إذا انطلقنا من المشهد العام لمسلسلات رمضان، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أفكار هذه المسلسلات وبقية عناصرها الدرامية، بداية من أشكال الممثلين والممثلات الغريبة والمرعبة، ومستوى الأداء وشكله والخطوط الدرامية الفقيرة والساذجة، وانتهاءً بما تريد أن تقوله أو تمرره هذه المسلسلات، سنجد أن هناك حالة فراغ وعزلة وتأخر شديد الوطأة.

والمسألة لا تتعلق بتلك الأسئلة البلهاء من قبيل “هل شاهدت المسلسل حتى نهايته؟!”.. “كيف تنتقد الفيلم وأنت لم تر إلا نصف ساعة فقط منه؟!”، وإنما تتعلق بمسلسلات العام الماضي والعام الذي سبقه والأعوام الكثيرة التي سبقتهما. بل وتنسحب على الفنون البصرية، بما فيها الفن التشكيلي نفسه. ولكن مسلسلات رمضان تعتبر أحد أهم شواهد العزلة والتخلف والاستهتار و”الاستعباط”. ومع ذلك، ومن مساخر القدر، أن المعادلة تبدو متزنة للغاية، إذا يقف في أحد طرفيها “الفن الكيتش”، وفي الطرف الثاني يقف “الإنسان الكيتش”. وهما في واقع الأمر يستحقان بعضهما البعض.

من أهم مظاهر وتجليات “العقل الكيتش” هو التعميم بسحب الجزئيات وفصلها ثم إصدار أحكام عامة عليها باعتبارها أعمال كاملة، أو اختيار مشهد معين باعتباره جوهر العمل الفني ويستحق جائزة الأوسكار، أو أداء ممثل واحد قال جملة واحدة كتعبير عن قمة الإبداع، أو تأويل العمل الفني خارج سياقه الدرامي وتحميله كل “القمامة” التي تدور في الرأس.. هكذا تتم عملية تدوير القمامة، وتأصيل مفاهيم الكيتش بصريا وذهنيا و”جماليا”.

وفي نهاية المطاف، ورغم كل الجهود الجبارة في ترويج الصور الذهنية الوهمية والمبالغ فيها، نجد أن الدراما، محلك سر، وأن هناك طابعا فقيرا وضحلا يهيمن على العمل الفني بكل عناصره، وأنه “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وأننا نحتل المرتبة الأولى في كل شيء، ولدينا الممثلون الأفضل والأقدر، بينما الدائرة مغلقة تماما والفارغ خانق للغاية، حيث تجري عملية تدوير للعفن نفسه، في نفس المكان المغلق.

وبالتالي، فالروائح الكريهة باتت طبيعية، والعفن صار أسلوب حياة بل يكتسب قيمة مضافة في ظل التجهيل وتعطيل الحواس. ويبدو أن هناك مفهوما جديدا لـ “العزلة”، رغم كل السيولة الفنية والثقافية والبصرية وسقوط الجدران والحدود. هذا المفهوم يتعلق بعزلة العقل على الرغم من حركة الجسد. وحركة الجسد هنا تمتلك شكلا مأساويا للغاية، إذا أن هذا الجسد يدور حول نفسه وفي نفس المكان. وهو التعبير الأفضل الذي يعكس ويجسد مفهوم “المقبرة”.

من الصعب أن نسلخ عملا فنيا من ضمن حركة فنية كاملة، أو نسلخ مشهدا في مسلسل أو فيلم أو نتناول ممثل أو ممثلة في عمل فني بمعزل عن الآخرين، ونتحدث عن كل ذلك باعتباره مشاهد وأعمال عبقرية تعكس مدى تطور الفن في البلاد، وأنها تمثل ما يسمى بـ “القوة الناعمة” وكل هذا الكلام الفارغ المؤسس على الوهم والعقل المعطوب.

لكن في “المجتمعات الكيتش” يصبح كل شيء مباح، لأن لا شيء يعبر عن أي شيء. قد يكون أحد المشاهد قوي ومعبر، ولكن ما جدوى ذلك ضمن سياق درامي وضمن بقية عناصر فنية عشوائية وضعيفة.. قد يكون أداء الممثل عبقري ولكن ما فائدة ذلك بمعزل عن العمل الفني الرديء وأداء بقية الممثلين المتداعي. ولا يمكن أن يكون هناك عمل واحد أو اثنين أو تسعة تعبر عن حركة فنية بالكامل. ولذلك، عندما يدور الحديث عن الفن، فإن المقصود هو الحركة الفنية في تحولاتها وتراكماتها وتطورها، بعيدا عن الماضي والماضوية “وكُنَّا وكانوا”. وبعيدا أيضا عن جمال وأزياء هذه الممثلة أو قوة وتجسيد ومكياج هذا الممثل أو ذاك.

من الطبيعي أن توجد “ثقافة الكيتش” التي تضم الأدب والموسيقى والسينما ليس فقط كمنتج نهائي في صورته الأخيرة، بل وأيضا على مستوى الصناعة وآلياتها والأفكار الأساسية التي تقبع في جوهرها والتي كانت قابعة في أسس انطلاقها. بمعنى أن أدب الكيتش ومسلسلات الكيتش وأفلام الكيتش وموسيقى الكيتش والتكوينات التشكيلية والجداريات الكيتش التي تقوم على التركيب السطحي والسرقة والقبح هي ظواهر ونشاطات موجودة على أرض الواقع. بل تذهب الأمور في بعض المجتمعات، بصرف النظر عن تقدمها أو تخلفها، إلى إعلان النبوة أو إعلاء قيم مقدسة قائمة على فكرة “الكيتش” نفسها. وفي هذا لا تختلف الدول الكبرى عن الدول الصغرى، ولا تختلف المجتمعات المتقدمة عن المجتمعات المتخلفة.

ولكن ينبغي التوقف هنا تفاديا للخلط. فبينما تعيش “ثقافة الكيتش” في المجتمعات البشرية، وتتنوع من السياسي للثقافي للتعليمي للعلمي للفني، نجدها في مجتمعات ودول معينة تسيطر تماما على الفضاء العام والخاص الكلي، وتشكل توجهات العقل الفردي والجمعي وتشغل المساحة الأكبر، إن لم تكن هي الوحيدة بكل تنوعاتها المنحطة والرديئة. وفي مجتمعات ودول أخرى تشكل أحد روافد ومظاهر النشاط البشري، ولا تشغل أكثر من مساحتها الطبيعية الناجمة عن التنوع الطبيعي والصحي في تلك المجتمعات والدول.

هذه الظواهر في مجملها تنتج “الإنسان الكيتش” الذي يمتلك “عقلا كيتش” بامتياز. وهي في واقع الأمر- كظواهر- نتجت أيضا عن حالة عامة من “الكيتش” لدرجة أنه من الصعب تحديد أيهما الأسبق. ما يعني أن هناك حلقة قاتلة مغلقة من السكون والفراغ. ويتم تتويج كل ذلك بحالة “كيتش سياسي” تتسم بالجهل والماضوية والاستسهال والاستهتار والفساد، واستعادة كل مظاهر العفن ومنحها قيما وهمية- جديدة باعتبارها أحد الإنجازات الحديثة والمعاصرة وتتويجها بصورة ذهنية تؤكد أن كل شيء على ما يرام، أو في أسوأ الأحوال “نحن على الطريق القويم، ونواصل التقدم والازدهار، وأن كل شيء في نهاية المطاف سيكون على ما يرام” بشرط أن يتوقف الزمن قرن أو قرنين، او يكف العالم عن الحركة إلى أن ننجز مشروعنا التاريخي الذي تعطل لأسباب خارجة عن إرادتنا، وهي دائما بفعل الآخرين.

هناك سيولة غير عادية في كل مظاهر الحياة والنشاطات البشرية تسير في خط متواز مع حالة السيولة التقنية والإعلامية القائمة على العالم الرقمي الجديد. وهناك جدران كثيرة وفواصل سقطت بفعل تشابك واندماج مجالات النشاط البشري واختلاطها وتخديمها على بعضها البعض. ومع ذلك، يزداد “تضخم الذات” و”العزلة” و”التقوقع”، وتتضاعف السيطرة الكاملة للصور الذهنية على عقول الناس وحياتهم ونشاطهم البشري، وهي ظواهر باتت تضم في جوهرها أيضا تغييب العقل، وإجبار هذا العقل المغيب على تبديل أولوياته، وتفريغ الأمور من مضامينها ومقاصدها، والخلط بين المقاصد الأساسية والفرعية عبر عمليات تبدو عشوائية، ولكنها ممنهجة ومنظمة إذا نظرنا بعمق إلى الآليات والتحولات التي تحكم حركتها.

وفي الواقع، فالفارق بين “المجتمعات الكيتش” وبين “المجتمعات التي توجد بها ثقافة الكيتش”، هو وجود العقل. ففي الأولى تظهر كل تجليات غياب العقل، والتي تصل في أحيان كثيرة إلى أن العقل نفسه يبدأ في خداع وتضليل نفسه بشكل تلقائي. بمعنى أن العقل يشرع بالعمل ضد نفسه لإفناء نفسه. وفي الثانية يضع العقل نفسه على مسافة تسمح له بـ “التمييز” أو “النظر” أو “التبصر” و”التأمل”. ولن نبالغ إذا قلنا أن العقل في هذه المجتمعات يقوم بنقد نفسه، وهذه مهمة في غاية القسوة. هذان المجتمعان يفصل بينهما ليس وجود العقل، وإنما نشاط العقل وممارسته وظائفه الطبيعية.

الأمر الآخر، هو السيولة التقنية- الرقمية التي باتت من أهم المظاهر التي تميز تحولات القرن الواحد والعشرين. وهي في واقع الأمر نتاج الخيال والعقل معا، وليست نتاج الفهلوة والماضوية والهلوسة و”الكسل”. لا أحد يعرف إلى أين ستقودنا السيولة العلمية- التقنية، وهل يمكن وضعها كعقيدة للبشر فيما بعد، كجزء من “عبادة العلوم الطبيعية”، أم سيحدث تحول ما لإعادة ترتيب الأولويات، ووضع العلوم الطبيعية في مكانها الصحيح ضمن منظومة الأولويات والمسارات التي تدفع بالعقل البشري إلى الأمام، مع مراعاة إنسانية الإنسان وحريته وكفايته الاقتصادية والمعيشية. وفي الواقع، فهذه قضية علمية- فلسفية كسرت أدمغة العلماء والمتخصصين طوال قرون عديدة، وبشكل خاص على أعتاب مراحل التحولات البشرية الكبرى.

إننا في نهاية المطاف، وفي ظل المجتمعات الكيتش والعقل الكيتش، يمكننا أن نبدل الأولويات بوقاحة تاريخية غير مسبوقة، وننفق الأموال الضخمة لا بهدف تطوير منظومات التعليم والصحة والقضاء والقانون والبنى التحتية والفنون، بل من أجل أن نؤكد على أننا الأفضل والأسبق والأكبر، ومن أجل بناء صور ذهنية والاستعاضة بهذه الصور عن الواقع وما ينبغي أن يكون، مثل شراء لاعبي كرة القدم، وشراء الأندية الرياضية والصحف، وشراء المتاحف، بل وإرسال رواد فضاء إلى الكواكب الأخرى، على الرغم من أننا لا نمتلك أي نوع من أنواع صناعة الفضاء. بل ولا نملك حتى المقومات التي تقوم عليها كل هذه الظواهر والصناعات والنشاطات، وعلى رأسها العقل والحرية، والظروف الضرورية لتطوير هذه الظواهر والصناعات والنشاطات.

وبالتالي، حتى إذا تمكننا من شراء كل ذلك، وأنفقنا المليارات ليس على تقليص حجم الفقر وإنما التأكيد على أنه ليس لدينا فقر، وأنتجنا مسلسلات وأفلاما لا لكي نقوم بدورنا في تطوير وتقدم وتراكم هذا النشاط البشري وإنما لكي نؤكد أن لدينا أفلاما ومسلسلات وممثلين وممثلات.. حتى إذا استطعنا أن نفعل كل ذلك، ففي النهاية نكتشف أن الأمور ليست على ما يرام، وأن المقبرة تزداد ظلاما وإظلاما، وأننا ننفق أمولا كثيرة على خداع أنفسنا، وأن العقل يمعن في تضليل نفسه حتى الفناء. وحتى إذا استطعنا أن نشتري كل لاعبي وأندية العالم، ونرسل رواد الفضاء إلى المريخ، ونقيم المتاحف العالمية والدرر المعمارية، وننتج المسلسلات الدينية والتاريخية والوطنية المضمخة بعبق الماضي وعبيره، ونضيء المقبرة بأعظم الثريات والكهارب، فإننا نكتشف بعد كل كبوة أن الوضع كما هو عليه، لأننا ببساطة نسينا أمرا بسيطا للغاية، ألا وهو الشروط والضرورات الأساسية لوجود كل ذلك، ولتطوير كل ذلك وتقدمه..