دأبت السلطة المصرية متمثلة في رؤساء المحاكم ووزارة العدل على إصدار قرارات بزيادة الرسوم القضائية، أو رسوم الخدمات القضائية المتمثلة في استخراج الأوراق والشهادات، أو حتى فرض رسوم جديدة على مجرد تقديم الأوراق والمذكرات وحوافظ المستندات، أو استخراج صور رسمية من هذه الأوراق، وباتت تلك الرسوم تمثل عائقاً جديداً أمام الحق في التقاضي والنفاذ إلى القضاء، إذ لا يكون هناك وجود لدولة أو أمة إلا إذا كانت تقيم العدل وتحمي حق التقاضي، إذ أن ضمان بقاء الدولة هو ذاته ما يضمن وجود العدل فيها، وإذ أنه لما كان الدستور قد أقام من استقلال القضاء وحصانته ضمانين أساسيين لحماية الحقوق والحريات فقد أضحى لازما – وحق التقاضي هو المدخل الى هذه الحماية – أن يكون هذا الحق مكفولا بنص صريح في الدستور، كي لا تكون الحقوق والحريات التي نص عليها مجردة من وسيلة حمايتها بل معززة بها لضمان فعاليتها، وحيث إنه إذا كان ذلك وكان الالتزام الملقى على عاتق الدولة وفقا للنصوص والمبادئ الدستورية، فإن ذلك يقتضي تمكين كل متقاض من النفاذ إلى القضاء نفاذا ميسراً لا تثقله أعباء مالية ولا تحول دونه عوائق إجرائه، وكان هذا النفاذ، بما يعينه من حق كل فرد في اللجوء الى القضاء، وهذا ما تؤكده نصوص الدستور في حرصها على أن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي قد دل على أن هذا الحق في أصل شرعته هو حق للناس كافة لا يتمايزون فيما بينهم في مجال اللجوء إليه وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في سعيهم لرد العدوان على حقوقهم دفاعا عن مصالحهم الذاتية. كما تمثل الزيادة المتكررة في الرسوم القضائية سواء كانت رسوم رفع الدعاوى أو رسوم مباشرة بعض الإجراءات من الأمور التعجيزية التي تثقل من مباشرة حق التقاضي ذاته وتشكل حائلاً بين غالبية المواطنين المصريين والولوج لمرفق القضاء لاقتضاء حقوقهم عبر السبل الشرعية المرسومة بموجب الدستور، وفي ظل المتغيرات الشديدة والمتلاحقة التي تمر بها الدولة المصرية خاصة في السنوات الأخيرة والشعور بعدم الاستقرار وفقدان الإحساس بالأمان فان القضاء المصري المحمل بالمشاكل والهموم المتمثلة في البطء الشديد في التقاضي والفصل في الدعاوى، وازدحام المحاكم وزيادة عدد القضايا وقلة عدد القضاة، فيمثل قرارات زيادة الرسوم عبء جديد على عاتق المواطن يجعل من التفكير في حلقات التقاضي للبحث عن العدالة واقتضاء الحقوق بشكل مشروع وسيلة غير مأمونة سواء من حيث زيادة الرسوم بداية، أو من خلال الرسوم التي تفرض بعد الفصل في الدعاوى. وفي هذا المعنى قد أفردت المحكم الدستورية العليا قولها أن ” الحق في المحاكمة المنصفة كفله الدستور المصري في المادة 67 منه ، وأن هذا الحق يستمد أصله من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يردد قاعدة استمر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية ، وتقع في إطارها مجموعة الضمانات الرئيسية التي تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الأمم المتحضرة كتلك المتعلقة بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها بكيفية تطبيقها من الناحية العملية”.
وقد نشر موقع سكاي نيوز عبر موقعه الإلكتروني بتاريخ 27 / 2 / 2023 أنه وفقا لبيانات وزارة العدل المصرية فقد تراجعت أعداد القضايا منذ عام 2019 ، وبحسب ما نشره الموقع فإن عدد القضايا في ذلك التاريخ كان يقارب 15 مليون قضية، ولكن بعد تكرار الزيادة في الرسوم القضائية فقد تراجع ذلك العدد إلى ما يقارب 11 مليون قضية خلال عامي 2021 ، 2022 ، وهذا ما يؤكد على تراجع الإقبال على التقاضي، بالتوازي مع زيادة الرسوم القضائية.
وقد كثرت خلال السنوات الأخيرة هذه القرارات، وكان هناك رد فعل قانوني من المحامين متمثلاً في الطعن على هذه القرارات الإدارية أمام محاكم القضاء الإداري في أماكن مختلفة، فمثلا قد صدر قرار رئيس محكمة استئناف الإسماعيلية رقم 2 لسنة 2022 ، والمتضمن زيادة في الرسوم المقررة عن الخدمات، وقد تم الطعن على القرار بموجب الطعن رقم 2969 لسنة 27 قضائي أمام محكمة القضاء الإداري، والتي اصدرت حكمها بوقف تنفيذ ذلك القرار، وقد جاء في تسبيبات ذلك الحكم أنه ” إن السبيل الوحيد لتقرير مساهمة المتقاضين في نفقات تسيير مرفق العدالة زيادة الرسوم القضائية المقررة في قوانين الرسوم القضائية والتوثيق والشهر أو صدور قانون بفرض الرسم، وهذا ما أكده مسلك المشرع بإصدار القانون رقم 8 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 96 لسنة 1980 بفرض رسم إضافي لدور المحاكم، ومن حيث إنه لما كان ما تقدم، وكان الثابت من بنود قرار رئيس محكمة استئناف الإسماعيلية رقم 2 لسنة 2022 بما فرضه من مقابل مالي عن أداء الخدمات المميكنة، أنه قد فرض مقابلا ماليا نظير الخدمات المميكنة المشار إليها فيه، وأنه قد توافرت في شأن أسعار هذه الخدمة خصائص الرسوم أنها مبلغ محدد من النقود، يسدد جبرا عن أصحاب الشأن من المتقاضين ويبدو عنصر الجبر واضحا في استقلال مصدر هذا القرار بوضع نظامه القانوني من حيث تحديد مقداره وحالات استحقاقه وطريقة تحصيله، وأن هذا السعر يدفع مقابل انتفاع صاحب الشأن بالخدمة المميكنة”،كما أصدرت محكمة القضاء الإداري بالمنصورة حكماً انتهت فيه إلى إلغاء قرار مدير إدارة النيابات بفرض رسوم على استخراج الصيغ التنفيذية وصور الأحكام ورسوم الإعلامات الشرعية ورسوم الشهادات من القلم المميكن، وبذلك الحكم يلغى تحصيل مبالغ مالية إضافية ورسوم على استخراج الأحكام وإعلامات الوراثة والشهادات. وذلك في العن رقم 6955 لسنة 43 ق بجلسة 21 /6 /2022 ،وهناك العديد من القرارات التي ما زالت منظورة أما القضاء منها قرار رئيس محكمة استئناف قنا، وقرار رئيس محكمة استئناف أسوان.
إن الأمر كما هو واضح غير مشروع فلما إذن يصدره رؤساء المحاكم وهم قضاة من العاملين، بل من أهل القانون ذاته، أم ان الدولة تسعى بتلك الطرق إلى فرض تلك الرسوم فرادى للهروب من نفاذ أحاكم القضاء الإداري، على الرغم من كون تلك الأحكام تتمتع بقوة التنفيذ ولها حجتها على الكافة، فهل تسعى الدولة إلى وقف تلك القرارات من تلقاء ذاتها احتراماً لما صدر من أحكام دون النظر إلى ما تنظره المحاكم من قضايا جديدة، أم أن غاية السلطة هو فرض تلك الزيادات بشتى الطرق سعيا لتحصيل الرسوم فقط، وهو الأمر الذي يخل بميزان العدالة ذاته.