أفرجت السطات الروسية عن مئات الصفحات من الوثائق عالية السرية، التي تم إصدارها حول عملية صنع القرار السوفيتي، والتخطيط العسكري. جزء منها ضمن أرشيفات الحزب الشيوعي السوفيتي وتم رفع السرية عنها قبل الحرب في أوكرانيا، تم رفع السرية عن آخرين بهدوء من قبل وزارة الدفاع الروسية في مايو/ أيار 2022، في الفترة التي تسبق الذكرى الستين لأزمة الصواريخ الكوبية.

في تحليل نشرته فورين أفيرز/ Foreign Affairs، عن الدروس التي قد يتعلمها العالم من أزمة الصواريخ الكوبية، يشير كلا من سيرجي رادشينكو الأستاذ في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وفلاديسلاف زوبوك أستاذ التاريخ الدولي بكلية لندن للاقتصاد، إلى أن قرار الإفراج عن الوثائق، دون تنقيح، واحدة من العديد من المفارقات في روسيا تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين، حيث تستمر  الدولة في نشر مجموعة كبيرة من الأدلة حول الماضي السوفيتي.

اقتراح 24 مايو/ أيار لإرسال صواريخ نووية إلى كوبا والذي وقعه خروتشوف وكبار القادة (يسار) وتعليمات إخفاء المعدات المتجهة إلى كوبا (يمين)

ألقت الوثائق ضوء جديدا على أكثر أزمات الحرب الباردة إثارة، متحدية العديد من الافتراضات حول دوافع السياسة الخارجية السوفيتية فى كوبا.

يقولان: تقدم قصة الأزمة رسالة تقشعر لها الأبدان حول مخاطر سياسة حافة الهاوية. كما توضح الدرجة التي غالبًا ما ينحصر فيها الاختلاف بين الكارثة والسلام، ليس  نتاج  الاستراتيجيات المدروسة، بل بالصدفة البحتة.

اقرأ أيضا: بعد ستين عامًا من أزمة الصواريخ الكوبية.. بايدن يعيد إنشاء قدرات الردع النووي

رؤوس النخيل

يروي الكاتبان جذور القصة التي وقعت في يوليو/ تموز 1962، عندما وجد إيجور ستاتسينكو، قائد فرقة الصواريخ بالجيش الأحمر البالغ من العمر 43 عامًا، نفسه داخل طائرة هليكوبتر، وحلقت فوق وسط وغرب كوبا.  على الارض مناظر طبيعية وعرة، مع القليل من الطرق والغابات الصغيرة.

قبل سبعة أسابيع، سافر رئيسه -سيرجي بيريوزوف قائد قوات الصواريخ الاستراتيجية السوفيتية- إلى كوبا متنكرا في زي خبير زراعي. التقى بيريوزوف برئيس وزراء البلاد، فيدل كاسترو، وشاركه في اقتراح غير عادي من زعيم الاتحاد السوفيتي، نيكيتا خروتشوف، لوضع صواريخ نووية باليستية على الأراضي الكوبية.

عاد بيريوزوف إلى الاتحاد السوفيتي ليخبر خروتشوف أن الصواريخ يمكن إخفاؤها بأمان تحت أوراق أشجار النخيل الوفيرة بالجزيرة.

لكن عندما أجرى ستاتسينكو مسحًا للمواقع الكوبية من الجو، أدرك أن الفكرة كانت هراء. أثار هو والضباط العسكريون السوفييت الآخرون في فريق الاستطلاع المشكلة على الفور مع رؤسائهم. وأشاروا إلى أنه في المناطق التي كان من المفترض أن تنطلق فيها قواعد الصواريخ، كانت أشجار النخيل على مسافة 40 إلى 50 قدمًا ولم تغطي سوى واحد على ستة عشر من الأرض.  بذلك لن تكون هناك طريقة لإخفاء الأسلحة عن القوة العظمى على بعد 90 ميلاً إلى الشمال.

لكن يبدو أن الأخبار لم تصل إلى خروتشوف، الذي مضى قدمًا في مخططه معتقدًا أن العملية ستبقى سرية حتى يتم وضع الصواريخ في مكانها. لقد كان وهمًا مصيريًا.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول، رصدت طائرة استطلاع أمريكية من طراز U-2 على ارتفاعات عالية مواقع الإطلاق، وبدأ ما أصبح يعرف باسم “أزمة الصواريخ الكوبية”.

لمدة أسبوع، ناقش الرئيس الأمريكي جون كينيدي، ومستشاروه في الخفاء كيفية الرد. في النهاية، اختار كينيدي عدم شن هجوم استباقي لتدمير المواقع السوفيتية وبدلاً من ذلك أعلن حصارًا بحريًا لكوبا لمنح موسكو فرصة للتراجع.

على مدار 13 يومًا، وقف العالم على شفا حرب نووية. لكن، انتهت الأزمة عندما استسلم خروتشوف وسحب الصواريخ من كوبا، مقابل وعد كينيدي العلني بعدم غزو الجزيرة، واتفاق سري لسحب الصواريخ الأمريكية ذات الرؤوس النووية من تركيا.

مقامرة غير مدروسة

في جلسة أسئلة وأجوبة عقدها في أكتوبر/ تشرين الأول، سُئل بوتين: عن أوجه التشابه بين الأزمة الحالية والأزمة التي واجهتها موسكو قبل 60 عامًا. كان رده غامضا، قال: “لا أستطيع أن أتخيل نفسي في دور خروتشوف مستحيل”.

لكن، إذا لم يستطع بوتين رؤية أوجه التشابه بين مأزق خروتشوف والمأزق الذي يواجهه الآن، فهو بحق “مؤرخ هاوٍ”، كما يرى الكاتبان، اللذان أشارا إلى أنه “يبدو أن روسيا لم تتعلم بعد الدرس المستفاد من أزمة الصواريخ الكوبية: أن نزوات الحاكم الأوتوقراطي يمكن أن تقود بلاده إلى طريق مسدود جيوسياسي – وتضع العالم على حافة الكارثة”.

بالعودة إلى الماضي، تُظهر الأدلة أن فكرة خروتشوف لإرسال صواريخ إلى كوبا كانت مقامرة غير مدروسة بشكل ملحوظ، وكان نجاحها يعتمد على الحظ الجيد بشكل غير محتمل.

يقول التحليل: بعيدًا عن كونها حركة شطرنج جريئة مدفوعة بسياسة واقعية بدم بارد، كانت العملية السوفيتية نتيجة استياء خروتشوف من حضور الولايات المتحدة في أوروبا، وخوفه من أن يأمر كينيدي بغزو كوبا والإطاحة بكاسترو، وإذلال موسكو في هذه العملية.

ويضيف: بعيدًا عن كونها عرضًا للمكر والقوة السوفيتية، فقد ابتليت العملية بنقص عميق في فهم الظروف على الأرض في كوبا. كان الفشل الذريع لـ “شجرة النخيل” مجرد واحدة من العديد من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها السوفييت طوال صيف وخريف عام 1962.

ويلفت إلى أن لهذه الاكتشافات صدى خاص في وقت، مرة أخرى، ينخرط زعيم في الكرملين في مناورة خارجية محفوفة بالمخاطر في مواجهة الغرب، بينما يكمن شبح حرب نووية في الخلفية.

تابع التحليل: الآن، كما كان الحال آنذاك، تحرك عملية صنع القرار في روسيا الغطرسة والشعور بالإذلال. بينما يلتزم العسكريون في موسكو الصمت بشأن الفجوة الهائلة بين العملية التي كان يدور في ذهن القائد وواقع تنفيذها.

لكن في عام 1962، عكس خروتشوف مساره، ووجد مخرجًا. بينما لم يفعل بوتين الشيء نفسه بعد.

الصواريخ الباليستية السوفيتية متوسطة المدى في الميدان الأحمر بموسكو- أرشيف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية

اقرأ أيضا: كيف يتعامل الغرب مع الابتزاز النووي الروسي؟

ردع متبادل

في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1962، بعد أن علم من السفارة السوفيتية في واشنطن أن كينيدي كان على وشك مخاطبة الشعب الأمريكي. قال خروتشوف لكبار قادته السياسيين والعسكريين: “كانت عمليتنا كلها ردع الولايات المتحدة حتى لا يهاجموا كوبا”. كان يتوقع أن تتحمل الولايات المتحدة ببساطة الردع السوفيتي، تمامًا كما تحمل الردع الأمريكي.

كان خروشوف قد خطرت له فكرة إرسال صواريخ إلى كوبا قبل ذلك بأشهر، في مايو/ أيار، عندما خلص إلى أن الغزو الفاشل لوكالة المخابرات المركزية لخليج الخنازير في أبريل/ نيسان 1961 كان مجرد عملية تجريبية. واعترف بأن استيلاء أمريكي على كوبا سيوجه ضربة خطيرة لمصداقية الزعيم السوفيتي ويعرضه لاتهامات عدم الكفاءة في موسكو.

ولكن كما يوضح محضر الاجتماع، كان هناك ما هو أكثر من صنع القرار والمخاوف بشأن كوبا. حيث استاء خروتشوف بشدة مما اعتبره معاملة غير متكافئة من قبل الولايات المتحدة. وخلافًا للقصة التقليدية، فقد كان قلقًا بنفس القدر بشأن الصين، التي كان يخشى أن تستغل هزيمة في كوبا لتحدي مطالبته بقيادة الحركة الشيوعية العالمية.

من اللافت للنظر أن الأمريكيين استغرقوا وقتًا طويلاً لاكتشاف الصواريخ، نظرًا لمدى الأخطاء السوفيتية في كوبا. لكن، ارتكبت وكالة المخابرات المركزية خطأً فادحًا من تلقاء نفسها. حيث خلصت إلى أن الأسلحة التي تم شحنها كانت فقط للدفاع التقليدي لكوبا، وليست نووية، على الرغم من شكوك مدير وكالة المخابرات المركزية جون ماكون.

وبينما فضل الكثيرون من مستشاري كيندي هجومًا شاملاً على كوبا للقضاء على القواعد السوفيتية. اختار كينيدي بدلاً من ذلك رداً أكثر حذراً: حصار بحري، لأنه لا يمكن لأحد أن يضمن القضاء على جميع الصواريخ.

وعلى الرغم من أن خروتشوف هاج وغضب في اليومين الأولين بعد إعلان كينيدي الحصار البحري، متهماً الولايات المتحدة بالازدواجية و “القرصنة الصريحة”. لكنه أملى رسالة إلى كينيدي وعد فيها بسحب الصواريخ مقابل تعهد أمريكي بعدم التدخل في كوبا. بعد يومين، أضاف إزالة صواريخ جوبيتر الأمريكية في تركيا إلى قائمة أمنياته، مما أربك كينيدي وأدى إلى إطالة أمد الأزمة.

في النهاية، قرر كينيدي قبول العرض. وأصدر تعليمات لشقيقه روبرت، المدعي العام، للقاء أناتولي دوبرينين، السفير السوفيتي في واشنطن.

حافة الهاوية

إلى الآن، على الرغم من أن روسيا تظل من الناحية النظرية ملتزمة بتجنب حرب نووية، يبدو أن بوتين يثير مخاوف من مثل هذا الصراع.

يقول التحليل: مثل خروتشوف في عصره، فإن بوتين يدق بالسيف النووي ليثبت للجميع -وربما قبل كل شيء لنفسه- أن موسكو لن تهزم.

يضيف: مثل خروتشوف، بوتين مقامر، وتعاني مغامرته الفاسدة في أوكرانيا من نفس الإخفاقات في ردود الفعل، والسرية والمركزية المفرطة التي ابتلي بها خروتشوف في كوبا.

ويقارن التحليل بين فشل مساعدي خروتشوف في التشكيك في مبرراته لمساعدة كوبا، وعدم مقاومة كبار وزراء ومستشاري بوتين ادعائه بأن الأوكرانيين والروس هم شعب واحد. وبالتالي، يجب “إعادة” أوكرانيا إلى روسيا، بالقوة إذا لزم الأمر.

يوضح: لم يواجه بوتين أي تراجع، لجأ إلى سيرجي شويجو وزير دفاعه، وفاليري جيراسيموف رئيس الأركان العامة، لتنفيذ إرادته. لقد فشلوا بشكل مذهل أكثر مما فشل أسلافهم في عام 1962، بسبب العوائق الهيكلية نفسها التي دمرت العملية.

ويؤكد المحللان: من الواضح أن هيئة الأركان العامة لم تستوعب أبدًا التفاصيل المحرجة لقصة فشل خروتشوف، حتى مع رفع السرية عن هذه المجموعة الجديدة من الوثائق.

يضيفان: مرعوبًا من التطورات، أدرك خروتشوف أخيرًا أن مقامرته المتهورة قد فشلت وأمر بالتراجع. كينيدي، أيضًا، اختار التسوية. في النهاية، لم يبد أي من الزعيمين رغبته في اختبار الخطوط الحمراء للآخر، ربما لأنهما لم يعرفوا أين تقع تلك الخطوط الحمراء بالضبط.

وأشارا إلى أن “غطرسة خروتشوف واستياءه قاداه إلى أسوأ مغامرة في حياته السياسية. لكن حذره -وحذر كينيدي- أدى إلى حل تفاوضي”. موضحان أن حذرهم يحمل دروسًا لليوم، حيث يدعو العديد من المعلقين في روسيا والغرب إلى تحقيق نصر حاسم لطرف أو آخر في أوكرانيا”.

يختتم التحليل بالقول: يفترض بعض الأمريكيين والأوروبيين أن استخدام الأسلحة النووية في الأزمة الحالية غير وارد تمامًا. وبالتالي، يمكن للغرب أن يدفع الكرملين -بأمان- إلى الزاوية من خلال تحقيق نصر شامل لأوكرانيا. لكن الكثير من الناس في روسيا، لا سيما حول بوتين، يقولون بتحدٍ إنه “لن يكون هناك عالم بدون روسيا”، مما يعني أن موسكو يجب أن تفضل هزيمة نووية.

إذا كانت هذه الأصوات قد سادت في عام 1962، كان من المفترض أن نصبح جميعًا في عداد الأموات الآن.