العبارة مشهورة، لكن الواقعة التاريخية ليست بذات شهرة العبارة.

العبارة هي “خير لبريطانيا أن تخسر الحرب عن أن تمتنع عن تنفيذ حكم قضائي”، وهي منسوبة لونستون تشرشل، أهم رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا. والحكاية المروية هي أن إحدى المدارس البريطانية كسبت دعوى قضائية، من أجل نقل مطار حربي قريب من المدرسة، فالمطار بالإضافة إلى ضجيجه الذي يمنع الطلبة من الدرس بالطريقة اللائقة، هو كذلك موقع مستهدف من طائرات العدو النازي، في تلك السنوات اللاهبة إبان الحرب العالمية الثانية. حاولت الحكومة التملص من تنفيذ الحكم القضائي؛ نظرا لأهمية المطار وموقعه في ظروف الحرب، لكن تشرشل رئيس الوزراء، يلتزم بتنفيذ الحكم ونقل المطار، لأن الحروب تُخسر وتُربح، أما احترام القانون فهو ركيزة الدولة، وأساس الديمقراطية، واحترام الإنسان، كانت بريطانيا تحارب نظاما شموليا بشعا فإذا لم تحترم القانون واستقلال القضاء، فإنها تصبح مرآة لعدوها، ويصبح حتى كسب الحرب بلا معنى.

الخوف نفسه، خوف التحول إلى نظام شمولي صريح هو ما دفع إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إلى أن يفصح في تغريدة هذا الأسبوع عن مخاوف بعض دول الغرب، في حال نجاح “الإصلاحات”، التي يريد رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو إجراءها على القضاء، أن تنشأ في إسرائيل “دكتاتورية نووية”، في إفصاح غير مسبوق من قِبَل مسؤول سابق على هذا المستوى عن امتلاك الدولة العبرية سلاحا نوويا، وهي التي – كما تعلم – لم تفصح عنها قط بشكل رسمي.

لكن تصريحات باراك – على أهميتها – ليست سوى جزء بسيط من الصراعات الإسرائيلية الداخلية الواسعة، التي وصلت إلى حد إطلاق لفظ “ربيع عبري”، على الحركات الاحتجاجية التي شارك فيها مئات الآلاف وعلى المواجهات مع قوى الأمن، خصوصا في تل أبيب. احتجاجا على محاولات ائتلاف الحكومة اليمينية المتشددة بزعامة نتنياهو، إحداث تغييرات جذرية على النظام القضائي الإسرائيلي. وهي تغييرات يطلق عليها اليمين الحاكم أسماء براقة على غرار أنها “إصلاحية”، و”لتعزيز الديمقراطية” و”مساعدة الاقتصاد”. ومن أجل تحقيق تلك “الوعود” تسعى تلك “الإصلاحات”، إلى “الحد من سلطات المحكمة العليا في إصدار أحكام ضد السلطتين التشريعية والتنفيذية”، و”منح النواب سلطة أكبر في تعيين القضاة”. وتزعم الحكومة أن تلك التعديلات سوف تحمي العملية الديمقراطية من تدخلات القضاة “اليساريين”، وتمنع التعثر المستمر في تشكيل الحكومة، والذي أدى إلى خوض أكثر من خمسة انتخابات تشريعية خلال عامين.

وبما أن الحكومة الإسرائيلية، أي السلطة التنفيذية، تتشكل من خلال الحزب أو الائتلاف الحاصل على أغلبية البرلمان (الكنيست)، وهو السلطة التشريعية، فإن زيادة نفوذ هؤلاء النواب على المحكمة العليا، واختيار القضاة وصلاحياتهم التي تقترحها التعديلات في إعادة تبني قوانين رفضتها المحكمة، يعني في النهاية وكناتج لكل ما سبق، أن السلطات الثلاثة: التنفيذية والتشريعية وأخيرا القضائية، سوف تتجمع في يد واحدة، هي اليد التي تهيمن على البرلمان، وهكذا يصبح نتنياهو، الذي يرفض التخلي عن رئاسة الحكومة، هربا من اتهامات بالفساد قد تتسبب في سجنه، مهيمنا فوق سلطات إسرائيل الثلاثة، قائدا للائتلاف الأكثر تشددا في تاريخ إسرائيل. من دون قدرة للقضاء على إزاحته، أو محاكمته، أو حتى رفض قوانينه، باختصار؛ ديكتاتورية شاملة كما وصفها إيهود باراك وكما يصفها المتظاهرون، الذين عادوا إلى بيوتهم مؤقتا بعد قرار تأجيل إقرار الإصلاحات إلى نهاية الشهر الجاري، استعدادا لجولة جديدة ضد ما يعدونه “ضربة قاتلة للديمقراطية”، و”إلغاء للفصل بين السلطات”، وما وصفه المدعي العام السابق أفيخاي ماندلبليت بأنه “سيجعل هناك أناس يتمتعون بالولاء الشخصي للحاكم والوزير، ولن يكون الولاء للدولة”.

وبالطبع فإن الديمقراطية الإسرائيلية، على كل عوارها تبقى أقرب للنموذج الديمقراطي الأساسي/ الغربي من معظم “ديمقراطيات”، المنطقة. وهي إذ تعد دولة احتلال وفصل عنصري، فإن كثيرا من ديمقراطيات الغرب كانت كذلك، دول ديمقراطية وإمبريالية ارتكبت الفظائع في الوقت نفسه. نضع تلك النقاط على الحروف فقط للتذكير بأن لا تعارض بين الأمرين. وليس الغزو “الديمقراطي”، الأميركي البريطاني للعراق ببعيد. ولكن تضعنا الاحتجاجات الإسرائيلية ضد التحول الشمولي في الدولة العبرية أمام مأزق تاريخي، فإن نجحت إسرائيل في التصدي للإجراءات الشمولية، فإنها سوف تخرج أكثر قوة وثقة بالنفس، وإن فشلت واستسلمت لائتلاف نتنياهو، فإنها ستخرج أشد جنونا وطيشا وتحرشا بالسكان وبالجيران. فيبدو أننا في الحالتين نخسر بشكل ما، وحين  تكون خاسرا أيا كانت النتيجة فقد حان الوقت لتنظر في المرآة.