تختلف التقديرات حول أي الطرفين قادر على حسم المعارك الدائرة الآن في السودان، والمشتعلة بفعل تمرد نائب رئيس مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، على الجيش النظامي بقيادة عبد الفتاح البرهان. لكن لا اختلاف على أن واقع الحرب التي امتدت إلى ولايات، ومدن سودانية من الشمال إلى الجنوب خارج العاصمة الخرطوم في مروي، والفاشر والأبيض ونيالا وكوستي، بات يهدد بحرب أهلية وقبلية واسعة، خاصة إذا ما قررت إحدى الحركات المسلحة البُعد عن الحياد النسبي البادي إلى الآن، بالانحياز لأحد الطرفين المتحاربين.
حقيقي أنه منذ اندلاع الاشتباكات والمواجهات العسكرية السبت، لم تظهر مواقف مباشرة وصريحة لأي من الحركات المسحلة لدعم أطراف الصراع في الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، وإن كان لقادة الحركات مواقف مسبقة خلال التفاوض على الاتفاق الإطاري. وقد دعم قادة الحركات مثل مني أركو مناوي، وجبريل إبراهيم موقف القوات المسلحة في ضرورة الاتفاق على آليات دمج الدعم السريع في الجيش، قبيل التوقيع على الاتفاق الإطاري.
إلا أن الوضع الحالي، خصوصًا مع اتساع مجال الاشتباكات في الولايات، قد يسمح بانضمام تنظيمات قبلية واجهت مظالم خلال الفترة الانتقالية في الاشتباك مع الأحداث الجارية بشكل أو بآخر.
اشتعال الصراع بين القوات المسلحة، والدعم السريع ظهر واضحا، وبشكل علني خلال ورشة إصلاح القوات المسلحة، والأمن والمخابرات في السودان بداية إبريل/ نيسان الجاري، والتي طرحت فيها أفكار لخريطة تكوينية للجيش السوداني تبناها الدعم السريع، تقوم على إعادة بناء الجيش السوداني وفقًا للتوزيع القَبَلي والوزن النسبي لكل قبيلة في السودان.
وفي مواجهة أفكار وتوجهات حميدتي، كان الاتفاق الإطاري ينص على دمج قوات الدعم السريع في الجيش. وتبنى البرهان رؤية تقضي بإتمام عملية الدمج في غضون عامين فقط. على عكس ما أراده حميدتي من مد فترة الدمج لعشر سنوات وفق رؤية دعمتها الأمم المتحدة، والسفير الأمريكي في السودان، فيما تم تفسيره في إطار التدخل الخارجي لإضعاف الجيش السوداني، والإبقاء على الميليشيا داخل السودان.
طريق حميدتي
قوات الدعم السريع هي الأقوى، والأبرز تنظيمًا سياسيًا وتسليحيا “بالنسبة للتنظيمات والحركات”، وكانت تعتبر كيانًا شرعيًا تم الاعتراف به في السودان بموجب قرار رئاسي ودستوري، قبيل ثورة 2019،وتمكن قائدها من تعزيز وجوده في الملفات الأمنية داخل السودان، بل ولديه قوة على الانتشار والتفاعل داخل الشارع السوداني، بشكل يبدو أكبر من الجيش النظامي أحيانًا. هذا فضلًا عن الوجود المتصاعد خارجيًا.
ويرى مراقبون أن تقرب حميدتي للقوى المدنية، خاصة قوى الحرية والتغيير في الفترة الأخيرة، والاتصالات السياسية الواسعة التي استهدفت نقل تبعية قوات الدعم السريع، لرئاسة الوزراء بشكل مباشر دون أن تكون لها علاقة بالقوات المسلحة، كشف عن محاولات الرجل للاستئثار بالدعم السريع خارج سيطرة الجيش، سواء فيما يتعلق بالعمليات التي تشمل علاقاتها، والعمليات الأمنية أو التجارية داخل وخارج السودان، وهو ما ظهر في تحركات منفردة للدعم السريع مؤخرًا كتدشين مساعدات لتركيا لمساعدة متضرري الزلازل مثلًا، إضافة إلى تاريخ الدعم السريع في المشاركة في عمليات عسكرية خارج السودان كالحرب في اليمن وليبيا.
وبتتبع سياسات حميدتي في قيادة قوات الدعم السريع في الفترة الأخيرة، يمكن القول إنه كان يسعى إلى خلق كيان أمني مواز ومنافس للجيش النظامي، ليس فقط في إطار التحرك في الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية أحيانًا داخل السودان. ولكن في إطار التنسيق مع دول وقوى خارجية في المحيط الإقليمي الإفريقي والعربي والدولي.
وقد كشفت لقاءات وزيارات حميدتي مع مسئولين من روسيا وأمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي ودول خليجية، في مقدمتها الإمارات، والمشاركة في ملفات إقليمية كمكافحة الإرهاب والتطرف، والاتجار بالبشر في القارة الإفريقية، وخاصة في القرن الإفريقي، محاولات للتعامل ككيان سوداني أمني مستقل، وهو ما لم يكن متصور استمراره على الأقل خلال الفترة الانتقالية التي يديرها قائد القوات المسلحة الفريق عبد الفتاح البرهان، دون حكومة مدنية قوية، أو برلمان يصدق ويعترف بهذه التحركات والاتصالات التي يديرها الدعم السريع باسم السودان.
نقطة اللا عودة
ورغم أن الخلافات بين أطراف القوى المدنية كانت السبب الرئيسي في تعطل الإصلاح السياسي، وإدارة المرحلة الانتقالية ومن ثم، وجد الجيش ذريعة لتنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 على المكون المدني الشريك في إدارة المرحلة الانتقالية، وفق الوثيقة الدستورية، إلا أن إصلاح الإدارة الأمنية والخلاف الرئيسي حول الموقف، من قوات الدعم السريع كان السبب الرئيسي غير المعلن طوال الفترة الماضية في تأخر الحل، والآن في تفاقم الوضع إلى حرب شوارع دامية.
ويبدو أن الحرب الجارية في السودان الآن، سترتكز نتائجها بالأساس في شكل وصيغة الآلية الأمنية القائمة في السودان بعد ذلك، فإما أن ينجح الجيش في بسط سيطرته، والحفاظ على كيانه كجيش قومي موحد يضم في وحداته كل الآليات، والتشكيلات الأمنية الأخرى ويحدد اختصاصتها حسب رؤية، وتوجه القائد العام للقوات المسلحة، وإما أن ينفرط العقد الأمني ويظل السلاح بأيدي قادة متعددين غير متفقين في المواقف والأهداف، وهو ما ينذر بمسقبل غير آمن لتحقيق أي تقدم في مسار الانتقال الديمقراطي المطلوب.
ويظهر أن الجيش قد حسم موقفه من استمرار المعارك، حيث أكد المتحدث باسم الجيش أمس، أنه “لا مستقبل لبلادنا إلا في ظل جيش واحد تحت قيادة عسكرية منضبطة”، وهو ما يظهر ضعف فرص التهدئة أو الهدنة لاصلاح العلاقة بين الجيش، والدعم السريع. كما قد يظهر أيضا ما كان يتردد عن سعى بعض الشخصيات في الحرية والتغيير بأن يكون الدعم السريع نواة للجيش السوداني.
سيناريوهات القادم
في قراءة سريعة للمشهد وتعاطي أطراف الصراع مع المبادرات الواردة من خارج السودان سواء من الجامعة العربية، أو الإيجاد أو دعوات سفراء الدول الأجنبية، تبدو إمكانية التهدئة ونقطة العودة بإطلاق حوار سياسي بين الجيش، والدعم السريع صعبة إن لم تكن مستحيلة.
وتتجه أغلب التقديرات إلى استمرار الحرب، واستخدام الجيش السوداني كل وسائله للتخلص من حميدتي على مستوى المشهد الأمني والسياسي، وهو ما لن يكون سهلًا بالنظر لعلاقات الأخير، الذي وإن كان خسر جزءًا كبيرًا من التأييد الشعبي القبلي له في مناطق دارفور، لكنه لا يزال لديه قوة اتصالات مع قبيلته الرزيقات العربية، والقبائل الأخرى في دول إفريقيا الوسطى وتشاد.
ويبدو أن مواقف الدول الخارجية لن تصب مباشرة في حماية الجيش السوداني، وتعزيز إمكاناته في الحرب ضد قوات الدعم السريع، بالنظر إلى الأدوار الخارجية السلبية في عرقلة عملية السلام بعد توقيع اتفاق جوبا “اتفاق سلام تم توقيعه في 3 أكتوبر 2020 بين الحكومة السودانية وعدد من الحركات المسلحة، لحل عقود من الصراعات في دارفور وجنوب البلاد”، وتعميق الخلافات الداخلية العرقية، والتأكيد على مفهوم الحكم الذاتي للأقاليم الحدودية، ما أثار فكرة الانفصال، خاصة مع تعذر نزع سلاح الحركات المتمردة، ودمج الفصائل المسلحة، وبالتالي تعزيز النزاعات الأهلية واستمرارها.
لكن وإن كانت التوقعات تتجه نحو استمرار التصعيد والصراع المسلح، فإن بعض الأصوات لا تزال تراهن على إمكانية أن يحسم الجيش بقيادة البرهان قضية تعدد الجيوش، وفرض القوات المسلحة النظامية ككيان موحد مسئول عن المنظومة الأمنية والدفاعية داخل السودان. وهو ما قد يكون صعب تحقيقه حاليًا، خاصةً مع عدم إظهار العديد من القوى السياسية الفاعلة في المشهد السوداني لمواقفها وعدم إظهار أي رسائل تدعم تحركات الجيش ضد الدعم السريع.
ولعل سبب الإحجام عن تأييد الجيش، يرجع للمخاوف من احتمال أنه في حال حسم هذه المعركة لصالح الجيش بقيادة البرهان، فقد يفرز ذلك سلطة عسكرية قهرية جديدة تستأثر بالحكم، وتحول دون تحقيق أي انتقال ديمقراطي آمن. وهو ما قد يهدد بدوره أي محاولات لإقامة دولة مدنية في السودان.