مع حلول عيد القيامة، يتذكر المسيحيون الفلسطنيون آلامهم الممتدة مع رحلة المسيح، وفي فترات زمنية ممتدة، منذ هجرات اليهود ومحاولات تغيير التركيبة الديمغرافية للبلد العربي بإخلاء أهله الفلسطينين من المسيحيين والمسلمين، وصولًا إلى السنوات الثلاث الأخيرة، التي شهدت تصاعدًا للاعتداءات، وشملت الأديرة والكنائس في الأراضي المحتلة، في الضفة والقدس على حد سواء.
هذا العام، انتقدت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية “القيود الصارمة” التي تفرضها إسرائيل على احتفالات عيد الفصح المجيد في القدس، وحثت المسيحيين على الحضور والمشاركة في مراسم “سبت النور” بكنيسة القيامة، في البلدة القديمة والتي تضع قوات الاحتلال قيودًا على الوصول إليها.
وفي العام الماضي، حددت شرطة الاحتلال عدد المشاركين في “سبت النور” بـ 1700 شخص. بينما هذا العام أعلنت السماح لـ 1800 شخص فقط، بمن فيهم رجال الدين. الأمر الذي يحد من المشاركة في الاحتفالات التي تقام منذ ما يقرب من ألفي عام، والتي فسدت بفعل قوات الاحتلال التي تنصب السواتر الحديدية لتقييد الوصول إلى الكنيسة، وتعتدي بالضرب على من يحاولون الوصول.، ضمن قيود مشددة على هذه الاحتفالات.
تعليقا على هذا القرار الأخير، قال المتحدث باسم بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس الأب عيسى إلياس عيسى مصلح: “نحن في القدس نريد الحرية وحرية العبادة حق أعطانا إياه الرب، ولا يحق لأي إنسان تقييد حرية إنسان آخر عندما يمارس العبادة”.
ووصفت هذه الإجراءات بأنها “عنصرية” للتضييق على حرية الفلسطينيين في الوصول إلى أماكنهم المقدّسة، مؤكدةً أنها لا تنفصل عن القيود التي فرضها ضد حرية العبادة الخاصة بالمسلمين في المسجد الأقصى.
“الجغرافيا التي أعاد الاحتلال تشكيلها لا تنفي التاريخ”؛ هكذا تقول السردية ويؤشر الواقع. ولد المسيح في بيت لحم، وعاش في الناصرة، وتنقل بين أرجاء فلسطين التاريخية، وانتشرت الرهبنة وانتقلت من صحراء مصر إلى صحراء غزة، وحمل القديسان، هيلاريون وخاريتون حتى وصل عدد الرهبان إلى عشرات الآلاف بنهاية القرن السادس.
بين أماكن يضيق عليها الاحتلال وتعد مراكز للمسيحيين في العالم، كنيستا بيت لحم والقيامة في القدس، والبشارة في الناصرة، هذا ضمن ما تشهده حواضر فلسطين ومدنها التي يقطن فيها المسيحيون من تضيق وعقاب ومحاولات للاستبعاد ودفعهم للهجرة.
حصار مختلف الأوجه، خشن واضح أحيانًا مستترًا وخفيًا أحيانًا أخرى، تحاصر الأماكن وسكانها ورودها، لأنها تحمل رمزًا ثقافيًا وتاريخيًا تقول مجتمعة: “هنا شعب لا يمكن نفيه وترحيله ومعقابته بالتهجير والاستيطان”.
يقول بطريرك اللاتين، رئيس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية: “الحكومة الإسرائيلية جعلت الحياة أسوأ للمسيحيين في الأراضي المقدسة، هذا ما تفيد به بعض صحف إسرائيل أيضًا.
يرى المسحيون أنه مع صعود حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة إلى السلطة ستزداد أحوال المسيحيين صعوبة.
في ديسمبر/ كانون الأول 2018، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حديثه إلى مسيحيين صهاينة في “ريو دي جانيرو”: “إذا كنت مسيحيًا في الشرق الأوسط، فهناك مكان واحد فقط تكون فيه آمنًا. هناك مكان واحد فقط ينمو فيه المجتمع المسيحي ويزدهر.. هذا المكان هو دولة إسرائيل”.
لكن الصورة ليست كذلك، وخطابه كان دفاعًا عن دولة الاحتلال التي تمارس التضييق على العبادات في القدس، المسيحية والإسلامية. كلاهما، ينظر إليهما اليمين الإسرائليى المتطرف بوصفهما محطات ارتكاز للصوت الفلسطيني.
الجدران شاهدة على مسيحيين عرب، وبقعة شكلت لاهوت المسيحية ذاتها، ثم كنيسية ينظر إليها الاحتلال كمدرسة وطنية، تنتمي إلى لاهوت التحرير ومتأثرة به وبتعاليمه، لذا فهو يضيق على ممارساتها الاحتفالات والطقوس بزيادة القيود والحصار كما جرى في احتفال “سبت النور” العام الماضي، وهو ما يشكل استمرارًا لممارسات سابقة.
أصدر البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس قبيل عيد الميلاد في 2021، بيانًا حذروا فيه من سلوكيات الجماعات اليهودية المتطرفة، والتي تعمل على طرد المسيحيين. لكن، قوبل البيان بغضب شديد من قبل الخارجية الإسرائيلية بقيادة يائير لبيد، ورئيس الدولة يتسحاق هرتسوج.
بعد أيام من ذلك، أصدرت الدائرة المركزية للإحصاء تقريرًا يفيد بأن المجتمع المسيحي في إسرائيل نما بنسبة 1.4% في عام 2020، ويبلغ عدده حوالي 182 ألف شخص. نحو 84% منهم راضون عن الحياة في البلاد.
اليوم، يقدر عدد المسيحيين بـ 200 ألف، ينتمون إلى الأرثوذكسية والرومانية الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نسبة المسيحيين في الأراضي الفلسطينية لا تتجاوز 1 في المئة، بعد أن كانوا يشكلون قبل نكبة عام 1948 حوالي 11.2 في المئة.
ويواجه هؤلاء إجراءات عقابية كأداة للضبط والتضييق، تأخذ أشكال عدة. ففي الضفة تعرقل قوات الاحتلال بناء الكنائس، وتهدف هذه الإجراءات إلى دفع معدلات الهجرة وتفريغ فلسطين من المسيحيين.
آخر الاعتدات سُجلت هذا العام، باقتحام مستوطن كنيسة حبس المسيح، وتحطيم بعض محتوياتها، من بينها تمثال أثري للسيد المسيح.
تظهره نتائج دراسة بحثية أجريت في عام 2020 أن بين أسباب الهجرة، ممارسات الاحتلال ومصادرة الأراضي واعتداءات المستوطنين. أغلبية المسيحيين يرون أن الاحتلال الإسرائيلي يريد طردهم من وطنهم، حسب ما تفيد شهادات.
وقد أثار قرار فرض ضرائب فادحة على الأديرة والكنائس احتجاج كنيسية القيامة خلال فبراير/ شباط 2018، وأغلقت أبوابها رفضًا لهذه الإجراءات الضريبية.
كما رفضت الكنائس مشروعًا يقضي بفرض ضرائب على أملاك الكنائس المسيحية، في مخالفة للإجراءات القانونية المنظمة لدور العبادة، وبوصفها ليست عملًا تجاريًا لتدفع ضرائب. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فقوانين يهودية الدولة تستهدف المسلمين والمسيحيين معًا، وتنفي وجودهم، وتعبر عن عنصرية دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين عمومًا والتسارع في حركة الاستيطان التي يريد فيها اليمين الصهيوني مصادرة أراضي المسيحيين والأديرة.
رغم ذلك، يقف الصمود الفسطينى قائما يمثل نورًا في مواجهة عتمة الاحتلال وممارساته العنصرية. تقف أمل مرقس تغنى أنا من هنا من كلمات محمود درويش بن القرية كفرياسف، تكمل أمل حاملة الرسالة، تقول: “دون أبى أنا من هنا، هنا بيتي”. تنشد وترتل أيضا في “سبت النور”.
أمل مرقس مغنية فلسطينية،، والدها الرفيق نمر مرقس كما ينادي، أبو الفقراء، من أبناء قرية كفر ياسيف في الجليل، التي نصف سكانها من المسيحيين الذين عانوا الاحتلال الإنجليزي والإسرائيلي، ورغم محدودية عدد سكانها إلا أنها تمثل مركزًا ثقافيًا وسياسيًا هامًا، كما الناصرة وبيرزيت وحيفا. في تلك المناطق تربي جيل من رموز فلسطينية مسيحية؛ أبرزهم إميل حبيبي وعزمي بشارة وإدوارد سعيد وسلامة كيلة.