في تاريخ مصر الحديث رسالتان بينهما 31 سنة وسبعة أشهر وستة عشر يومًا، سبقت كل واحدة منهما قيام ثورة كبيرة في تاريخنا.

الأولى رسالة قيادات الوفد المصري إلى السلطان فؤاد في 2 مارس 1919 قبيل اندلاع الثورة الشعبية الأضخم حتى ذلك التاريخ، والثانية جاء توقيتها في يوم 18 أكتوبر سنة 1950 مقاربًا لاندلاع ثورة يوليو 1952 التي أسقطت حكم الملك فاروق وأنهت معه صفحة الأسرة العلوية من التاريخ المصري.

والرسالتان تطلان علينا من التاريخ تعطينا بعض دروسه، وتعلمنا بعض أساليبه، وتشجع قلوبنا على مفارقة الخوف من سطوة الحكام، والحرص على قول الكلمة الواجبة في وقتها، بدون خوف ولا وجل وارتعاش القلوب الواجفة.

في مارس 1919، وفي ظل الاحتلال، ورغم استبداد السلطان، استطاعت المعارضة أن تقول كلمتها في وقتها، لم تتأخر فتضيع قيمتها، ولم تصمت فتسقط أدوارها.

وفي أكتوبر 1950، ورغم استمرار الاحتلال، وفي عز تسلط الملك، جاءت كلمة المعارضة كأنها نذير لثورة باتت طلائعها تدق الأبواب لتحدث التغيير.

***

في مقدمات ثورة 1919 رسالة من المعارضة الوطنية إلى السلطان فؤاد وقتها، بعد أن تبدى لها أن السلطان بصدد قبول استقالة وزارة حسين رشدي باشا لأنها أظهرت تعاطفًا مع مشاركة الشعب شعوره وتمكينه من رفع صوته في مؤتمر الصلح وكان برنامجها واضحًا وصريحًا مع الآمال الشعبية.

وما دامت في الحكم فإن الشعب لم يفقد الأمل في أن يتمكن من رفع صوته في المؤتمر، كان الرأي العام على اطمئنان أن تنجح المساعي في تمثيل مصر في المؤتمر ما بقيت وزارة رشدي باشا ولم يقبل السلطان استقالتها، لأن عدم قبول الاستقالة معناه إمكان تنفيذ وجهة نظرها من هذه الناحية، ومعناه أيضًا أن السلطان متفق مع الوزارة في سياستها.

فلما قبل السلطان استقالة رشدي باشا، وبدا من كتاب قبول الاستقالة أن في الأفق وزارة جديدة ستؤلف، أدرك الرأي العام أن تأليف الوزارة الجديدة سيكون طبعًا على أساس تثبيت الحماية وعدم تمثيل مصر في مؤتمر الصلح، ما يعني انفصال السراي عن مطالب الأمة ولإذعانه للتدخل البريطاني.

كان قبول الاستقالة هو نقطة التحول في سياسة السراي، وكان قادة الوفد المصري هم أول من شعر بالخطر من هذا التحول، فقرروا رفع كتاب إلى السلطان في 2 مارس سنة 1919 على إثر قبول استقالة وزارة رشدي باشا.

احتوى على عتب شديد، بل على اعتراض قوي على قبول استقالة الوزارة، واعتبروا هذا القبول معاونة للسياسة البريطانية في إذلال الشعب.

***

في نص الرسالة قالت المعارضة الوطنية وقتها للسلطان فؤاد:

يا صاحب العظمة:

يتشرف الموقعون على هذا أعضاء الوفد المصري أن يرفعوا إلى مقام عظمتكم بالنيابة عن الأمة ما يلي:

لما اتفق المتحاربون على أن يجعلوا مبادئ الحرية والعدل أساسًا للصلح، وأعلنوا أن الشعوب التي غيرت الحرب مركزها يؤخذ رأيها في حكم نفسها، أخذنا على عاتقنا السعي في استقلال بلدنا، والدفاع عن قضيتها أمام مؤتمر السلام ما دام أن حق الأقوى قد زال من ميدان السياسة، وما دامت بلادنا قد أصبحت بزوال السيادة التركية حرة من كل حق عليها، لأن الحماية التي أعلنها الإنجليز بلا اتفاق بينهم وبين الأمة المصرية باطلة، ولم تكن في الواقع إلا ضرورة حربية تزول بزوال الحرب.

اعتمادًا على هذه الظروف، وعلى أن مصر غرمت كل ما قدرت عليه من المغارم في صف القائلين بحماية حرية الأمم الصغرى، لا يكون لدى مؤتمر السلام ما يمنع من الاعتراف بحريتنا السياسية جريًا على المبادئ التي أسس عليها.

عرضنا رغبتنا في السفر على كبير وزرائكم صاحب الدولة حسين رشدي باشا، فوعد بمساعدتنا على السفر وثوقًا منه أننا إنما نعبر عن رأي الأمة كافة، فلما لم يُسمح لنا بالسفر، وحبسنا داخل حدود بلادنا، بقوة الاستبداد لا بقوة القانون، وحِيل بيننا وبين الدفاع عن قضية هذه الأمة الأسيفة، ولمَّا لم يستطع أن يحتمل مسئولية البقاء في منصبه، في حين أن الشعب يصادر في مشيئته، استقال هو وزميله عدلي يكن باشا استقالة نهائية قوبلت من الشعب بتكريم شخصيهما، والاعتراف بصدق وطنيتهما.

ولقد كان الناس يظنون أنه كان لهما في وقفتهما الشريفة دفاعًا عن الحرية عضد قوي من نفحات عظمتكم، لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين، لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا، وتمكينًا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانًا بالرضى عن حكم الأجنبي علينا إلى الأبد.

قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين لاعتبارات عائلية أن تقبلوا عرش أبيكم العظيم الذي خلا بانتقال أخيكم المغفور له السلطان حسين، ولكن الأمة من جهة أخرى كانت تعتقد أن قبولكم لهذا العرش في زمن الحماية الوقتية الباطلة رعاية لتلك الظروف العائلية ليس من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم، غير أن حل المسألة بقبول استقالة الوزيرين اللذين أظهرا احترامهما لإرادة الأمة لا يمكن أن يتفق مع ما جبلتم عليه من حب الخير لبلادكم، والاعتداد بمشيئة شعبكم.

ولذا فقد عجب الناس من مستشاريكم كيف أنهم لم يلتفتوا إلى الأمة في هذه الظرف العصيب إنما تطلب منكم – يا أرشد أبناء محررها الكبير محمد علي – أن تكونوا لها العون الأول على نيل استقلالها مهما كلفكم ذلك.

كيف فات مستشاريكم أن عبارة استقالة رشدي باشا لا تسمح لرجل مصري ذي كرامة ووطنية أن يخلفه في مركزه؟، كيف فاتهم أن وزارة جديدة تؤلف على برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضي عليها بالفشل!

عفوًا يا مولانا قد تكون مداخلتنا في هذا الأمر، وفي غير هذه الظروف، غير لائقة، ولكن الأمر قد جلَّ الآن عن أن يُراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن الذي أنت خادمه الأمين.

إن لمولانا أكبر مقام في البلاد، فعليه أكبر مسئولية عنها، وفيه أكبر رجاء لها.

إننا نؤكد لسُدته العلية أنه لم يبق أحد في رعاياه من أقصى البلاد إلى أقصاها إلا وهو يطلب الاستقلال، فالحيلولة بين الأمة وبين طلبتها مسئولية لم يتحر مستشارو مولانا أمرها بالدقة الواجبة، لذلك دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع إلى سُدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاءً في استقلالها، وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها، ويقف في صفها، فتنال بذلك غرضها، وإنه على ذلك قدير.

وإننا نتشرف بأن نرفع عبارات الإخلاص إلى مقام عظمتكم الكريم. (توقيعات أعضاء الوفد)

***

لم يتلق الوفد من السراي ردًا على كتابه، ولم يكن له أي تأثير في موقف السلطان، بل مضى في سبيل تأليف وزارة جديدة تجعل خطتها مسايرة السياسة البريطانية.

لكن الرد جاء من الشعب المصري بعد أقل من أسبوع انفجرت فاعليات ثورة 1919 وبدأت تاريخًا جديدًا.

وجاءت الرسالة الثانية إلى نجله فاروق قبيل اندلاع ثورة يوليو 1952، اجتمع أقطاب المعارضة وقتئذ وقد هالهم أن تنحدر أداة الحكم وسمعته إلى الحضيض وتداولوا فيما يجب أن يعملوه لعلاج هذه الحالة التي أخذت تتفاقم فاتفقوا على أن يرسلوا إلى فاروق كتابًا يدينون فيه هذا الفساد المستشري ويطلبون منه أن يضع حدًا له، وأن يعود إلى الوضع السليم في الحكم بتصحيح الأوضاع الدستورية تصحيحًا شاملًا وعاجلًا، ومعالجة المساوئ التي تعانيها البلاد

وأشاروا إلى أن الشعب قد صبر طويلًا على هذه المساوئ، وأن هذا الصبر له حد ينتهي إليه.

هي صيحة مدوية بمجاهرة فاروق وهو في أوج سلطته وطغيانه باستنكار مساوئه ومساوئ الحكم الذي كان له دخل كبير في إفساده، وجاء نص رسالة المعارضة إلى فاروق قبيل اندلاع الثورة ضده وإسقاطه حكم الأسرة العلوية واغلاق صفحتها من التاريخ المصري:

يا صاحب الجلالة:

«إن البلاد لتذكر لكم أيامًا سعيدة كنتم فيها الراعي الصالح والرشيد، وكانت تحف بكم أمة تلاقت عند عرشكم آمالها، والتفت حول شخصكم قلوبها، فما واتتها فرصة إلا دلت فيها على عميق الوفاء والولاء لكم، وما العهد ببعيد بحادث القصاصين، وقد أنقذكم الله من مخاطره، وهو أرحم الراحمين.

اليوم تجتاز البلاد مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث، ومن أسفٍ أنها كلما اتجهت إلى العرش في محنتها حيل بينه وبينها، لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكانًا في الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف، فأساءوا النصح وأساءوا التصرف، بل إن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات، هي الآن مدار التحقيق الجنائي الخاص بأسلحة جيشنا الباسل، حتى ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتمًا عن تناولهم بحكم مراكزهم.

كما ساد الاعتقاد من قبل أن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابي قد أضحى حبرًا على ورق منذ أن عصفت العواصف بمجلس الشيوخ فصدرت مراسيم يونيو 1950 التي قضت على حرية الرأي فيه، وزيفت تكوين مجلسنا الأعلى كما زيفت الانتخابات الأخيرة من قبل تكوين مجلس نوابنا.

ومن المحزن أنه قد ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساوئ وغيرها من الشائعات الذائعات، التي لا تتفق مع كرامة البلاد، حتى أصبحت سمعة الحكم المصري مضغة في الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا في صورة شعب مَهين يساق كما تساق الأنعام.

والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلي مراجله، وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون.

يا صاحب الجلالة

لقد كان حقًا على حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، ولكنها درجت في أكثر من مناسبة على التخلص من مسئوليتها الوزارية بدعوى “التوجيهات الملكية” وهو ما يخالف روح الدستور وصدق الشعور،

ولو أنها فطنت لأدركت أن الملك الدستوري يملك ولا يحكم، كما أنها توهمت أن في رضاء الحاشية ضمانًا لبقائها في الحكم، وسترًا لما افتضح من تصرفاتها، وما انغمست فيه من سيئاتها، وهي ما تزال أشد حرصًا على البقاء في الحكم، وعلى مغانمه منها على نزاهته،

ولهذا لم نر بدًا من أن ننهض بهذا الواجب فنصارحكم بتلك الحقائق ابتغاءً لوجه الله والوطن.

لا ابتغاء حكم ولا سلطان، وبرًا بالقسم الذي أديناه أن نكون مخلصين للوطن والملك والدستور وقوانين البلاد.

وما الإخلاص لهذه الشعائر السامية إلا إخلاص الأحرار الذي يوجب علينا التقدم بالنصيحة كلما اقتضاها الحال.

يا صاحب الجلالة

إن احتمال الشعب ـ مهما طال ـ لا بد منتهٍ إلى حد له.

وإننا لنخشى أن تقوم في البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالي وسياسي وخلقي، فتنتشر فيها المذاهب الهدامة بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد.

لهذا كله، نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحًا شاملًا وعاجلًا.

وأن ترد الأمور إلى نصابها، وتعالج المساوئ التي تعانيها مصر على أساس وطيد من احترام الدستور، وطهارة الحكم، وسيادة القانون، بعد استبعاد من أساءوا إلى البلاد وسمعتها، ومن غضوا من قدر مصر وهيبتها، وفشلوا فشلاً ساحقًا في استكمال حريتها ووحدتها ونهضتها حتى بلغ بهم الفشل أن زلزلوا قواعد حكمها وأمنها، وأهدروا فوق هذا اقتصادها القومي، فاستفحل الغلاء إلى حد لم يسبق له مثيل، وحرموا الفقير قوته اليومي.

ولا ريب أنه ما من سبيل إلى اطمئنان أية أمة لحاضرها ومستقبلها إلا إذا اطمأنت لاستقامة حكامها، فيسير الحاكمون جميعًا في طريق الأمانة على اختلاف صورها، متقين الله في وطنهم، متقين الوطن في سرهم وعلنهم

والله جلت قدرته هو الكفيل بأن يكلأ الوطن برعايته فيسير شعب الوادي قدمًا إلى غايته».

(توقيعات)

***

لا شيء غير الخوف يقف عقبة أمام معارضة حقيقية ليسكتها، أو يكمم أفواهها، تكميم الأفواه ينتج أثره مع هؤلاء الذين يخشون من الجهر بقول الحقيقة، ويغضون الطرف عن الصدح بكلمة حق في وجه سلطان جائر.

تاريخنا يثبت أن هناك دائمًا إمكانية لأن تقول كلمتك، مخلصة لوجه الوطن، وصادقة من أجل الحق والحقيقة.

المعارضة الحقيقية لا ترقص على أنغام وضعت لحنها السلطة، وكتب التسلط نوتتها الموسيقية، ولا تكتفي بلعب دورها في ملاعب السلطان.

حين طالعت نصوص هاتين الرسالتين تبادر إلى ذهني سؤال عما تحتويه رسالة المعارضة المدنية اليوم إلى الرئيس، وسرحت طويلًا في موضوعات الرسالة وفي طريقة صياغتها، وما تطرحه من بدائل لم يعد الوقت يحتمل أي تأخير عن الشروع في التلاقي الوطني عليها والمسارعة إلى تنفيذها.

بانتظار رسالة المعارضة إلى الرئيس، فماذا أنتم قائلون؟