والعبارة الأصلية: “امتلاك الذات حصن الأمان”، وهي للمستشار طارق البشري -رحمه الله- ولا أدري إن كانت له أم لأحد الصوفية، لكن رأيت تحريفها، لأن ما نناقشه في هذا المقال هو: كيف حقق شيخ الأزهر -أحمد الطيب-استقلاله؟
هو بالطبع استقلال نسبي بإزاء القيادة السياسية، وفي مجال محدد وهو الحفاظ علي الأزهر ورسالته وإدارة شئونه، وليس مجمل المجال الديني المصري، وهو ليس تصادميا لكنه غير خاضع. يمنح الشرعية الخطابية لسلطة الدولة ويبتعد عنها أو ينتقد ما لا يوافق عليه. خطاب الأزهر تم تشكيله بذكاء للحفاظ على حياده في مواجهة المعسكرات السياسية المتصارعة.
نجح الأزهر بشكل فريد بعد يناير 2011 في التفاوض على حقوقه القانونية والدستورية بطريقة تضمن له استقلالًا غير مسبوق عن الدولة، وسعي للحفاظ عليه بعد 2013 بالرغم من أن المجال الديني احتل موقعا مركزيا في صراع النظام مع الإخوان، وفي وقت حرص النظام أن يطيح باستقلال جميع مؤسسات الدولة والمجتمع، ولا يترك لها فسحة لإدارة شئونها الذاتية.
لم يسع الرئيس السيسي فقط لإعادة الأزهر وشيخه إلى حالة ما قبل الانتفاضة عندما كانت السلطة السياسية تتمتع بالسيطرة الكاملة على المؤسسة الدينية، لكنه سعى أيضًا إلى فرض تعديل كبير على العلاقة طويلة الأمد بين الدولة والدين الرسمي من خلال تقديم رأي ديني في القضايا المطروحة في سابقة هي الأولي بعد يوليو 1952، حرص رؤساء مصر المتعاقبون على توظيف الشرعية الدينية لصالح حكمهم دون تقديم اجتهادات دينية محددة.
مداخل أربعة
أولا: الميراث التاريخي:
وقد آل إليه هذا الميراث من جهتين: خبرة العلماء السنة في تعاملهم التاريخي مع السلطة، وتقاليد المؤسسة الأزهرية المتمثل في منهجها ومضمون خطابها وعلاقتها بالسلطة القائمة والتي لا تتساءل عن مدى شرعيتها.
كان ميراث العلماء السنة، هو التفاوض دون صدام مع السلطة القائمة -أيا كانت شرعيتها، وكانت المقايضة التاريخية هوإنشاء مجال مستقل لكليهما في تقاسم مريح. السلطان يتمتع بالسلطة الواقعية في حين يستقل العلماء بالسلطة الرمزية والأخلاقية.
في قلب هذه المقايضة يأتي مفهوم “الفتنة” الذي يمكن ترجمته بلغتنا المعاصرة إلى مفهوم الاستقرار. صحيح أنه جرى تباين بين العلماء المعاصرين حول المقصود بهذا المفهوم حين أعطاه بعضهم -كالقرضاوي- في الربيع العربي مضمونا ديموقراطيا، لكن الشيخ الطيب انحاز في تعريفه إلي المفهوم التقليدي وهو الفوضى التي تنتج عن خلو الزمان من السلطان -أي السلطة الواقعية التي تمثلت هنا في سلطة الجيش بعد 2013.
جاء المنهج الأزهري، ليضبط المفهوم من جوانب عدة أهمها مفاهيم: التعددية والتكفير وحرمة الدماء.
من خلال هذه المفاهيم الثلاثة استطاع أن يضبط موقفه مما جرى من أحداث بعد 2013؛ حيث قبل بتعددية الفاعلين في الحقل الديني، وهو وإن لم يقبل مسلكهم إلا إنه لا يستطيع أن يكفرهم -كما جرى في الموقف من داعش والإخوان- ويرفض ويستنكر أن تسيل الدماء من أي طرف سواء رجال الجيش أو الشرطة أو المحتجين في رابعة.
ملمح آخر وهو الجمع بين ميراث المحافظة والتجديد في صعيد واحد. توزعت جهود الفكر الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر وامتدت حتى الربع الأخير من القرن العشرين بين تيارين أساسيين: تيار محافظ يحرص على التقليد الذي ورثه، وآخر تجديدي انطلق من التقاليد لكنه استطاع أن يقدم إجابات على قضايا عصره.
في الربع الأخير من القرن العشرين شهدنا التقاء بين هذين التيارين في عدد من الرموز الفقهية والدعوية من أبناء المدرسة الأزهرية وخارجها، وكان الطيب امتدادا لهذه المدرسة؛ فهو يعد الطلاق الشفوي طلاقا يقع وإن لم يوثق، ولكنه ينحاز لقضايا المرأة، وهو إذ يقبل تجديد الخطاب الديني ولكنه يرفض ما يقدم تحت هذه الدعاوى من آراء تهدر تقاليد التراث الديني.
بالمحافظة الدينية يضمن قبولا شعبيا لدي الطبقات الوسطي والدنيا، وبالتجديد يستجيب لما تطرحه نخب محلية ودولية من أجندات.
لن أناقش حدود التجديد في هذا المقال لأني أتصور أنه لم يتحول إلى حركة شاملة ترج جنبات الأزهر، فهي تظل بؤر ضيقة محدودة ومحاصرة وليس تيارا عاما.
ثانيا: سياسة مجمع البحرين -حين يلتقي مرج البحرين لكن بينهما برزخ لا يبغيان.
اقصد بها أن جميع الاطراف محلية وإقليمية ودولية بعد 2011 سعت لتوظيف الأزهر في معاركها مع بعضها البعض، لكنه استطاع أن يرسم له هوية مستقلة عنها جميعا مستغلا التناقضات فيما بينه ، ليقوم بدور دعوي واجتماعي وتعليمي وخيري دون انحراف عن الميراث الذي أشرت إليه في البند السابق.
ينتهي الباحث المتميز محمد جمال علي في رسالته عن: دور الأزهر في المجال العام من 2011 إلى 2018 التي تقدم بها إلى معهد الدراسات العربية 2019 إلى: “فترة الدراسة تمثل حقبة صراع واستقطاب فكري ومذهبي وسياسي كبير، حالت دون وجود حالة من الإجماع بين السلطات السياسية والقوي المجتمعية حول الإيمان بدور معين للأزهر في المجال العام، وإنما حاولت الأطراف المختلفة -سواء أكانت التيارات الإسلامية أو التيارات العلمانية أو النظم الحاكمة في مصر والدول العربية [وأضيف: وأطراف دولية مثل: بابا الفاتيكان والتحالف الدولي المناهض لداعش]، تطويع مرجعية الأزهر واستخدامه لصالحها في معاركها السياسية مع الخصوم، وهو أمر ربما استفاد منه الأزهر بدرجة أو أخرى من خلال بناء هوية مستقلة له عن كثير من هذه القوى السياسية مستغلا التناقضات فيما بينها”، وأضيف: أن هذه الهوية المستقلة خلقت له مظلات حماية تجاه العصف باستقلاله، وهو ما حاوله النظام المصري تكرارا؛ لكن لم يستطع ولا يعني هذا أنه لا يقدر في المستقبل، لكن التكلفة السياسية -حينئذ- ستكون كبيرة.
احتاجته الأطراف جميعا فقام بما هو مطلوب لها، ولكن في إطار استراتيجيته الأصلية، وهو الحفاظ على ميراثه ورسالته ومؤسسته.
رأي العلمانيون فيه بعد يناير/ كانون الثاني 2011 حصنا ضد الإسلاميين؛ فكانت وثيقة “مستقبل مصر” الذي انحاز فيها للدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، وفي وقت لاحق بعد 2013 لجأ إلي أروقته العلمية الشباب الذي ترك التنظيمات الإسلامية لتوه ليبحث عن علم شرعي يحفظ به هويته وربما يجد فيه إجابة علي ما جرى من فشل لتجربته في الحكم، كما رأى فيه بعض أتباعهم نفسا يعارض فيه بعض سياسات السيسي.
استدعته الإمارات -والسعودية لاحقا- في معركتهم ضد الحركات السياسية الإسلامية؛ فكان اتحاد حكماء المسلمين في مواجهة اتحاد علماء المسلمين بقطر، الذي يترأسه الشيخ القرضاوي، ورأي النظام المصري فيه سبيلا يمكن أن يملأ به الفراغ الديني الذي سيخلفه الإخوان، ولاحقا تم توظيف الدور الإغاثي لبيت الزكاة التابع له لمعالجة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للسياسات النيوليبرالية التي اتبعها النظام باتفاقه مع صندوق النقد الدولي 2016 -مثل ما كان يفعل مبارك مع الإخوان وإن كانت طريقة النظام الحالي قد اختلفت حين ادمج العمل الخيري المصري -خاصة المنظمات الكبرى- في مخططات الدولة.
أما بابا الفاتيكان -الذي توطدت علاقته بالطيب كثيرا- فربما يجد فيه نصيرا لحماية مسيحيي المنطقة أو مواجهة تداعيات التطرف العنيف عليهم، أو علي أقل تقدير تخفيف الضغوط عليهم والتي تزايدت بأشكال عدة بعد الربيع العربي.
في ملتقى البحرين -أو بالأحرى البحور- كان عليه أن يلتقي مع الجميع ولكن أيضا يجب أن يفترق عنهم ولا يكون متماهيا مع استراتيجيتهم. يلتقي مع الإماراتيين في حربهم ضد الإسلاميين، ولكن لا يكون جزءا من دعاوى الدين الإبراهيمي أو اتفاقيات التطبيع، وهو يملأ فراغ الإخوان الدعوي والخيري ولكن لا يستجيب للنظام في تكفيرهم، وكذا الموقف من داعش.
توازنات دقيقة بين الجميع واستفادة من هذه العلاقات لمزيد من التوازن فيما بينها.
ثالثا: مصلحة الأزهر أولا:
من خلال دفاعه الشرس عن مصالح الأزهر وإدراكه لعواقب موقفه عليه؛ أظهر الطيب مستوى من الاستقلالية عن النظام أكسبه مصداقية وثقة داخل الأزهر وفي المجتمع المصري ككل.
حاول الطيب باستمرار إعادة تأكيد سلطته على المجال الديني، وهذا يعني محاربة أي محاولة من قبل النظام للانتقاص من هذه السلطة أو الاقتطاع منها -كما جري بشأن تغيير قانون الأزهر ذاته أو دار الإفتاء من قبل.
تمكن الطيب من تعزيز شرعيته الدينية باعتباره الحامي المخلص لمصالح الأزهر، والمدافع عن استقلاله بما اكسبه شعبية لدى قطاعات جماهيرية متسعة -خاصة أن الفترة التي أعقبت 2013 قد شهدت أصوات زاعقة، بدأت تهاجم بعض الثوابت التي استقر عليها فهم المصريين للدين. انبرى الشيخ لمواجهة هذه الأصوات فزادت شعبيته، ونواكب معها إنشاء رواق الأزهر الذي جعل المنهج الأزهري ينتقل من ضيق القاهرة وزحمتها إلي ربوع مصر في مدنها وقراها.
تشير بعض الدراسات إلي أن النظام يسمح بهذه الشعبية أو علي أقل تقدير يتقبلها لأنه يمكن أن يستفيد منها في مواجهة أزمة سياسية أو تهديد من حراك جماهيري، وحجتهم أن النظام يعرف أنه يمكنه الاعتماد -حينئذ- على دعم الطيب الثابت.
السماح للطيب بزيادة شرعيته يعني أن النظام بشكل غير مباشر يعزز شرعيته هو أيضا، ويخلق صورة (حتى في أضيق الحدود)، للتعددية الدينية التي قد تدعم النظام، والسماح لإمام الأزهر بتأكيد استقلاليته في القضايا التي يعتبرها النظام ذات أهمية ثانوية.
أدرك الطيب أن النظام استخدم الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، كأداة استراتيجية للمطالبة بالسلطة السيادية على المجال العام الديني، وللتلاعب بالمؤسسات الدينية ضد بعضها البعض في محاولة لزيادة توطيد السلطة، وتقوية التحالفات مع القوى المدنية وبعض النخب المصرية، وتحسين صورته على المستوي الدولي… أدرك الطيب كل هذا فكانت استجابته لدعاوى تجديد الخطاب الديني في إطار الميراث الذي سبق وأشرنا إليه سابقا.
رابعا: البعد الشخصي: تظل مقومات شخصية شيخ الأزهر مما رسمت دائما طبيعة علاقته بالنظام. نحن نتحدث هنا عن أن طبيعة شخصية سيد طنطاوي (1996-2010) المطواعة قد جعلت من الأزهر تابعا للنظام، في حين أن شخصية جاد الحق {1982-1996) قد أعطت له عناصر استقلالية متعددة في مواقف كثيرة -مثل الموقف الرافض لفوائد البنوك أو دوره في إفشال المؤتمر الأممي للسكان الذي عقد بالقاهرة 1994.
لا شك أن شخصية الطيب الممتزجة بالتصوف، الذي علي ما يبدو قد ورث منه الزهد والاستغناء، بالإضافة إلي تقاليد أسرته في هذا الصدد وما لعبته من دور في فض المنازعات بين المتخاصمين في الصعيد وما يتطلبه ذلك من حياد بينهم، واستقلال عنهم قد لعبت دورا في الشعور بالاستقلال.
لا يتوقف الأمر علي البعد الشخصي فقط بل تلعب الأشخاص التي يقربها منه دورا أيضا في دعم الاستقلال أو إضعافه، وهي بالمناسبة تمثل شبكات متعددة ومصالح لمؤسسات مختلفة -وطنية وإقليمية، وتتباين توجهاتها في أحيان كثيرة وتتصارع، ومورست ضغوط علي بعضها للتقلص صلاحيتها أو تسحب منها مسئولياتها -كما جري مع المرحوم ا.د.محمد عمارة الذي سحبت منه رئاسة مجلة الأزهر، ومحمد عبدالسلام -المستشار القانوني للشيخ الذي انهيت خدمته.
عندما احتدم الصراع السياسي بشدة في الأعوام التي أعقبت يناير تحول الأزهر ليكون منصة للحوار بين الفرقاء السياسيين، وأذكر ما سمعته من الشيخ مباشرة حين استحضر أنهم من خلال لجان المصالحات يحلون ما هو أشد صعوبة من ذلك، لأن بعضها تكون فيه أرواح قد أزهقت.
بالتأكيد فإن السياقات التي يتحرك فيها الشيخ تلعب دورا في إمكانية زيادة مساحات الاستقلال أو تراجعها؛ ففي أعقاب يناير لم تكن السلطة قد تماسكت بعد فاستطاع الشيخ أن يزيد مساحات الاستقلال بعد أن التقت المصلحة في ذلك مع المجلس العسكري -الذي كان يحكم وقتها- والذي أراد أن يحفظ الأزهر بعيدا عن هيمنة الإخوان -القادمون الجدد للسلطة، ولكن في الوضع الراهن وبالرغم من أن مساحات الاستقلال تكاد تتلاشي لجميع المؤسسات، فإن الشيخ استطاع أن يحافظ على الحد الأدنى الذي يضمن للمؤسسة التي يقودها أن تتمتع بالمصداقية.
ويبقي سؤال يستحق المتابعة: ما هو مستقبل هذه الاستقلالية بعد الطيب؟ ويرتبط بذلك سؤال آخر: هل هذه الاستقلالية النسبية والمتحققة في مجالات محدودة هي للشيخ بشخصه أم امتدت إلى المؤسسة؟