المراجعات ضرورية لسلامة النظر إلى مكامن الخطر.

أمام أخطر المنعطفات، التي قد تفضي إلى أفدح النتائج في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يطرح السؤال نفسه: ماذا يمكننا أن نفعل لإسناد الشعب الفلسطيني، الذي يحارب وحده ويضحي وحده ويتألم وحده، في دفاعه المستميت عن عروبة القدس وسلامة المسجد الأقصى؟

حتى لا ننسى وتبهت الذاكرة، برز إثر زيارة الرئيس الأسبق “أنور السادات” إلى القدس عام (1977) دور استثنائي للبابا “شنودة الثالث” رأس الكنيسة الوطنية المصرية في مقاومة التطبيع.

اكتسبت الأوصاف جدارتها من صلابة الموقف، الذي لم يتزحزح بأية لحظة، أو تحت أي ضغط.

بدا مثيرا ومحزنا أن شيخ الأزهر الشريف لم يكن في ذلك الوقت على ذات المستوى.

كان الدكتور “محمد سيد طنطاوي” رجلا طيب القلب، لكنه حاد المزاج في خصوماته، وتصريحاته أساءت إلى صورته.

“كل المظاهرات لعب عيال والمعارضون للتطبيع تحت حذائي”.

استنكر قتل الإسرائيليين المدنيين.

في مناسبة أخرى اعتبر أن من يفجر نفسه في العدو شهيدا.

“إسرائيل دولة إرهابية وأبطال العمليات الاستشهادية في الجنة”- نوفمبر (2001).

اعتبر التعاون الاقتصادي مع إسرائيل حراما، لكنه أدان دعوات مقاطعة البضائع الإسرائيلية عندما علت أصواتها.

الأسوأ أنه قال بما لم يسبقه إليه أحد من أسلافه على مدى ألف عام: “إني شيخ الأزهر لمصر.. وليس من حق أي عالم مصري أن يتحدث في شأن أي دولة”!

ربطته صداقة متينة بالبابا “شنودة الثالث”، يتبادلان النكات عندما يلتقيا، وقد كان رأس الكنيسة لديه ما يرويه دائما، غير أن موقفيهما من قضية التطبيع على طرفي نقيض.

لم يمانع فيه شيخ الأزهر، التقى حاخامات في مقر المشيخة، تبنى دعوات زيارة القدس للصلاة في المسجد الأقصى.

حرم البابا مثل هذه الزيارات وعارض أية نزعات للتطبيع بأية ذريعة.

لم يكن للدور الذي لعبه “شنودة الثالث” مثيل في تاريخ الكنيسة المعاصرة.

كان زعيما سياسيا محنكا بالمعنى الاصطلاحي رغم منصبه الديني الرفيع.

التقيته كثيرا منتصف تسعينيات القرن الماضي في حوارات مطولة، أغلبها لم تكن للنشر.

كاريزميته مؤكدة، وحسه السياسي فطري، وحساباته في الأغلب تميل إلى السياسة وموازين القوى فيها، شاعر وضابط سابق يتقن عدة لغات أجنبية، الروح الوطنية فيه أصيلة، لكنه رجل دين، حسابات الكنيسة تلزمه ومصالح طائفته الدينية تضع له الحدود الأخيرة.

هو مزيج خاص واستثنائي بين رجل الدين ورجل السياسة، ولعل الفراغ السياسي وغياب عناصر مدنية مسيحية في صلب الحياة السياسية، مع شعور قطاع واسع من الأقباط بالغبن والتهميش، أفسح المجال واسعا أمام دور سياسي مباشر يلعبه في مقدمة مسرح مفعم بالتحولات والصراعات والانقلابات السياسية.

صعد إلى كراسي البابوية بعد سبعة أشهر من رحيل “جمال عبدالناصر” في (28) سبتمبر (1970)، وتولى “السادات” مقاليد السلطة.

شاءت الأقدار- أقدار البابا وأقدار مصر- أن تتغير الرئاسة في البلد والكنيسة في توقيت متزامن.

جاء “شنودة” إلى رئاسة الكنيسة في سن الثمانية والأربعين بأفكار جديدة ورؤى ترغب في تجديد الكنيسة المصرية وتحديثها، ثم دعت صراعات السياسة وانقلاباتها إلى استبدال علاقة الانسجام بين رئاسة الدولة ورئاسة الكنيسة في عصر “عبدالناصر” والبابا “كيرلس السادس” إلى صدام بين الرئاستين في أواخر عهد “أنور السادات”.

عندما ذهب “السادات” إلى القدس عام (1977) مانع “شنودة” في الذهاب معه، ثم حسم أمره سريعا في رفض اتفاقيتي “كامب ديفيد” (1978)، وما يترتب عليها.

كانت حسابات البابا- السياسية قبل الدينية- أن مجاراة رئاسة الدولة في سياساتها المستجدة قد يدفع قطاعات واسعة من الراي العام العربي، في مصر بالخصوص، إلى التشكيك في الانتماء العربي لأقباط مصر.

“لسنا خونة الأمة العربية” على ما دأب أن يقول باعتزاز.

عندما كان عليه أن يختار بين رئاسة الدولة والرأي العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع “السادات”، مدركا أنه إذا ما جاراه في التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرارا أفدح لا يمكن تداركها وشروخا لا يمكن ترميمها في النسيج الوطني.

رفع رأسه معتزا بدوره وهو يقول: “أنا آخر البابوات العظام الذين قالوا للمحتل لا”.

هكذا وصف الصورة التي أراد أن يدخل بها التاريخ.

في التفاته رجل لديه حس استثنائي بالتاريخ أغلق ذات حوار بيننا جهاز التسجيل.

سألني: “هل تعتقد أن كل الدول العربية والإسلامية سوف تعترف بإسرائيل؟”.

أجتبه على الفور: “لا”.

قال: “إذن لن أذهب إلى القدس أبدا”.

كانت تلك درجة أكثر تشددا في رفض التطبيع مع إسرائيل، أو زيارتها، أو السماح للأقباط بالحج إليها.

في البداية قال: “لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر”.

ثم فكر في احتمال أن يزور شيخ الأزهر المدينة المقدسة، وأن يكون الرأي العام العربي غاضبا ومعترضا.

رأي أن الأوفق ألا يزورها حتى لو ذهب إليها شيخ الأزهر.

تصادم ذلك الموقف المتشدد مع مصالح بعض العائلات القبطية، التي لها صلات بالولايات المتحدة ومصالح محققة في الغرب، متصورة بالوهم أن حماية الأقباط في علاقات دافئة مع إسرائيل.

“الحج لكنيسة القيامة الآن خيانة للمسيح”.

أدار معركته بثقة في قوة مركزه وضرب بقبضة البابوية من أسماهم “المتأمركين الأقباط”.

كنت من الذين نصحوا البابا- في تلك الأيام البعيدة- أن يدخل المواجهة بنفسه، يلقي بثقله في ميادينها، أن يكون هو بقضيته موضوع المواجهة.

حسم المواجهة بأسرع من أي توقع وحاز في الوقت نفسه على شعبية كبيرة في العالم العربي.

وصفته في مقال منشور قبل أن تمتد الحوارات بيننا بـ”البابا العربي”.

وافق ذلك الوصف ما يعتقده في نفسه ودوره.

أرسل سكرتيره الصحفي الأستاذ “طلعت جاد الله” برسالة من كلمات معدودة: “البابا يريد أن يراك”.

بحسه السياسي استمع وهو في مكتبه أصوات مظاهرات طلاب جامعة عين شمس وقد وصلت إلى ميدان العباسية تتضامن مع العراق المحاصر وتستعيد مواقف “عبد الناصر”.

أراد أن يستمع لوجهات نظر أخرى في الحياة العامة المصرية عند منتصف تسعينيات القرن الماضي.

كانت تلك حسابات رجل سياسة محنك وقدير يدرك أن حماية الرأي العام المصري والعربي قادرة على صيانة الكنيسة من التفكك والضعف.

مع بداية عصر “مبارك” مالت العلاقة بين الكنيسة والدولة إلى نوع من التهدئة والتعايش وتجنب الصدام، الذي سيطر عليها في سنوات “السادات” الأخيرة.

في بعض الأوقات شاب العلاقة بين رئاسة الدولة ورئاسة الكنيسة نوعا من الفتور، وبدا أن قنوات الاتصال غير سالكة أو غير موجودة، وهو ما سمعته من البابا “شنودة” شاكيا من أن أحدا لا يتابع الكنيسة القبطية ويساعد على تذليل ما يعترضها من أزمات ومشكلات، كما كان يفعل الدكتور “مصطفى الفقي” سكرتير الرئيس للمعلومات قبل أن يغادر منصبه.

كانت للبابا “شنودة” صفتان، رجل سياسة صاحب رؤية للعلاقات بين المسلمين والأقباط وإدارة الحوار مع الدولة وضبط إيقاع التفاعلات، وهو- هنا- متشدد قوميا من حيث المبادئ العامة ومرن سياسيا في العلاقة مع الدولة، غير أن صفته الثانية كرجل دين، وهي الأصل تضع حدودا لرجل السياسة.

رجل الدين، الذي هو رأس الكنيسة، تحاصره الشكايات، وبعضها مغلف بأجواء احتقان طائفي وعليه- بحكم الواقع- أن يبدو مدافعا عن طائفته.

عندما تصاعدت أدوار جماعات أقباط المهجر، لم يكن مستريحا لمثل هذا الصعود، الذي أخذ يطرق مجالسه، وترتفع الأصوات فيها بالغضب.

رغم ذلك نجح إلى حد كبير في ضبط الإيقاع، والتأكيد على ضرورة حل مشاكل الأقباط في إطار الجماعة الوطنية المصرية.
في حواراتنا المتصلة قال لي ذات مره إنه يرفض التمثيل النسبي للأقباط في المجالس الدستورية، ولا يعنيه عدد الأقباط في التشكيل الحكومي.

اعتبر أن بعض الوزراء الأقباط عبء على الكنيسة.

شرح وجهة نظره على النحو التالي: “لو أن هناك محافظا قبطيا- لم يكن هناك محافظ قبطي في ذلك الوقت- تبنى قضايا الأقباط فسوف يقال عنه إنه متعصب، أما إذا تبناها محافظ مسلم فسوف يقال عنه إنه متسامح”.

كانت تلك رؤية نافذة لرجل يدرك معنى السياسة وتعقيداتها.

في مطلع القرن سألته: “هل أنت مطمئن يا قداسة البابا إلى أن من سوف يأتي بعدك سوف يلتزم بتوجهاتك الرئيسية في رفض التطبيع مع إسرائيل حتى لا تكون هناك فتنة أو اتهامات لأقباط مصر بأنهم خونة الأمة العربية، على ما تحذر دائما؟”.

كانت إجابته: “لا تقلق، فما أعبر عنه هو التيار الرئيسي داخل الكنيسة المصرية، وهذه مدرسة لي فيها تلاميذ أوفياء سوف يحملون الراية بعدي”.

في التفاتة عميقة إلى ما يتهدد المسجد الأقصى من سيناريوهات تعمل على النيل منه سألني ذات مرة: “حاشا لله أن يحدث ذلك، لكن ما الذي يمكن أن يفعله العالم العربي والإسلامي إذا ما جرى مكروه خطير للمسجد الأقصى وقيل إن مجنونا ارتكبه؟”.
ثم أجاب على سؤاله: “أخشى أن يكون أقصى ما يحدث مظاهرات غاضبة وبيانات تنديد!”.

سؤال “البابا العربي” يطرح نفسه مجددا على وقع التهديدات الماثلة، التي وصلت إلى مستويات لم تكن متصورة.

كيف ندرأ الكارثة قبل أن تقع؟

هذا سؤال آخر يحتاج إلى مقاربات جديدة خارج العبارات والمواقف المستهلكة.