أثار اتفاق تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية، والذي أُعلن مطلع الشهر الماضي بوساطة صينية، ضجة كبيرة. وذهب بعض المراقبين إلى حد إعلانه “انتصارا للأمن الدولي”.
لكن، على الرغم من أن الصفقة قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها خطوة إيجابية للاستقرار الإقليمي والأمن الدولي، فإن التقييم الدقيق لدوافع خامنئي والحرس الثوري الإيراني يكشف عن حقيقة مختلفة.
في الوقت نفسه، على عكس ما يقوله الانعزاليون في الغرب، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط لن يقلل المشكلات بل في الواقع، سيزيد من تقويض الأمن الدولي من خلال تمكين القوى التى تتحدى النظام العالمي الليبرالي.
في تحليلهما المنشور في فورين بوليسي/ Foreign Policy، يشير كل من سعيد جولكار الأستاذ في قسم العلوم السياسية بجامعة تينيسي. وكسرة عرابي رئيس برنامج إيران في معهد توني بلير للتغيير العالمي. إلى أن الصينيين “يستخدمون الاتفاق لإلحاق الأذى بالغرب، وجهود السلام العربية- الإسرائيلية، والنظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة”.
ويلفت التحليل إلى أنه “إذا كانت هناك شكوك سابقة، فإن الصفقة تؤكد أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة سيخلق فراغا يملأه المحور المعادي للغرب تدريجيا”.
اقرأ أيضا: “على حافة الهاوية”.. الدروس الضائعة في أزمة الصواريخ الكوبية
اقتلاع الغرب
يشير التحليل إلى نقطة رئيسية في الاتفاقية الإيرانية- السعودية.
بالنسبة للزعيم الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي، والحرس الثوري الإسلامي (IRGC)، فإن الصفقة تتعلق بما هو أكثر بكثير من تطبيع العلاقات مع الحكومة السعودية، ويتعلق الأمر بتسهيل نشوء نظام عالمي جديد مناهض للغرب، تقف الصين وروسيا فيه جنبا إلى جنب، واستبعاد الولايات المتحدة من ترتيب إقليمي جديد.
ويضيف أنه، من وجهة نظر خامنئي والحرس الثوري، استعادة العلاقات مع السعودية هي الجانب الأقل أهمية في الصفقة “الأهم من ذلك، أن الصفقة علامة فارقة لتحقيق طموحات النظام مع الأصدقاء الأقوياء”.
ويلفت إلى أن المرشد الأعلى -البالغ من العمر 83 عاما- يعتقد، مثل سلفه، أن صدام الحضارات كان موجودًا منذ فترة طويلة بين العالم الإسلامي والغرب “كان المشروع طويل الأمد للثورة الإيرانية هو استعادة الحضارة الإسلامية بقيادة الشيعة في إيران”.
فى العصر الحديث، كان يُنظر دائمًا إلى الولايات المتحدة والنظام الدولي الليبرالي الذي تقوده على أنهما العقبة النهائية -الشيطان الأكبر- التي تقف في طريق تحقيق هذا الهدف. وعلى مدى 44 عامًا من وجود الجمهورية الإسلامية، ركز النظام كل موارده على زعزعة جوهر شرعية الغرب.
الترويكا الأيديولوجية
وفي السنوات الأخيرة، جاء هذا الهدف لربط خامنئي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينج. وكلاهما شريكان غير متوقعين.
لذلك، تم استثمار الصين وروسيا بالكامل في هذه الترويكا الأيديولوجية -مصطلح سياسي يشير إلى اجتماع ثلاث دول على رأي سياسي واحد تجاه قضية معينّة.
وأشارا التحليل إلى أن خامنئي “يرى حضارة إسلامية بقيادة إيران، وحضارة روسية سلافية بقيادة روسيا، وحضارة كونفوشيوسية شيوعية بقيادة الصين. جميعهم في حالة حرب مع الحضارة الغربية، وهو يعتقد أن الآن هو أفضل فرصة لديهم منذ عقود لاقتلاع الغرب”.
نظام عالمي جديد
تعتقد الدائرة المقربة من خامنئي أن النظام العالمي الليبرالي، الذي تقوده الولايات المتحدة، آخذ في الانهيار، وأن نظامًا جديدًا مناهضًا للغرب تقوده الصين وروسيا وإيران يتشكل.
في الآونة الأخيرة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، حدد خامنئي رؤية لنظام جديد قائم على “عزل الولايات المتحدة، ونقل السلطة إلى آسيا، وتوسيع جبهة المقاومة المناهضة للغرب”.
يقول التحليل: هذه هي الرؤية التي يدعم خامنئي من خلالها حرب بوتين في أوكرانيا، ويفسر لماذا يشارك في تقديم الدعم العسكري، وهى أيضًا الطريقة التي تنظر بها طهران إلى الصفقة التي توسطت فيها الصين.
بعد توقيع الصفقة، أكد يحيى رحيم صفوي، القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني والمستشار العسكري لخامنئي، أن “حقبة ما بعد الولايات المتحدة” في المنطقة قد بدأت. وأن الصفقة كانت “ثاني أكبر ضربة صينية للولايات المتحدة”.
ومن وجهة نظر خامنئي والحرس الثوري، فإن العودة إلى الوضع مع السعودية قبل قطع العلاقات في عام 2016، هي سبب آخر لإعلان النصر “لأنهم يعتقدون أنه يحافظ على هيمنتهم الإقليمية دون أي تكلفة تقريبًا”.
ويلفت التحليل إلى أنه “بقدر ما يتعلق الأمر بالحرس الثوري الإيراني، لن يكون هناك تغيير عملي في استراتيجيته أو تشدده أو دعم وكلائه وجماعات الميليشيات”.
يرى التحليل أن العداء العنيف تجاه السعودية متأصل في أيديولوجية الحرس الثوري الإيراني، حيث تم دمج المذاهب المعادية للسعودية -التي تصور العائلة المالكة السعودية على أنهم “مرتدون” ولهم “أصول يهودية”- في برنامج التلقين الرسمي للحرس الثوري الإيراني.
وأكد أن الرياض تدرك ذلك تمامًا “فهي تعرف الهوية الحقيقية للحرس الثوري الإيراني ودوافعه بما يتجاوز الوجه المبتسم لعلي شمخاني -كبير مفاوضي طهران- ومع ذلك، بالنسبة للسعوديين، فإن الصفقة مفهومة بكل بساطة”.
اقرأ أيضا: التطبيع الإسرائيلي-الإماراتي.. محاولات تشكيل شرق أوسط جديد
تسريع انهيار النظام الدولي
ترى الرياض أن الاتفاق مع طهران يمنح القيادة السعودية القدرة على متابعة أهدافها الأساسية، والتي تتعلق ببناء القوة الاقتصادية للبلاد، والمضي قدمًا في الإصلاحات الاجتماعية التي تجتاح البلاد بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بما يرون أنه حماية معززة ضد هجوم مباشر أو بالوكالة من إيران.
لكن، من المحتمل أن يكون لديهم أوهام قليلة حول إمكانية الاعتماد على أي التزامات للنظام الإيراني، أو استمرارية الاتفاقية”.
في ظل المشهد، فإن الحماس الذي ولّده الاتفاق بشأن السلام الدائم في اليمن يتجاوز طاقته.
يقول التحليل: في أحسن الأحوال، على المدى القصير جدًا، سيؤخر الحرس الثوري الإيراني تكتيكيات تشدده ضد عدوه الأصغر –السعودية- لتكريس المزيد من الاهتمام لطرد عدوه الأكبر -الولايات المتحدة- من الشرق الأوسط. وبالتالي، إنهاء انهيار النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، من وجهة نظرها.
يضيف: إذا كان هناك أي شيء، على المدى الطويل، فإن الحرس الثوري الإيراني يأمل -على الأرجح- في أن تؤدي الصفقة التي توسطت فيها الصين إلى تعزيز عقيدة الميليشيات وتعزيز استراتيجيتها المتمثلة في إنكار هجمات يشنها الحوثيون ضد الرياض.
بعبارة أخرى، تعزز الصفقة قدرة الحرس الثوري الإيراني على الادعاء بأنه “ليس لديه سيطرة” على عمليات الحوثيين، على الرغم من كونه الداعم الرئيسي لهم.
كما يعتقد النظام الإيراني أن الاتفاق الذي توسطت فيه الصين “يضرب عصفورين بحجر واحد” في هذا الصدد. من خلال تأخير انضمام المزيد من الدول العربية إلى اتفاقات التطبيع إبراهيم -التي تعمل طهران على تخريبها- وتقويض وزن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
لذلك، يشير الكاتبان إلى أن كل هذا يمثل تحديًا أمنيًا كبيرًا للغرب وحلفائه: إذا اعتقد خامنئي والحرس الثوري الإيراني أن نظامًا عالميًا جديدًا آخذ في الظهور، فسيكونون عازمين على تسريع انهيار النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
أضافا: قد يؤدي ذلك إلى زيادة التصعيد والتهور والأخطاء الإستراتيجية المناهضة للغرب من جانبهم، بما في ذلك الملفات النووية والإرهابية.
توسيع التعاون العسكري
يشير المحللان إلى أن القلق الأكثر إلحاحًا، هو توسيع التعاون العسكري بين بكين وموسكو وطهران، الموجه نحو تقويض النظام العالمي الحالي بقيادة الولايات المتحدة.
ويلفت التحليل إلى أنه “بعد أقل من أسبوع من الإعلان عن الصفقة التي توسطت فيها الصين، أجرت الصين وإيران وروسيا مناورات بحرية مشتركة عبر المحيط الهندي وخليج عمان”.
ويوضح أنه على الرغم من أن الرئيس الصينى شي سيتردد -على الأرجح- في تعزيز العلاقات العسكرية الاستفزازية مع خامنئي، لكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن بوتين.
يقول: في الأشهر والسنوات المقبلة، من المرجح أن نرى تعاونًا أوثق على الأرض بين طهران وموسكو يتجاوز أوكرانيا فقط. بالنظر إلى أن كلاً من خامنئي وبوتين سعيا إلى استخدام إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كساحة معركة لاستهداف المصالح الغربية.
كما أن إمكانية التنسيق بين فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومجموعة فاجنر في القارة الإفريقية لم تعد بعيدة المنال.
ويؤكد التحليل أن “هذا من شأنه أن يغير بشكل كبير الديناميكية الأمنية، فيما يعتبر بالفعل بؤرة جديدة للإرهاب”.
وأشار إلى أنه “قد يؤدي السيناريو الأسوأ إلى تنسيق موسكو وطهران هجمات ضد المصالح الغربية، عبر مجموعات غير رسمية، مع إمكانية إنكار للهجمات لتجنب أي عواقب”.
الهروب من العقوبات
بعيدًا عن المجال العسكري، شجعت الصفقة الإيرانية السعودية التي توسطت فيها الصين طموحات بكين وموسكو وطهران المشتركة لاستبدال الكيانات والاتفاقيات العابرة للحدود الموجهة للولايات المتحدة بأخرى خاصة بهم. بين هذه الاتفاقات إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون، أو استبدال الدولار الأمريكي بـ اليوان الصيني والروبل الروسي.
ويؤكد التحليل أن طهران مشغولة بزيادة جهودها لتشكيل تحالفات أوثق مع الدول التي تعتبرها جزءًا من هذا المحور الناشئ المعادي للغرب.
بالفعل، كشفت تصريحات خامنئي الأخيرة، خلال اجتماع مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، كيف تريد الجمهورية الإسلامية قيادة الجهود لتقويض العقوبات الأمريكية على مستوى العالم. حيث دعا المرشد الأعلى إلى “تجمع مشترك” للدول التي يفرض عليها عقوبات من الغرب.
أيضا، أنشأ الحرس الثوري الإيراني -بالفعل- شبكة من طرق التمويل غير المشروع في جميع أنحاء العالم، ليس أقلها في أمريكا الجنوبية. وقد ظهرت تقارير تكشف كيف تتهرب طهران من العقوبات النفطية الأمريكية والأوروبية، وتهرب الذهب من فنزويلا وإليها.
هنا، يؤكد التقرير أن “الظهور الأخير لليسار المناهض للولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية، أتاح مرة أخرى لنظام خامنئي المجال لتوسيع شبكته في القارة إلى ما وراء فنزويلا. وهي فرصة لم يُضِعها آية الله العجوز”.