يبدو أن فقدان أمل موسكو في مقاربة سريعة، تشبه مقاربة الكاريبي عام 1962، يدفع الكرملين إلى اعتماد طريقة أخرى تسمى بـ “مغامرة الضحية”، أي توفير الأسباب الأخلاقية، ولو حتى عبر البروباجندا، والمنطق المعكوس لاستفزاز الخصم، ومن ثم الرد الصارم باستخدام كل الأدوات المتاحة، انطلاقا من دور “الضحية” ودفاعها عن نفسها.
على الرغم من كل التحليلات التي تناولت لقاء القمة الصيني- الروسي في موسكو، ومد الخطوط على استقامتها، والعصف الذهني الذي قاد العديد من المحللين، ووسائل الإعلام إلى صياغات خطيرة تتنافى مع العقل، والمنطق، والواقع لدرجة الوصول إلى حرب نووية، وإلى إقامة تحالفات عسكرية استراتيجية، بل وإلى حلف صيني روسي عسكري “سري”، أفادت وزارة الخارجية الصينية: بضرورة تركيز جميع الأطراف على إيجاد حل سلمي للأزمة الأوكرانية بالطرق الدبلوماسية، والعمل معا لنزع فتيل الصراع، وتجنب إطلاق العنان لحرب نووية.
ولخصت وزارة الخارجية الصينية موقفها من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروس في الآتي؛ أصدر قادة الدول المالكة للأسلحة النووية، بيانا مشتركا في الـ 5 من فبراير 2022، يفيد باستحالة شن حرب نووية أو الفوز فيها. ولكن يجب، ومن الضروري، تجنب اندلاع حرب نووية بين الدول المالكة لهذه الأسلحة، وتقليل المخاطر الاستراتيجية. هذا التصريح: جاء في بيان رسمي على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينج لوكالة أنباء “نوفوستي” الحكومية الروسية.
وإذا وضعنا هذه الصيغة الواضحة، والمحددة إلى جانب عدم اعتراف بكين بضم روسيا الأراضي الأوكرانية، وعدم اعترافها بشرعية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإننا هنا أمام حالة خذلان تشعر بها موسكو، التي كانت تتوقع ولو حتى مساندة أكثر قوة وصرامة من جانب بكين.
وقد أدى هذا الشعور الروسي بالخذلان إلى اعتراف الرئيس الروسي بالواقع بعد أن انتهت فورة الحماس، والتحليلات العشوائية السريعة، والحملات الإعلامية قصيرة النظر، التي تستهدف تسخين الرأي العام، وإثارة القضايا “الفلسفية والأخلاقية”، ولعب دور الضحية.
فقد صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: بأن بلاده لا تنشئ تحالفا عسكريا مع الصين، وأنها لا تهدد أي دولة أخرى. ولا أحد يعرف هل يرد بوتين على التحليلات المتطرفة التي يدبجها أنصار روسيا أنفسهم؟ أم على ملاحظات ما، من الرئيس الصيني شي جين بينج. وفي الواقع، فموسكو لديها تعاون عسكري- تقني عادي مع بكين. ولكنه تعاون طبيعي، مثل التعاون العسكري التقني مع مصر وماليزيا، والهند، والجزائر، ودول أخرى.
وهذا الكلام، هو كلام الرئيس الروسي نفسه الذي قال: مشددا نعم، لدينا تعاون في مجال التعاون العسكري- الفني، ونحن لا نخفيه، ولا يوجد فيه سر، لكننا لا نقيم حلفا عسكريا مع الصين”.
ولكن من جهة أخرى، لا يكل بوتين ولا يمل من نثر بعض الملح على التصريحات “المجانية”، من قبيل أنه رغم شفافية العلاقات بين موسكو وبكين، تتخذ الدول الغربية محاولات لتشكيل ناتو عالمي يضم مناطق جديدة، وأن “الناتو أقر مفهوما استراتيجيا جديدا له، معلنا عالميته، وخططا لتطوير العلاقات مع دول منطقة آسيا، والمحيط الهادئ، في توجه يذكّر بالكتلة العسكرية لدول المحور خلال الحرب العالمية الثانية. ومثل هذه التصريحات تروق لبعض الصقور في بكين من جهة، ولقطاعات قومية صينية متطرفة من جهة أخرى، لكنها في نهاية المطاف تسقط في أول اختبار لها. وفي الواقع، هي مهمة للغاية بالنسبة لموسكو من أجل لعب دور “الضحية” لتبرير الخطوات المقبلة.
الأمر الآخر، هو أن بوتين خلال تصريحاته الأخيرة حول دول المحور “ألمانيا وإيطاليا واليابان” في الحرب العالمية الثانية، قال: إن “بناء الغرب محور جديد، إجراء يشبه نفس إجراء تشكيل المحور الذي أقامه النظامان الفاشيان: في ألمانيا، وإيطاليا، واليابان ذات السياسة العسكرية في ثلاثينيات القرن الماضي. هذا التصريح نفسه: يعتبر جزءا لا يتجزأ من البروباجندا الروسية التي تملأ وسائل الإعلام، وتصريحات الكثير من المسئولين الروس، على الرغم من أن المشهد الواقعي على الأرض يمتلك شكلا هندسيا معاكسا تماما، إذ أن روسيا وبيلاروس في جهة، والعالم كله تقريبا في جهة أخرى، إضافة إلى أدوار محايدة، أو متعاطفة سرا، أو علنا. وهو أمر يشبه بالفعل هندسة المشهد في الحرب العالمية الثانية. ومن الواضح أن الولايات المتحدة، والدول الأوروبية تعمل فعلا على هندسة وضع شبيه بالحرب العالمية الثانية: روسيا وبيلاروس في جهة، والولايات المتحدة، وكندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، والدول الأوروبية الثلاثين من جهة أخرى.
لقد دفع الإحساس بالخذلان الرئيس بوتين إلى الاعتراف بأن المباحثات التي أجراها مع نظيره الصيني شي جين بينج، في موسكو مؤخرا، تمحورت بشكل رئيسي حول القضايا الاقتصادية، والعلاقات الثنائية بين البلدين. وقال: بالحرف الواحد “بحثنا خلال أربع ساعات العلاقات الثنائية من جميع النواحي، وخاصة في المجال الاقتصادي، وكان التركيز الرئيسي على ذلك”.
وانسحب هذا الخذلان على ما يسمى بخطة السلام الصينية للتسوية الأوكرانية، حيث لم يتحدث بوتين عن رأيه في الخطة، وإنما قال: “إن الرئيس الصيني أولى الكثير من الاهتمام للكشف عن المبادئ الإيجابية لخطة السلام الصينية، والتسوية في أوكرانيا”.
وعلى الفور أفاد الكرملين: بأن بوتين لم يناقش خطة السلام الأوكرانية مع الرئيس الصيني شي جين بينج، منوها بأنه كان هناك تبادلا لوجهات النظر فقط حول البنود التي تتضمنها الخطة بشكل عام. ولم ينس الناطق باسم الكرملين أن يُعَمِّق دور “الضحية”، إذ انتقد رد فعل الدول الغربية على زيارة الرئيس الصيني، واصفا الرد “بغير الودي كالعادة”، وأن “المهم الآن ليس رد الفعل تجاه الغرب، ولكن الشيء الرئيسي هو نتائج تلك المفاوضات التي جرت، الشيء الرئيسي هو نتائج الزيارة نفسها، أما رد فعل دول الغرب الجماعي، وفي الواقع رده في جميع القضايا تقريبا غير ودي، وطبيعة معادية للغاية لا يخفى على أحد”.
ولكن يبدو أن رد الفعل الغربي على الزيارة، وعلى الخطة الصينية ليس بهذه التفاهة، وليس بدون قيمة، إذا نظرنا للحملات الدعائية والتصريحات الرسمية التي شنتها موسكو قبل وأثناء وبعد زيارة الرئيس الصيني.
المشهد الآن يتكون من حذر صيني، وعدم دعم كامل لروسيا، وفرض الحزمة العاشرة من العقوبات الأوروبية، وتزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة الحديثة، والمتطورة والأكثر فاعلية، إضافة إلى مواصلة روسيا تعميق سرديات من قبيل أن الغرب يهدد روسيا بالأسلحة النووية، ويسعى إلى مواجهة نووية ضد روسيا، وأن روسيا تدافع عن نفسها ضد حلف الناتو، وحلفائه الذين يحاربونها ليس فقط في أوكرانيا، بل يريدون تقسيمها، ثم إبادتها، وإبادة شعبها، وثقافتها وديانتها الأرثوذكسية السلافية.
هذا المشهد يساعد الكرملين على تعميق دور “الضحية”، وبذل الكثير من الجهود المضنية للتأكيد على أن نشر روسيا أسلحة نووية في بيلاروس ليس تصعيدا يهدد واشنطن، أو غيرها من الدول، وإنما فقط مجرد إشارة على استعداد موسكو للرّد على أي تصعيد. ويذهب المحللون الروس “الصقور” إلى أن خطوة نشر أسلحة نووية تمثل أيضا، تحديا للولايات المتحدة، لأن “الولايات المتحدة عادة ما ترد على التحدي بتحد أكبر، وإلا ستفقد واشنطن سمعتها كقوة مهيمنة”. بل ويذهبون إلى أن الكرملين يتوقع “ذلك الرد المزدوج” من الولايات المتحدة. وفي نفس الوقت يقولون: إن الرد غير مضمون حتى إذا أعطى الكرملين الولايات المتحدة سببا للتصعيد! إلا أنه يجب أن يكون بوتين قادرا على الرد عموما، وعلى أي رد أمريكي محتمل، وإلا ستكون خطوة نشر الأسلحة النووية الروسية في بيلاروس ليس لها أي معنى!
أما الغريب والمثير للتساؤلات حقا، هو أن هناك أجنحة روسية ترى أنه من المفيد “أن يكون لديك أرضية أخلاقية عالية، أو مكانة الضحية. ومن المحتمل أن يكون لدى بوتين نوع من الأوراق الرابحة، أو خطة ضد الأنجلو ساكسون، أو الغرب بشكل عام، يرغب في استخدامها. ولكنه في المقام الأول وبشكل استباقي، يود الحصول على عذر لهذا في شكل خطوة عدوانية من جانب الولايات المتحدة”. وهذه الفكرة في حقيقة الأمر تمثل فكرة “مغامرة الضحية”.
هكذا تسير السيناريوهات (السرديات) الروسية الجديدة، التي يجري الحديث عنها علنا في الوقت الراهن بعد حالة الخذلان. وهي سيناريوهات تعكس حالة من اليأس، والمكابرة، والإصرار على المضي قدما، لأن الكرملين في واقع الأمر لم يترك أي مساحة للتراجع، أو المناورة، وهو الآن قد حاصر نفسه في زاوية ضيقة للغاية، تستلزم السيناريو الجديد: سيناريو “مغامرة الضحية”، وهو ما يجري العمل عليه إعلاميا في الوقت الراهن.
ويتحدث أحد السيناريوهات (السرديات) الروسية، عن أنه من الجدير أن نتذكر حادث سقوط المسيرة الأمريكية فوق المياه الدولية للبحر الأسود، بالقرب من شبه جزيرة القرم. إذا يرى أصحاب السيناريوهات ذلك أيضا إشارة إلى استعداد موسكو للتصعيد، بل وحتى دعوة للتصعيد. وذلك إلى جانب حديث الرئيس بوتين عن خطواته في بيلاروس، واتهامه الولايات المتحدة بشكل مباشر بتقويض خط أنابيب “نورد ستريم”، وكذلك إلى جانب قصف القاعدة العسكرية الأمريكية بالقرب من دير الزور في سوريا، وزيادة وتيرة تحليق الطائرات الروسية فوق القاعدة الأمريكية في التنف. ويذهب أصحاب السيناريو الجديد إلى أن زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو، قد أصبحت في الواقع إعلانًا عن دخول الصين في مواجهة مع الولايات المتحدة، ثم ينتقلون إلى الربط بين نشر الأسلحة النووية الروسية، وبين تركيز القوات الأوكرانية للهجوم المتوقع في الشهر، أو الشهرين المقبلين، وأن قرار بوتين بنشر الأسلحة النووية يستبق الهجوم الأوكراني!
وتصل السيناريوهات الروسية إل أن الكرملين يصمم (يهندس)، لواشنطن سيناريو يتطور فيه الرد الروسي إذا نجح الهجوم الأوكراني لسبب ما. وأن الكرملين مستعد للانتقال إلى مستوى أعلى من الناحية النوعية من المواجهة ليس مع أوكرانيا، ولكن مع الولايات المتحدة مباشرة. وإذا لم تستجب الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال للأسلحة النووية الروسية في بيلاروس، فإن محاولة الكرملين تكون قد فشلت، لكن الرئيس بوتين لن يخسر في هذه الحالة أيضًا، لأن عدم وجود رد أمريكي يضر بسمعة الولايات المتحدة.
هكذا تسير الأمور، بين الكوميديا السوداء، وبين العبث، وبين أن تتمخض جبال السيناريوهات، والسرديات لتلد فئرانا من قبيل “لم نخسر شيئا ولكننا نجحنا في الإضرار بسمعة الولايات المتحدة”. بينما الحرب جارية، والإنفاق على الأسلحة جارٍ، والضحايا تتساقط بالآلاف، وتنهار الكثير من المرافق الحيوية وغير الحيوية، ويتم تدمير البنى التحتية. بل وتكاد الولايات المتحدة وحلف الناتو، في وسائل الإعلام طبعا وفي التحليلات العشوائية، والحملات الإعلامية، ينهاران، ويظلل عليهما شبح الجوع، والبرد، والفقر، والإفلاس.