لكل أمة لحظات توقظها، أو ينبغي أن توقظها، من غفلتها. كانت إحدى لحظات الأمريكيين حين فوجئوا بأن السوفييت سبقوهم في إرسال أول إنسان إلى الفضاء “يوري غاغارين” سنة 1961، وتساءلوا: هل المشكلة في نظامنا التعليمي؟ وكانت إحدى لحظات اليابانيين حين فوجئوا بالإمبراطور، الذي كان في محل الإله، يخاطبهم عبر الراديو ويعلن الاستسلام في أغسطس 1945، وتساءلوا: هل الإمبراطور بشر مثلنا في النهاية؟ في مصر، كانت إحدى اللحظات قبل أكثر من 200 عام، حين سقطت خيول المماليك بسهولة كالذباب أمام المدافع الفرنسية سنة 1798، وتساءل المصريون ما الذي فاتنا، وحققه الفرنسيس؟
إذا كانت لحظات الصدمة تلك خطيرة، فإن الأخطر منها هو ألا يتم الانتباه إليها، أن تمر وسط الضجيج التافه للحياة اليومية من دون أن يتنبه الناس إلى ما تشير إليه، وما تصفه من أوضاعهم ومكانتهم الحضارية وموقعهم وسط الأمم. وأن يؤخذ طفل، من بيت أسرة دافئ، محب، ليوضع في دار الأيتام، وليس العكس. هو فعل، ينبغي أن يكون إحدى تلك اللحظات، التي تصطدم بالكثير مما يؤسس واقعنا، وقوانيننا، وفكرنا الديني، وأخلاقنا، ومشاعرنا، وما يفترض به أن يكون دولتنا الحديثة، التي تحاول وتتعثر منذ قرنين من الزمان. وإذا كان الفعل نفسه – أخذ الطفل من الأسرة إلى الملجأ لا من الملجأ إلى الأسرة – هو فعل مخيف، فإن حصوله هكذا، تحت أعين الناس، ومن غير أن يجعلهم ذلك يتوقفون، ويُصدمون، ويتساءلون كما تساءلت الأقوام من قبلهم، هو أمر لا يقل خطورة، عن الفعل المأساوي نفسه.
في مشهد شهير من فيلم “الغول” (1983)، يكتب وحيد حامد على لسان عادل إمام: “غريب إن الموت أرحم من البعد.. يمكن لأن الموت حاسم والبعد فيه احتمالات”. بالنظر إلى تلك الكلمة المؤثرة، يصعب وضع مأساة الطفل شنودة في مكانها المناسب، إنه، كما لابد أنك تعرف الآن، الطفل الذي تم العثور عليه رضيعا داخل إحدى الكنائس، فقامت بتبنيه أسرة مسيحية حُرمت من الإنجاب، ومنحته – إضافة إلى البيت والحضن الدافئ- اسم العائلة أيضا، حتى قدّم أحد الأقارب بلاغا يتهم فيه الأسرة بالتزوير، حتى لا يذهب الميراث إلى الصغير. ومن ثم، كما صار معروفا، تم أخذ الطفل من الأسرة، وإيداعه إحدى دور الأيتام، وتغيير اسمه من شنودة إلى يوسف عبد الله، وتغيير ديانته من المسيحية إلى الإسلام، وفقا للقانون الذي يعتبر المولود مجهول الهوية مسلما بالضرورة!. خاضت الأسرة نضالا قانونيا لاستعادة الطفل، آخره كان رفض دعوى قدمتها أمام محكمة القضاء الإداري طعنا على قرار وزارة التضامن الاجتماعي إيداع الطفل إحدى دور الأيتام، غير أن المحكمة رفضت دعوى الزوجين لعدم الاختصاص.
بالعودة إلى عبارة وحيد حامد، عن الموت والبعد. يصعب تصور الوصف المناسب لحالة الطفل المسكين “شنودة” الذي قررت الدولة أنه “يوسف”. إننا لا نعلم ما إذا كان أبواه الأصليان، أبوي الجينات، موجودان على قيد الحياة، ولكننا نعلم أن أبويه بالاختيار، السيد فاروق والسيدة آمال التي حطمت القلوب ببكائها على “ضناها”، موجودان، يكافحان من أجله، أنشآه لسنوات على أحسن ما تكون التنشئة وأحباه كأجمل ما يكون الحب، ويخوضان المعركة القضائية من أجل استعادته إلى بيته. بينما ترى الدولة، ويرى القانون، ويرى – للأسف- قطاع من المجتمع، أن المكان الصحيح للطفل، هو مأوى الأيتام. وأن الأفضل له، وفقا لما تمخض عنه القانون والعرف والخطاب الديني، أن ينام ويصحو ويعيش ويقضي حياته في عنابر المأوى، بعد أن كان له أم وأب وبيت، أسرة احتضنته بعد أن تم التخلي عنه، ومنحته حياة من بعد موت. ولا بد أن ذلك الطفل، ابن السنوات الأربع، لا يعرف بعد ما هي هذه “الديانة” التي يفترض أنه يعتنقها، والتي قالوا له الآن أنها قد تم تغييرها، لقد كان ينام في بيته، يحلم بأفلام الكارتون وشخصيات الألعاب والمدرسة، فإذا به الآن يُنتزع من كل ذلك، فلا ينام فقط في بيت غير بيته وسرير غير سريره ووسط غرباء غير أسرته، بل إنهم كذلك ينادونه باسم غير اسمه كأنهم يقولون له، ابن الأربع سنوات، أنت لست أنت، أنت شخص آخر. كأنهم، يريدون أن يقودونه إلى الجنون.
للطفل في هذه السن رغبة طبيعية في طرح الأسئلة، حتى وهو يعيش في كنف أسرته الطبيعية، في البيت والحديقة والمدرسة، لا يتوقف عن التساؤل حول البشر والكائنات والأرض والسماء والزهور. فأي نوع من الأسئلة يطرحه الآن شنودة الذي حولوه إلى يوسف، وهل يطرح – أصلا – الأسئلة أم أسكتته الصدمة؟ وماذا لو تقرر – بقرار سحري ما – أن يعود إلى بيته، هل عليه أن يعود مرة أخرى من يوسف إلى شنودة؟ أم أن الأمر، كما أخشى، يكاد يكون مستحيلا. لذات الأسباب التي كان ينبغي أن تجعلنا أن نتوقف أمام أنفسنا، أن نحاسب قيمنا وقوانيننا وخطابنا الديني.
يقولون إن التبني محرم شرعا فلا يجوز منح الطفل اسم أبويه غير البيولوجيين، ويقولون إننا في بلد إسلامي وبالتالي فإن الطفل مجهول النسب يتحول إلى مسلم بالضرورة، ويقولون إن من الأفضل أن يتحول الطفل إلى مسلم كي يدخل الجنة حتى لو كان معنى ذلك نقله من البيت الدافئ إلى عنابر مأوى الأيتام. حسنا، مبروك، تهانينا، لقد أدى إجمالي ما تقولون، إلى أن يُنتزع طفل من أحضان أسرته المحبة، ومن كنف الأبوين الذين لم يقل لغيرهما بابا وماما، إلى أضابير وزارة التضامن، حيث يجري “تحويله” إلى شخص آخر، وإعادته إلى حالة اليتم التي كان عليها حين عُثر عليه رضيعا صارخا. إذا كان هذا ما تؤدي إليه في النهاية قوانيننا وقيمنا وإيماننا، وإذا لم يستوقفنا ذلك ويصدمنا ويرعبنا، وإذا لم نفعل كل شيء كي نمنع ذلك ونمنع تكراره، فإن هلاكنا، كما قال محفوظ يوما ما، هو العدل.