في زيارة هي الأولى منذ 11 عامًا لمسئول تركي رفيع المستوى، التقى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، قبل يومين، نظيره المصري سامح شكري، استجابةً لدعوة من الأخير، من أجل التشاور في عدد من الملفات ذات الاهتمام المتبادل. ذلك ضمن إشارات التقارب المتعددة بين الجانبين، والتي بدأت رسميًا بالمصافحة الشهيرة بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان في افتتاح كأس العالم بقطر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وهذا التقارب إنما تقف خلفه مصالح مشتركة أمنية واقتصادية عديدة فرضت على الدولتين مزيدا من بحث التفاهمات للحيلولة دون اشتباكات تضر بكليهما. لكنه أيضًا يواجه تحديات وعقبات، وقد سبقته رسائل تمهيد كثيرة متبادلة بين الجانبين للحيلولة دون فشل العودة الدبلوماسية.
خلال الزيارة، أكد “أوغلو” أن العمل جار على إعادة تبادل السفراء مع مصر خلال الفترة المقبلة. وأضاف أن مصر دولة مهمة في حوض المتوسط. فيما تعهد بتعاون أكبر بين أنقرة والقاهرة خلال الفترة المقبلة، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي. وإن كان أهم ما ورد في حديثه، التحضير للقاء مقبل وشيك بين الرئيسين السيسي وأردوغان.
مصالح تركية
تنطلق المساعي التركية نحو تحسين العلاقات مع مصر في إطار المشهد الإقليمي، الذي يغلب عليه حاليًا “سياسة تصفير المشكلات”، وقد اتبعتها دول الخليج في أزمتها مع قطر باتفاق العلا، ثم بالاتفاق السعودي الإيراني الأخير. وهي متغيرات دفعت بتركيا نحو ضرورة إعادة صياغة آليات انتشارها في الشرق الأوسط عبر تهدئة التوترات وعقد مزيد من الشراكات.
واتساقًا مع ذلك الحراك الإقليمي، تغيرت ملامح السياسة الخارجية التركية خلال العامين الماضيين. وقد بدأ هذا على استحياء مع مصر في 2021. ثم زار الرئيس أردوغان الإمارات، لأول مرة منذ ما يقرب من عقد من الزمان، في فبراير/ شباط عام 2022، لتوقيع العديد من الصفقات التجارية المتبادلة. وكذلك زار السعودية لأول مرة ، منذ ما يزيد عن 5 سنوات، في إبريل/ نيسان الماضي.
وقد حاول أردوغان توظيف تحركاته الخارجية تلك في رفع مستوى شعبيته داخليًا، استعدادًا للانتخابات التركية المقبلة.
يرى جوان سوز عضو “نقابة الصحفيين الفرنسية” والمتخصص في الشؤون التركية والأقليات في الشرق الأوسط، في حديثه لـ”مصر 360″أنه لا يمكن فصل زيارة أوغلوا الأخيرة إلى القاهرة عن الانتخابات الرئاسية في بلاده. لا سيما وأنها تأتي بالتوازي مع موافقة أنقرة على انضمام فنلندا إلى حلف الشمال الأطلسي.
“كلاهما يمثلان توظيفًا سياسيًا لرفع شعبية الرئيس التركي وحزبه الحاكم داخليًا”؛ يضيف “سوز”.
التعاون الثنائي
رغم توترات الماضي بين البلدين، لم يتوقف تعاونهما الاقتصادي في أي مرحلة، إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 9 مليارات دولار. ويقدر حجم الاستثمارات التركية في مصر بنحو 2.5 مليار دولار.
وقد تعهدت مجموعة من الشركات التركية مؤخرًا بحزمة استثمارات جديدة تُقدر بحوالي 500 مليون دولار. وخلال لقائهما في القاهرة، أعرب الوزيران سامح شكري وجاويش أوغلو عن اهتمامهما بتطوير العلاقات في مجال الطاقة، بما في ذلك احتمال بيع الغاز الطبيعي المصري المسال إلى تركيا. وأشار الأخير إلى مشاركة بلاده في 3 تطبيقات عسكرية مع مصر في الفترة المقبلة.
يقول الباحث في شؤون الأمن الإقليمي، إسلام أبو العز، لـ”مصر 360″إن البلدين قطعا طريقًا ملموسًا في إطار استعادة العلاقات. لكن هذا لا يعني بالضرورة حل جميع الملفات الخلافية، وإن كان هناك تقدم ملحوظ في قضية علاقة أنقرة بجماعة الإخوان وخصوصًا منابرهم الإعلامية، وطلب إيقاف أنشطتهم على أراضي تركيا نهائيًا، إلى جانب وقف الدعم السياسي التركي لعناصر الجماعة. وهو ما يعكس حسن النية لدى أنقرة بشأن رغبتها في استعادة العلاقات مع مصر، التي تسعى هي أيضًا إلى التقارب مع تركيا من أجل حسم الخلافات الطويلة فيما يخص إدارة الملف الليبي ومسألة شرق المتوسط.
التحديات
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أبرمت تركيا اتفاقيات للتعاون الأمني والعسكري والتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية مع ما يطلق عليه حكومة الوحدة الوطنية في العاصمة الليبية طرابلس والتي يرأسها عبد الحميد الدبيبة. هذا إلى جانب الاتفاقيات التي أبرمت مع حكومة فايز السراج السابقة فيما يخص ترسيم الحدود والتنقيب عن الطاقة. وهو ما يؤكد محورية ليبيا في السياسية الخارجية التركية، التي تدعم حكومة الدبيبة تناقضًا مع الموقف المصري الذي لا يعترف بشرعية حكومة غرب ليبيا.
وقد أضاف التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط ضغوطًا إضافية على العلاقات المتوترة بالفعل بين مصر وتركيا، فكانت مبادرة مصر لإنشاء منتدى إقليمي للغاز EMGF تشمل دول البحر المتوسط المنتجة للنفط والغاز بما فيها اليونان وقبرص بالإضافة إلى إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا، واستبعاد تركيا، ضربة قوية للطموحات التركية في شرق المتوسط. وردًا على ذلك، وقعت تركيا اتفاقيات ترسيم الحدود والتنقيب مع الحكومة الليبية.
يرى “سوز” أن زيارة أوغلو الأخيرة لمصر لم تخفض من مستوى التحديات التي تواجه استعادة العلاقة بين البلدين، لأن مكاسبها محدودة للغاية، بالأخذ في الاعتبار أنه لم يجر التخطيط لهذه الزيارة مسبقًا. وقد ساعد الموقف الإنساني في سياق أحداث الزلازل التي ضربت تركيا في تسريع التواصل بين البلدين. لكن يبقى اختلاف المواقف بينهما، وأبرز صور ذلك موقف مصر من التدخل التركي العسكري المباشر في ليبيا.
ويتفق مع هذا الطرح “أبو العز”، الذي يرى أن قرار استعادة العلاقات بين البلدين يدور وفق سلم أولويات مرتبط بمصالح ومحددات كل طرف، وهي المرحلة التي بدأت في الظهور بعد حسم ملفات وخلافات محددة خلال السنوات الماضية. إلا أن ليبيا لا تزال بالنسبة لمصر بمثابة مؤشر رئيس لمسار استعادة العلاقات مع تركيا، خاصة فيما يتعلق بوضع الميليشيات وعلاقة أنقرة بمكونات الغرب الليبي. بينما تظل مسألة ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط وتفاهمات الغاز رهن الخلاف والاتفاق كذلك، إلا إذا تمت إدارة هذا الخلاف بتحويله إلى فرصة تعاون للجانبين.
ويقول الباحث في شؤون الشرق الأوسط، رامي شفيق، لـ”مصر 360” إنه من الواضح أن ثمة توافقات جديدة تعزز استعادة العلاقات في مقابل ملفات مشتركة مثلت في الماضي عوائق بين البلدين.
ويضيف أنه بالنظر إزاء الأوضاع الدولية وتطورات الأوضاع الإقليمية وضرورة الوصول إلى تسويات منطقية ومقبولة إزاء الخلافات، قد يكون من المرجح أن يعرف الخلاف المصري التركي بعض الهدوء والعمل على تجاوز آثاره في الأفق المنظور.