كلما زادت معدلات التفاوت الاجتماعي والفقر، وتراجعت درجات تلبية الحقوق الأساسية، وضمنها الصحة والسكن والغذاء، تزداد على الفور، حالة معاناة كبار السن. خاصة مع ازدياد وتعقد مشكلات العمل والضمان الاجتماعي، ضمن الأوضاع الاقتصادية المعقدة. ومن هنا تأتي قضية العدالة الاجتماعية كأولوية ضرورية لأسباب عدة، على رأسها رعاية الفئات التي تعاني هشاشة اجتماعية واقتصادية، ومن بينهم كبار السن.
شهد العالم خلال عقد مضى، عدة أزمات، صراعات إقليمية وأوبئة وحروب، وتنامي في الاختلالات الاقتصادية، وتراجع في مستويات الحقوق الأساسية للمواطنين، ما تسبب في ارتفاع معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي والجوع.
ويٌعتبر غياب العدالة الاجتماعية في المنطقة العربية واقعًا لا يحتمل جدلًا. والأرقام والإحصاءات تقول ذلك. فوفق تقرير للأمم المتحدة يستأثر واحد في المئة بين أغنى سكان العالم بنسبة 82% من ثروته. ومنذ عام 2010، تتزايد ثروات الأغنياء بسرعة تفوق بستّ مرات زيادة أجور العمال وما يلحق بذلك من عدم استقرار وحرمان من الحماية الاجتماعية وضمان الشيخوخة ومقوّمات العيش الكريم.
غياب قضايا الشيخوخة
وفقًا للأرقام، بلغ عدد كبار السن في مصر 6.9 مليون مسن في عام 2022، منهم 3.7 مليون من الذكور، و3.2 مليون من الإناث. ومن المتوقع أن يصبح متوسط عمر الذكور 69.7 سنة، و74.1 سنة للإناث، وفقًا لتقديرات السكان في يوليو/ تموز 2022.
ووصلت مؤسسات رعاية المسنين في عام 2021 إلى 167 مؤسسة على مستوى الجمهورية. فيما بلغت قيمة معاشات التضامن الاجتماعي للأسر التي يرعاها مسنون حوالي 37 مليون جنيه، لإجمالي 6472 أسرة.
وحسب تقرير دور اقتصاد الرعاية في تعزيز المساواة المبنية على النوع الاجتماعي، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومنظمة العمل الدولية، يغيب إدراج الشيخوخة عن جدول أعمال الحكومات. في حين هناك سبعة بلدان فقط لديها استراتيجيات وطنية وأطر قانونية متكاملة لتحسين حالة كبار السن في المنطقة العربية، بما في ذلك خدمات الرعاية الاجتماعية للشيخوخة.
الشيخوخة والرعاية
تشير قاعدة البيانات العالمية لأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، والمستندة إلى عينة من 32 دولة نامية و 24 دولة متقدمة، إلى اختلاف كبير بين الجنسين في نسبة الوقت الذي يقضيه في الرعاية غير مدفوعة الأجر والعمل المنزلي، تقضي النساء في البلدان النامية، ما يقارب من 17.3% من وقتهن في الرعاية غير مدفوعة الأجر خلال مرحلة الشيخوخة، بينما يقضي الرجال 5.8% من وقتهم.
وفي البلدان المتقدمة تقضى النساء 17.1% من وقتهن في الرعاية الأسرية، بينما يقضي الرجال نسبة 8.7% من وقتهم في مرحلة الشيخوخة في الرعاية الأسرية غير مدفوعة الأجر. وبهذا تتحمل النساء أكثر من الرجال وطول مراحل العمر مسئولية القيام بأعمال غير مدفوعة الأجر.
كذلك، تشير بيانات منظمة العمل الدولية عام 2018 إلى أن ساعات الرعاية الأسرية تبلغ 16.4 مليار ساعة من وقت العمل سنويًا، وهو ما يعادل ملياري وظيفة.
في مصر، تقضي المرأة المتزوجة سبعة أضعاف وقت الرجل المتزوج في القيام بالمهام المنزلية غير مدفوعة الأجر. في حين تقضي النساء غير المتزوجات 5.6 أضعاف ما يقضيه الرجال غير المتزوجين.
تقوم النساء بعمل غير مدفوع الأجر داخل الأسرة، وهو الوضع الذي يستوجب من صانعي السياسات على المستوى المحلي خلق توافق ما بين العمل والرعاية الأسرية عبر سياسات اجتماعية واقتصادية فعالة من بينها أنظمة معاشات تقاعدية تراعي النوع الاجتماعي وتضمن معدلات دخل للنساء في سن الشيخوخة تساهم في تلبية الاحتياجات المعيشية لهن.
حالة الإعالة
تشير دراسة مشكلة الطلاق بين المسنات للباحثة سالي محمود، إلى ارتفاع حالات الطلاق بين المسنين. ويوضح تحليل للتقديرات السكانية للعام 2014 أن 47% من المسنات، تعرضن لتجربة الطلاق بعد عشر سنوات زواج، دون اعتبار لمدة الحیاة الزوجیة التي كان من المفترض أن تكون عاملًا للاستمرار في الحیاة الزوجیة. لكن حسب نتائج الدراسة، لعبت العوامل الاقتصادية دورًا أساسيًا فى الطلاق، وكان انخفاض الدخل وخاصة بين العمالة غير المنتظمة دافعًا رئيسيًا.
وكما أفادت سيدات ضمن عينة البحث، فإنهن يعتمدن غالبًا على أولادهن في تغطية احتياجاتهن.
وتعاني المسنات من مشكلات حال طلاقها، أبرزها -حسب الدراسة- فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي وعدم القدرة على الحصول على عمل ومعاش مناسب ومسكن بسعر معقول، مع عدم كفایة الرعایة الصحیة لهن، غير محيط الأسرة الذي يتم أحيانًا استغلال المسنة المطلقة فيه لتربیة الأحفاد، حتى وإن كانت ظروفها الصحية لا تساعد.
في بيانات سابقة حول أوضاع الزواج للمسنين، تبين أن معظم المسنين الذكور متزوجين حوالي (85%، 86% في عامي 1986 و2006 على الترتيب). بينما معظم الإناث المسنات أرامل حوالي (66%، 63% في عامي 1986 و2006 على الترتيب).
ووفقًا لنشرة الزواج والطلاق عام 2018، بلغت نسبة عقود الزواج بين المسنين 2.1% من إجمالي عقود الزواج التي تمت خلال عام 2018، في حين بلغت نسبة إشهادات الطلاق 9.0% من إجمالي إشهادات الطلاق التي تمت في العام ذاته. والمقصود بإشهادات الطلاق توثيقه بشهادات رسمية.
ومن المحتمل أن تتأثر احتياجات الرعاية لكبار السن في المنطقة العربية بسبب أمراض مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية، والتي تتسبب في 75% من الوفيات في المنطقة. وتتراوح هذه الحصة من أقل من 60% في اليمن والعراق إلى أكثر من 80% في تونس ومصر ولبنان.
أمراض المسنين
تظهر الإحصائيات العالمية أن متوسط عمر النساء أعلى من متوسط عمر الرجال. بيد أن المسنات يعانين من انتشار أكبر للعجز والمرض عن الرجال، مثل الأمراض المزمنة كالتهابات المفاصل والخشونة وهشاشة العظام وهي الأكثر شيوعًا ما بين النساء، كما لا تتلقى النساء في كثير من الأحيان الرعاية الصحية وفق احتياجاتهن.
وتؤثر الظروف الاقتصادية والاجتماعية في تلقى وإتاحة الرعاية الصحية عمومًا، ولكبار السن خصوصًا، وأيضًا فرص التوظيف، ومعدلات الدخل، وهي عوامل تساهم في انتشار الأمراض المزمنة، كما تؤثر في قدراتهن الوظيفية مع تقدم العمر، وبالضرورة على طبيعة وتكاليف الرعاية الواجبة في مرحلة الشيخوخة.
وكانت جائحة “كوفيد 19” مؤشرًا حقيقيًا على جودة نظم الحماية الاجتماعية للشيخوخة، وقدرة النظم الصحية على تلبية وتقديم خدمات صحية للفئات الأكثر عرضة للخطر.
الشيخوخة الصحية
يشير أحدث تقرير للأمم المتحدة حول المسنين، إلى ضرورة تعزيز الصحة والوقاية من الأمراض وعلاجها على مدار العمر، إذ يمكن أن تساهم حالات اعتلال الصحة في أوقات مبكرة من العمر بتأثير كبير على حياة الأفراد في مرحلة تقدم العمر.
ويسلط التقرير الضوء على مفهوم “الشيخوخة الصحية”، وهو ما يعني الحفاظ على قدرة الناس على المشاركة المستمرة في المجتمع، وهي تعتمد بشكل أساسي على البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش فيها الفرد والتي تساهم في تعزيز نشاطه ومشاركته على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع.
ضحايا الأزمات الاقتصادية
في تقريرها “Leaving No One Behind In An Ageing World” -وهو ما يمكن ترجمته لا تتركوا المسنين وحدهم- توضح الأمم المتحدة أن الشيخوخة ليست مجموعة من الاهتمامات المنفصلة تخص مجموعة من الأفراد تقدم بهم العمر. بل الأمر يتعلق بكل مناحي الحياة، بما فيها الحق في الصحة والتعليم والسكن.
ويظهر التقرير أنه كلما كانت هناك عدالة وتقدم محرز في تلك الحقوق، فإن نتائج ذلك تنعكس بالضرورة على أصحاب الأعمار الأكبر.
وتعنى العدالة الاجتماعية، تحقيق الإنصاف لجميع أفراد المجتمع، من خلال حصولهم على فرص عادلة، وعرّفت الأمم المتحدة العدالة الاجتماعية بأنها “التوزيع العادل والرحيم لثمار النمو الاقتصادي”.
تسلط الأمم المتحدة الضوء هذا العام احتفالًا باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، على الآثار الاجتماعية والاقتصادية لشيخوخة السكان حول العالم.
وفي العشرين من فبراير/ شباط من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، للتذكير بأهمية سعي مختلف الأطراف من أجل الوصول للعدالة، وتتجلى أهمية ذلك في كون أن العولمة حققت مساحات من التعاون الاقتصادي المثمر بين الدول. لكنها خلفت على الجانب الآخر مجتمعات وفئات غير قادرة على مواكبة التحولات الاقتصادية، وسقطت رهينة الفقر ونقص أو محدودية الأنشطة الاقتصادية.
وخلال يونيو/ حزيران 2008 اعتمدت منظمة العمل الدولية إعلان “العدالة الاجتماعية من أجل عولمة عادلة”. وجاء الإعلان معبرًا عن التأثيرات والتغيرات السياسية والاقتصادية الناتجة عن العولمة، وحدد الإعلان أربعة أهداف شملت تعزيز أوضاع العمالة والحماية الاجتماعية والحوار المجتمعي والمفاوضة الجماعية واحترام الحقوق الأساسية للعمل.
الفجوة بين الجنسين
استطاع العالم تحقيق إنجازات تتعلق بالحق في الصحة والوقاية من الأمراض. هذا إلى جانب التطور في العلاجات.
وفق تقديرات الأمم المتحدة سيصل من تتجاوز أعمارهم 65 عامًا وأكثر إلى 1.6 مليار نسمة بحلول عام 2050. لكن في الوقت ذاته، وبحسب البيانات الواردة في تنقيح 2019 من تقرير التوقعات السكانية في العالم، فمع حلول عام 2050 سيكون 16% من عدد سكان العالم (واحد من كل ستة أفراد في العالم) أكبر من سن 65 سنة، أي بزيادة 7% (واحد من كل 11 فردًا) عن عام 2019. أما في أوروبا وأمريكا الشمالية، فالمتوقع أن يكون ربع سكانها ممن هم فوق سن 65 سنة.
وكان عام 2018 هو أول عام في التاريخ -على الصعيد العالمي- يزيد فيه عدد المسنين فوق سن 65 عن عدد الأطفال دون الخامسة. كما أن من المتوقع أن يزيد عدد من هم فوق سن الـ80 ثلاثة أضعاف (من 143 مليونًا في 2019 إلى 426 مليونًا في عام 2050).
وتشير البيانات السابقة إلى أهمية معالجة القدرة على الوصول إلى العدالة والمساواة، والبحث عن استراتيجيات متكاملة لمعالجة القصور في الرعاية الخاصة بالمسنين. كذلك معالجة الفجوة ما بين الجنسين، وإذا لم تتمكن التدابير والإجراءات من معالجة الأزمات المرتبطة بتحقيق العدالة الاجتماعية، سيتعرض السكان إلى أزمات ضخمة، بما فيهم كبار السن.
ويشهد العالم تحدي فجوة عدم المساواة ما بين الجنسين، وما زالت مشاركة النساء في القوى العاملة أقل من الرجال في العديد من بلدان العالم، وينعكس ذلك على نصيب النساء من التعليم والعمل وكذلك حصول النساء على معاشات تقاعدية وما يرتبط بها من خدمات وتكلفة الرعاية الصحية.