لا زالت هناك تجارب في العالم العربي تبحث عن نموذج سياسي جديد، يضمن لها التنمية والحرية والاستقرار، وأن البلاد التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية مثل تونس ومصر وليبيا والسودان لا زالت جميعها بدون استثناء تبحث عن نموذج أو نظام بديل للنظام القديم، وحتى تونس الذي بدأت مسارها السياسي “كما يقول الكتاب” فوضعت “الدستور أولا” ثم أجرت الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومع ذلك قدمت على مدار 10 سنوات نموذجا للتعثر والفشل فتح الباب أمام الرئيس قيس سعيد لكي يؤسس لنظام جديد عبر قرارات استثنائية ثم دستور جديد ما لبث أن واجه مشكلات وأزمات كثيرة.
والحقيقة أن البحث عن الصيغة/ النموذج السياسي الذي يخرج البلاد من أزماتها سواء كانت هذه الصيغة تتعلق بالنظام الدستوري والسياسي الأمثل القادر على إخراج البلاد من أزماتها، كما هو الحال في تونس، أو صيغة التوافق بين المكونات السياسية والعسكرية كما في السودان، أو قناعة الكثيرين في مصر أن المسار الذي أفضي لحكم الإخوان وسنوات الفعاليات الثورية لا يجب تكراره، كما أن البديل الذي طرح في السنوات الماضية بإلغاء السياسة واعتبار الديمقراطية سبب وصول الإخوان للسلطة وسبب الأزمات الاقتصادية، فلا داعي لها، ومع الوقت ثبت للجميع أن هذه التوجهات فاقمت الأزمة الاقتصادية والسياسية ولم تحلها.
أما ليبيا التي شهدت اقتتالًا أهليًا، لازالت حتى اللحظة تبحث عن “باب الخروج” من أزماتها، بالتوافق على صيغة سياسية بديلة للإنقاذ.
ويمكن القول إنه رغم اختلاف الظروف والخبرات السياسية والاجتماعية بين هذه الدول إلا أنها لازالت جميعها تبحث عن صيغة سياسية تخرجها من أزماتها المستمرة منذ سنوات.
فتونس التي اختارت عقب ثورتها في 2010 نظامًا سياسيًا هجينًا أقرب للنظام البرلماني أوصل البلاد لطريق مسدود، عجزت فيه النخبة الحاكمة عن تلبية الطموحات السياسية والاقتصادية لغالبية الشعب، ما دفع الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد إلي اتخاذ تدابير استثنائية أسفرت عن حل البرلمان وتشكيل حكومة جديدة ثم وضع دستور جديد، نقل النظام القائم من نظام برلماني إلى نظام رئاسي أثارت بعض مواده اعتراضات الكثيرين.
ولم يقتصر المعارضون للمسار الجديد على حركة النهضة وحلفائها، إنما امتد إلى بعض التيارات المدنية، وبعض القوى التي دعمته وعلى رأسها الاتحاد التونسي للشغل.
ودلت التجربة التونسية على وجود أزمات كثيرة في تطبيق النظام البرلماني، كما أن انتقالها نحو النظام الرئاسي لم يؤد إلى نجاحها، إنما فتح الباب أمام حالة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي أدخلت البلاد في أزمة جديدة.
ويبقي السؤال المطروح هل الصيغة الدستورية والسياسية الجديدة للحكم في تونس والتحديات التي تثيرها يمكن أن تنجح مقارنة بالمنظومة السياسية والدستورية القديمة في بناء دولة قانون وديمقراطية؟ والحقيقة أن الإجابة بنعم تتطلب مواجهة مشكلتين كبيرتين: الأولي تتعلق باستمرار تجاهل الرئيس الغريب للمؤسسات الوسيطة سواء كانت حزبية أو نقابية فلم يتحاور مع أي حزب أو حركة سياسية كما تدهورت علاقته بالاتحاد التونسي للشغل الذي يضم أكثر من 600 ألف عضو وله قاعدة اجتماعية حقيقية، وبات موقفه حاليًا أقرب للمعارضة.
أما التحدي الثاني فهو التأسيس لمعارضة جديدة تعمل من داخل الدستور الجديد والشرعية القائمة بدلًا من وصفها بالانقلاب، بما يعني قدرة القوى المدنية على تأسيس معارضة من داخل الشرعية القائمة تكون قادرة على الدخول في الانتخابات الرئاسية القادمة العام المقبل وامتلاك برنامج سياسي بديل قادر على الفوز، وأن فرصها في التنظيم والنجاح في ظل نظام ديمقراطية مقيدة مثل النظام الحالي في تونس أفضل بما لا يقارن من لا نظام أو من نظام استبدادي.
أما التجربة السودانية فرغم أن خبرتها التاريخية والاجتماعية والسياسية تختلف عن تونس إلا أنها تتقارب معها في جانب هام في كونها لا زالت منذ نجاح ثورتها في إبريل 2019 في إسقاط حكم الرئيس السابق البشير لا زالت تبحث عن نموذج وصيغة سياسية لحكم البلاد.
والحقيقة، إنه منذ سقوط حكم البشير والسودان لا زال متعثرا في التوافق على صيغة الحكم البديل فهو من جهة يواجه انقساما بين مكونات قوي التغيير، ومن جهة أخرى يواجه انقساما بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية، ولا زال لم يطو صفحة المرحلة الانتقالية التي عاد ومدها عامين آخرين عقب توقيع تيار من قوى الحرية والتغيير على “الاتفاق الإطاري” مع المؤسسة العسكرية.
والحقيقة، إن تحدي تطبيق الاتفاق الإطاري هو تقريبًا نفسه الذي واجه اتفاق المرحلة الانتقالية الأولى، فالقضية ليست في التوقيع على اتفاقات بين المكونات المختلفة كما حدث طوال السنوات الأربع الماضية أكثر من مرة، إنما في وجود إرادة سياسية لدى كل الأطراف لتنفيذ ما يتم التوقيع عليه، والذهاب إلى الانتخابات التي أُجلت أكثر من مرة وهو أمر غير متكرر كثيرًا في تجارب الانتقال الديمقراطي أن تستمر المرحلة الانتقالية لسنوات طويلة، لأنها تعرف تعددًا في رأس السلطة، وتكون دائمًا هناك صعوبات في اتخاذ أي قرارات حاسمة، وتحتاج لموائمات كثيرة حتى تستطيع أن تخرج قرارا سياسيا أو اقتصاديا كبيرا في بلد يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية عميقة، وأيضا من انقسامات عرقية وجهوية، مما يعمق الأزمات ولا يحلها.
أما التجربة الليبية فهي مثل بعض التجارب العربية نجحت في إسقاط النظام القديم متمثلًا في نظام القذافي ولا زالت متعثرة في التوافق على نظام جديد، رغم أن البلاد عرفت العديد من الاتفاقات والتفاهمات والحكومات المؤقتة وفشلت جميعها في إخراج البلاد من المرحلة الانتقالية، وظل الانقسام السياسي والمناطقي مسيطرا على الواقع الليبي.
ولكي تنجح ليبيا في إجراء “عبور آمن” للمرحلة الانتقالية، فإنه يتطلب عدم قصر الانتخابات الليبية التي طالب بإجرائها الجميع على الجوانب الإجرائية فقط، من أسس “لوجستية ومراقبين دوليين، إنما يجب أن تجد صيغة للتفاهم على ضمان احترام الخاسرين لنتائج الانتخابات وأن يكون الفائز محل قبول من الأطراف الداخلية والٌإقليمية والدولية لقيادة المرحلة “ما بعد الانتقالية”.
إجمالًا يمكن القول إن التجارب العربية الأربع أي تونس ومصر والسودان وليبيا لا زالت لم تستقر بعد على النموذج السياسي الذي يتم التوافق عليه كأساس لشرعية النظام القائم، وإن بناء دولة القانون والديمقراطية هو هدف لابديل عنه لتحقيق التنمية والعدالة والاستقرار مهما كانت الصعوبات والتعثرات التي تواجهه.