيعها وتعديلها، ومشروعات المياه والصرف الصحي والطاقة، وإنشاء الكباري والمزلقانات والممرات السفلية أو تعديلها، ومشروعات النقل والمواصلات، …الخ. كما يعد من أعمال المنفعة المنصوص عليها في أي قانون آخر، بل يجيز القانون الاستيلاء بطريق التنفيذ المباشر على العقارات التي تقرر لزوم نزع ملكيتها للمنفعة العامة قبل صدور قرار بذلك من جهة الاختصاص.
ولا يعطي القانون الحق للمتضررين إلا في الاعتراض على البيانات الخاصة بعملية الحصر وتحديد العقارات أو الاعتراض على التعويض الذي يتم دون مفاوضات.
وتسعى الدولة إلى القيام بهذا النموذج منذ سنوات بإجلاء أهالي جزيرة الوراق في سياق مخطط استثماري للمنطقة، مقابل تعويضات غير عادلة أو نقلهم لأماكن أخرى.
وهناك عدد من الملاحظات الخاصة بهذا المسار من أهمها:
ـ ميل المشرع المصري بشكل دائم إلى منح جهة الإدارة سلطة واسعة في تقرير المنفعة العامة سواء بعدم حصر الأعمال التي يمكن اعتبار تنفيذها للمنافع العامة، وبالسماح بالسلطة التنفيذية باعتبار أعمال أخرى غير المنصوص عليها تتم للمنفعة العامة، كما أن القانون الحالي لم يحدد معايير واضحة للجنة المنوط بها في تقدير قيمة التعويض، بل ترك لها سلطة تقديرية في ذلك على عكس القانون الفرنسي الذي نص على تناسب قيمة التعويض مع قيمة الضرر المباشر المادي المحقق حدوثه والواقع نتيجة نزع الملكية.
ـ لجوء الجهة الإدارية إلى التوسع بإصدار قرارات نزع الملكية أو الاستيلاء الفوري على العقارات، دون انتظار أحكام القضاء في حال طعن السكان على قرارات نزع الملكية، وفرض خياراتها المجحفة على المواطنين سواء في تقدير التعويضات البخسة للملاك أو إهدار حقوق المستأجرين الذين لا يشملهم القانون بشكل واضح.
ولا ينظم القانون المشار إليه الوضع بخصوص اعتراض الأفراد على هذه القرارات، والتأكد أنها صدرت بالفعل للمنفعة العامة، ويوازن بين الأضرار والمنافع المستهدفة من إصدار هذه القرارات.
ـ لا تضع السلطة التنفيذية مصالح الأفراد التي حماها الدستور، ومنها الحق في السكن الآمن والملائم، وتجريم فكرة الإخلاء القسري للسكان، ولا توازن بين الغاية التي تستهدفها الإدارة وبين مصالح المواطنين الذين لا يتم الحوار معهم ووضع مصالحهم بعين الاعتبار، أو إعطاءهم تعويضات بالسعر العادل، وكثيرًا ما ينقلون إلى أماكن أقل في المساحة والحجم.
ـ أن هناك العديد من التعديلات التي صدرت في سياق ملف البناء والتخطيط العمراني والتي تضر بالاستقرار السكاني وحقوق الملكيات، وتم استبعاد المواطنين من المشاركة في إقرار هذه التشريعات، ومن أبرزها تعديلات قانون الشهر العقاري وعدم جواز إدخال الخدمات على المساكن التي لم يتم تسجيلها وإشهار عقودها في الشهر العقاري، وإلزام السكان بدفع مبالغ مالية باهظة مقابل هذا الإشهار، فضلًا عما يتم من نقاش لتعديل قانون الإيجارات في مجلس النواب.
من جانب آخر ينبغي التأكيد على عدد من المفاهيم الواردة في القانون الدولي لحقوق الإنسان التي تعتبر الحق في السكن اللائق، أحد هذه الحقوق، ويستتبع ذلك ضرورة الالتزام باحترام المبادئ الأساسية التي قررها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبشكل خاص المادة 11 التي تعتبر الحق في المأوى ضمن حق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته. وكذلك المبادئ الأساسية التي نص عليها دستور 2014 في مواده (35 ،63، 78) وبشكل خاص:
ـ صون الملكية الخاصة، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدمًا وفقا للقانون.
ـ حظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، واعتبار ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم.
ـ كفالة الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية
ـ الأخذ في الاعتبار معايير الحق في السكن التي أكد عليها برنامج الأمم المتحدة لحقوق السكن وهي مبادرة مشتركة بين برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية والمفوضية السامية لحقوق الإنسان ومن أهمها منع عمليات الإخلاء غير القانوني وعمليات الإخلاء بالإكراه، ومنع جميع أشكال التمييز، وتوفير سبل الانتصاف المحلية والتطبيق المحلي للقانون الدولي، والتأكيد على الحريات المرتبطة بالحق في السكن ومنها جعل السكن بتكلفة معقولة وفي متناول الجميع، الحق في حرمة الخصوصيات الشخصية ومراعاة حرمة المسكن، مراقبة الحق في السكن بطريقة ديمقراطية، زيادة الإنفاق العام على السكن وتخصيص اعتمادات مناسبة له. وفي بعض القضايا التي عرضت على لجنة مناهضة التعذيب رأت اللجنة أنه يمكن اعتبار عمليات الإخلاء القسري ضرب من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة.
ـ وأكدت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقاتها العامة على الترابط بين الحق في السكن الملائم وحقوق الإنسان الأخرى، مثل الحق في حرية التعبير والحق في حرية تكوين الجمعيات مثل رابطات المستأجرين وغير ذلك من الجماعات المحلية وحق الشخص في اختيار محل إقامته وحق المشاركة في اتخاذ القرارات العامة باعتباره أمرًا لا غنى عنه إذا ما أريد إعمال هذا الحق والمحافظة عليه لصالج جميع الفئات.
كما يدخل حق الفرد في عدم الخضوع لأي تدخل تعسفي أو غير مشروع في خصوصياته أو خصوصيات أسرته أو منزله أو مراسلاته، بعدًا بالغ الأهمية في تعريف هذا الحق في السكن الملائم.
واعتبرت اللجنة أن حالات إخلاء المساكن بالإكراه تتعارض للوهلة الأولى مع مقتضيات العهد الدولي ولا يمكن أن تكون مبررة إلا في بعض الظروف الاستثنائية ووفقا لمبادئ القانون الدولي ذات الصلة، ومنها التعويض الكافي عن أي ملك عقاري أو شخصي تضرر نتيجة الإخلاء، وعلى الحكومات القيام باستكشاف جميع البدائل الممكنة قبل تنفيذ أي عملية إخلاء، من أجل تفادي الحاجة إلى استخدام القوة أو استخدامها إلى أدنى حد ممكن.
وعند تنفيذ عمليات الإخلاء كملجأ أخير يجب أن تُمنح للمتضررين ضمانات إجرائية فعالة قد يكون لها أثر رادع على عمليات الإخلاء. ومنها : إتاحة فرصة التشاور الحقيقي، والإشعار قبل إجراء الإخلاء بوقت كاف ومعقول، وتوفير المعلومات عن الإخلاء المقترح قبل تنفيذه بوقت معقول، وحضور موظفين حكوميين أو ممثليهم أثناء الإخلاء، والتعريف الصحيح بهويات الأشخاص منفذي الإخلاء، وتوفير سبل اللجوء للقضاء والمساعدة القانونية لمن يحتاجونها من أجل التظلم لدى المحاكم. وفي الالتزام برفض الإخلاء القسري يشير دستور جنوب إفريقيا الصادر عام 1996 بشكل واضح إلى حظر الإخلاء بالإكراه، وبأنه لا يجوز طرد أي شخص من مسكنه أو هدم مسكنه دون استصدار حكم من المحكمة تراعي فيه جميع الظروف المحيطة بالقضية، ومن المحظور وضع أية تشريعات تسمح بالإخلاء بالإكراه من المسكن.
يتطلب الالتزام بهذه الضمانات السابقة إعداد تعديل كامل للقانون 10 لسنة 1990، بما يؤكد على عدم قيام أجهزة الدولة بتنفيذ قرارات نزع الملكية إلا بعد انتهاء حكم القضاء في أي دعاوى مرفوعة بهذا الشأن للتأكد من غرض المنفعة العامة، وحق المواطنين في الانتصاف القانوني، وعدم اللجوء للإخلاء القسري إلا في الحالات الاستثنائية، واكتشاف البدائل الأخرى لهذا الإخلاء وكفالة المراقبة الشعبية وومراقبة منظمات المجتمع المدني لهذه القرارات. كما يجب الالتزام بنصوص الدستور المصري الذي يحظر عمليات الإخلاء القسري التعسفي.
ويحتاج ذلك إلى تغيير هذا النهج الحكومي الذي يفضي إلى مزيد من الاحتقان الشعبي، وغياب الاستقرار المجتمعي والذي يتزامن مع زيادة الضغوط الاقتصادية على المصريين وتحميلهم فاتورة سياسات لم يشاركوا في وضعها، بما يزيد حالة عدم الثقة من أجهزة الدولة تجاه الفقراء والطبقة المتوسطة، والذي يزيده تغييب مشاركة المواطنين في مناقشة وإقرار هذه التوجهات والتشريعات التي تؤثر على حياتهم.