كأننا أمام صورة أخرى في أوضاع جديدة ومختلفة من انتخابات نقابة الصحفيين التي جرت قبل عشرين عامًا بالضبط.
في عام (2003) تجلت رسائل التغيير وتأكدت معانيها بغضبة الجماعة الصحفية على الركود الطويل في مؤسساتها القومية، الذي نخر الفساد أدوارها وأوزانها.
تجاوزت النتائج بدلالاتها السياسية صعود نقيب مستقل ومجلس ينتسب أغلبه إلى المعارضة ما اعتبر وقتها مؤشرًا على اتجاه بدأت تقوى شوكته تدريجيًا في المجتمع، يدعو إلى تغيير نظام الحكم بالوسائل الديمقراطية، اعتقادًا بأنه استنفد شرعيته وزمانه وبات عبئًا على المستقبل.
في ذلك العام احتلت بغداد، وأخذت النظم العربية تعيد حساباتها من جديد، فقد استولت القوات الأمريكية على البوابة الشرقية للعالم العربي.
حاولت الولايات المتحدة أن تسوغ احتلالها بادعاء أنها جاءت إلى العراق لنصرة شعبه ضد ديكتاتورية “صدام حسين”، ثم بدأت دبلوماسيتها توحي بأنها توشك أن تتخلص من النظم الحليفة الموصومة بالاستبداد والفساد.
بدا المشهد الإقليمي المستجد مؤثرًا على الوضع الداخلي المأزوم.
حدث فالق هائل في الجغرافيا السياسية بالمنطقة.
أخذ نظام “حسني مبارك” يبحث في واشنطن عن أمنه ومستقبل “التوريث” فيه.
وأخذت واشنطن تراوغه وتضغط عليه وتبتزه من حين إلى آخر بتخفيف الضغط في ملف الإصلاح السياسي مقابل تنازلات إقليمية جديدة.
نشأ اعتقاد داخل الرأي العام المحبط أن الديمقراطية والتحول إليها قد تساعده في تحسين أحواله الداخلية المتدهورة والدفاع عن أمنه القومي المستباح.
بدت نتائج “الصحفيين” في ذلك الوقت بشارة تغيير، ثم شهد المسرح السياسي في نوفمبر (2004) ميلاد الحركات الاحتجاجية، وأهمها على الإطلاق “الحركة المصرية من أجل التغيير”، التي أطلق عليها اختصارًا “كفاية”.
كان ذلك تطورًا نوعيًا على المسرح السياسي المصري، الذي تتحكم فيه اعتبارات الأمن حتى استحالت أغلب مقرات أحزابه إلى بيوت أشباح.
استلهمت “كفاية” شعارها “لا للتوريث” و”لا للتمديد” من الحملات الصحفية، التي قادتها صحيفة “العربي” لسنوات طويلة بمفردها، قبل أن تنضم إليها صحف أخرى من خارج المنظومة الرسمية.
أوحت طبيعة التكوين الأساسي لـ”كفاية” بإفلاس الحياة الحزبية، فكل الذين أسسوها، أو انضموا إليها، جاءوا من خارج الأحزاب بالتمرد عليها، وكلهم ينتسبون إلى ما كان يطلق عليه “جيل الوسط”، أو جيل السبعينيات قبل أن تنضم إليه الأجيال الجديدة بالغضب وطلب التغيير.
ثم جاء التحول الحاسم في بشارات الديمقراطية بانتفاضة القضاة.
تزاوجت على نحو فريد نداءات حرية الصحافة واستقلال القضاء، وشهد شارع “عبدالخالق ثروت” احتجاجات ومظاهرات تبشر بجديد يوشك أن يولد.
بتعبير لافت لمراسل صحفي أوروبي طلب من رؤسائه إنهاء عمله في القاهرة، ونقله إلى موقع آخر في آسيا: “لا يوجد عمل صحفي حقيقي في القاهرة الآن، لم تعد العاصمة المصرية منتجة للأخبار التي تهم العالم، والخبر الوحيد الذي ننتظره هو من يخلف مبارك”.
كسرت انتخابات (2003) حالة السكون التي تبدت على السطح السياسي، لم تقرأ نتائجها ورسائلها، ولا استخلص من السكون البادي على السطح أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
شيء من ذلك يحدث الآن في ظروف جديدة ومختلفة.
التفاعلات الغاطسة تكاد أن تعلن عن نفسها رغم تصدع الحياة السياسية، أو غيابها بمعنى أصح، كأننا مرة أخرى أمام هدوء مخاتل يسبق عاصفة جديدة.
هذه هي الرسالة الحقيقية في انتخابات الصحفيين.
إذا لم تقرأ بعناية ويجري التصرف فإن النتائج سوف تتماثل.
الحريات الصحفية ضرورة استقرار وأمل في المستقبل.
القضية الحقيقية في انتخابات نقابة الصحفيين لا تلخصها النتائج المعلنة ولا صعود نقيب مستقل على حساب مرشح موال للمنصب نفسه.
أشرت الانتخابات إلى خروج جديد عن السياق العام المأزوم حيث الحياة السياسية متراجعة والحوار الوطني معطل والضجر الاجتماعي من الغلاء الفاحش في الأسعار منذر والمجال العام يضيق عن كل حوار يعكس التنوع الطبيعي في المجتمع.
كان التمرد على السيناريو المعد سلفًا لانتخابات نقابة الصحفيين، ألا تكون هناك منافسة حقيقية، تعبيرًا عن طاقة غضب مكتومة.
حسم التصويت العقابي نتائج انتخابات الصحفيين.
لم يكن هناك شيئًا مقنعًا أننا على الطريق الصحيح.
جرت إدارة ملف الانتخابات النقابية باستهتار بالغ بالمنافسين المحتملين ومستويات الضجر العام في أوساط الصحفيين.
ما حدث بالضبط ردة فعل عكسية على أحوال الصحافة والصحفيين.
كان “تكفين” مدخل النقابة تعبيرًا عن حقبة كاملة في العملين النقابي والسياسي.
لم يكن صعبًا معرفة الدوافع والأسباب وراء ذلك “التكفين”.
إنه “سلم النقابة”!
كأنه إذا ما ألغي سلم النقابة الذي شهد في سنوات “مبارك” تظاهرات واحتجاجات، لا يصبح هناك خطرًا على الأمن.
كانت تلك رؤية ساذجة.
في عام (2003) بدا صعود النقيب التاريخي “جلال عارف” رسالة سياسية إلى المستقبل.
هناك نقباء تاريخيون ونقباء آخرون مروا على نقابة الصحفيين دون أثر إيجابي تركوه.
كانت هناك دائمًا معارضة قوية متمركزة في نقابة الصحفيين، لكنها أعادت توصيف أدوارها تحت قيادة “عارف” بإطلاق صفة الاستقلال على حركتها ومواقفها انحيازها أولًا وأخيرًا للحريات الصحفية أمام تغول السلطات عليها.
وقد تعرض تيار الاستقلال لضربة عنيفة عام (2016) إثر توقيف نقيب تاريخي آخر “يحيى قلاش” على خلفية تصديه الجسور لاقتحام النقابة وما جرى بعده من تغييرات واسعة عرفت بـ”تعديل المسار” أفضت عمليًا إلى تعقيم العمل الصحفي والإعلامي.
بصورة أو أخرى يمثل انتخاب “خالد البلشي” نقيبًا رد اعتبار متأخرا للدور الذي لعبه “قلاش” في تاريخ نقابة الصحفيين.
“البلشي” جرى توقيفه مع “قلاش” في قضية اقتحام النقابة، وكان معهما “جمال عبدالرحيم”، وقد أعيد انتخابه في الدورة الجديدة.
لم يتوقع أحد تقريبًا أن يربح “البلشي” السباق الانتخابي، ترشح في اللحظات الأخيرة قبل إغلاق باب الترشح مباشرة حتى لا تكون الانتخابات مباراة من طرف واحد، لا تنافس فيها والنتائج مقررة سلفًا.
مالت التوقعات في البداية أنه قد يحوز من (20%- 30%) في أفضل الأحوال، لكن النسبة تعدلت بعد وقت قصير إلى (40%) مقابل (60%) للمرشح الآخر.
أمام صناديق الاقتراع تساوت الحظوظ الانتخابية.
وكان ذلك تعبيرًا صريحًا عن استعادة تيار الاستقلال عافيته وتعبيرًا مرادفًا عن قوة التصويت العقابي.
بقوة الاحتجاج ارتفعت حظوظه من يوم لآخر.
نجح في تغيير الصورة الذهنية عنه، التي استخدمت لإسقاطه سابقًا كعضو مرشح لمجلس النقابة.
تبني خطاب نقابي واضح وصريح، وتصرف أثناء حملته كنقيب قادر على الوفاء بمهامه.
بنظرة موضوعية قال في حوار تلفزيوني إن نصف الجمعية العمومية لم تصوت له، وأن (25%) من الذين صوتوا له لم يكونوا مقتنعين به، مستخلصًا أنه يتعين عليه بقوة الحقائق والتقاليد معًا أن يكون نقيبًا لكل الصحفيين.
التصويت العقابي حسم أيضًا نتائج انتخابات التجديد النصفي لأعضاء المجلس.
كانت تلك مفاجأة أخرى.
بدت صفوف “تيار الاستقلال” موحدة، فيما أظهر التيار الرسمي والمؤسسات الصحفية القومية تصدعا غير مسبوق في صفوفها.
وكان الدور الذي لعبه النقيب الأسبق “يحيى قلاش” حاسمًا في إضفاء طابع الخبرة على حملة “البلشي”.
وقد أفضى التجاوز بحقه على شاشة فضائية إلى غضب واسع بأوساط الصحفيين ورفع منسوب التصويت العقابي ودوافعه.
لم تكن الأجواء مواتية لمعركة انتخابية تتوافر فيها كل شروط النزاهة والشفافية، حدثت اختراقات عديدة وعندما استبان في اللحظات الأخيرة أن “البلشي” قد حسمها، تأخر إعلان النتيجة لفترة طالت، وكادت الأمور تفلت إلى فوضى ضاربة.
لم يكن هناك بد من إعلان النتائج الحقيقية دون تلاعب، وكان ذلك قرارًا حكيمًا.
التقطت وسائل التواصل الاجتماعي معنى ما جرى في نقابة الصحفيين، وحدث ما يشبه الزلزال، رهانًا على مستقبل آخر أكثر حرية وعدلًا.
حرية الصحافة تنتزع ولا تمنح.
هذه حقيقة ثابتة.
لم يخترعها جيل، كل جيل يساهم بما يقدر عليه وتحتمله ظروفه، التراكم هو الأساس مهما بدا التجريف فادحًا.
وهذه حقيقة أخرى.