من الواضح أن التعامل “الخشن” مع الجنود المصريين في مطار “مروي”، والذي أبدته قوات الدعم السريع في السودان ليس فقط باحتجازهم وإنما بتقديمهم في استعراض إعلامي له أهداف محددة. ومن بين هذه الأهداف، اثنان ذكرهما الدكتور سيد غنيم في أحد تعليقاته المهمة. الأول، هو “وضع القيادة العامة المصرية في موقف يجبرها على عدم التدخل خوفًا على أرواح الجنود المصريين كرهائن لدى قوات الدعم السريع السودانية”. والثاني، هو “تسريع الوساطة في الأزمة بشكل يمكن أن يقلل الضغوط المتوقعة على قوات الدعم السريع”.
وفي الواقع، هناك هدف ثالث مزدوج ينطوي على بعض الخبث والتآمر، وهو محاولة دفع مصر للاشتباك مع قوات الدعم السريع، بسبب احتجاز الجنود المصريين، ومن ثم إثبات أن القاهرة منحازة لأحد الطرفين. وبالتالي، يتم استبعاد مصر كوسيط أو كأحد الوسطاء المحتملين.
في الحقيقة، مصر في وضع لا تحسد عليه، لأنها أول دولة تضررت بشكل مباشر من الأحداث السودانية، وأول دولة تجرى محاولات من أطراف متعددة، ليس فقط لاستبعادها من المعادلة، بل والسعي إلى توريطها في صدام مباشر مع إحدى القوتين، أو الانحياز المعلن والمباشر أيضًا للقوة الثانية. وهو ما يعني تورط مصر بشكل مباشر في الصراع السوداني، الذي تحول بعد ساعات من نشوبه إلى حرب أهلية.
المتضرران والمنتفعون
في وقت الحرب والموت والدمار، تكون الأولوية لإنقاذ حياة الناس على أرض الواقع وليس التمنيات والعصف الذهني والبحث عن ضحايا ومذنبين. وبناء عليه، وبشكل براجماتي تمامًا، يجب إدراك أن هذه “الحرب السودانية” ليست حرب مصر، على الأقل في الوقت الراهن.
وبصراحة شديدة، فهذه الحرب، هي حرب الإمارات وقطر والمملكة السعودية. وليس للقاهرة الآن أهدافًا مبدئية سوى ثلاثة أشياء فقط: إعادة الجنود المصريين سالمين إلى بلادهم، وتأمين الحدود المصرية بصرامة وباستخدام كل الحقوق والمواثيق الدولية وما تستلزمه متطلبات الأمن القومي المصري حصرًا، والشروع فورًا بالبحث عن بدائل للتعامل مع الملف الإثيوبي. وقد تكون جمهورية جنوب السودان أحد الحلول المهمة في هذا الاتجاه، إضافة إلى الدول الأخرى المجاورة لإثيوبيا والتي تربطها بمصر علاقات مصالح.
كان من الواضح، خلال الثماني وأربعين ساعة الأولى من الصدام المسلح بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، أن الأمور ستتسع، وستظهر هناك ثقوب أوسع ومساحات أكبر لقوى خارجية دولية متنفذة، وستبدأ مساومات ورهانات وتلويحات وآمال بقواعد عسكرية و”استثمارات”. وهذا عمليًا ما تجرى صياغته الآن لتقديم صيغ للوساطة وصيغ للمفاوضات، وصيغ أخرى للاستفادة من مجريات الأمر الواقع.
هكذا هي السياسة الكبرى، بعيدًا عن العواطف والتمنيات والشعارات الفارغة.
لقد مرت فترة الـ 48 ساعة التي كانت لازمة لمنع توسع المواجهة بين الطرفين السودانيين المتحاربين. وعمليًا، انتهت هذه الفترة دون أي تهدئة، بل على العكس، تواصل التصعيد، وتواصلت النداءات الدولية والإقليمية بنفس الشعارات والمصطلحات المعروفة عن التهدئة وعدم التصعيد وضرورة إجراء المفاوضات.
ومع بداية اليوم الثالث، تكوَّن مشهد يشير إلى أن السودان على بعد سنتيمترات قليلة من التحول إلى ثقب أسود جديد سيبتلع الأخضر واليابس، وسيكون امتدادًا للثقب الأسود السوري والعراقي والليبي واليمني.
ومن الواضح تمامًا أن أكبر دولتين متضررتين بشكل مباشر هما مصر وليبيا. أما دول الخليج التي تظهر “نشاطًا مثيرًا للدهشة والاستغراب” فهي بعيدة نسبيًا وغير متضررة بشكل مباشر، وبالذات على مستوى الحدود المباشرة وأرواح المدنيين والعسكريين على حد سواء.
هناك انطباع يمتلك الحق في الوجود، ألا وهو أن “الثقب الأسود” السوداني المقبل موجه إلى مصر تحديدًا، أو بلغة دبلوماسية خالية من الاتهامات، ستكون مصر هي المتضرر الأكبر من هذا الثقب، لأسباب كثيرة، وبحكم الجغرافيا من جهة، وبحكم مصالح بعض الأطراف التي يبدو أنها تريد توريط مصر في فخ شبيه بالفخ اليمني من جهة أخرى.
وفي الواقع، فقط نجح محمد دقلو (حميدتي) في تحييد القاهرة خلال الساعات الـ 48 الأولى الساخنة بارتهان جنودها، أو بلغة دبلوماسية باحتجاز جنودها خوفًا على حياتهم، وأعلن التزامه بالحفاظ على حياتهم، وأنه سيتم إطلاق سراحهم (أو إعادتهم بلغة دبلوماسية) عندما تصبح الفرصة مناسبة!
هكذا تتشكل مقدمات الثقب الأسود السوداني الذي يبدو للوهلة الأولى أنه صراع على السلطة بالنسبة للبعض، وصراع بين طرفين مستبدين وقمعيين، على ضرب الديمقراطية وسحب البساط من تحت أقدام “قوى الحرية والتغيير” بالنسبة للبعض الآخر. لكن هذا المشهد الأولي يخفي مشهدًا آخر خطيرًا ينذر بالخطر، تشارك فيه أطراف كثيرة، ستعلن عن نفسها قريبًا من خلال مبادراتها، بعد أن ظهرت توجهاتها من خلال وسائل إعلامها التي تعمل ليس بمعزل عن توجهات مراكز القرار ومجموعات المصالح فيها.
يبدو أنه خلال الأيام الأربعة الأولى من عمر “الحرب”، استطاعت بعض الأطراف الكبرى أن تحدد ولو حتى مسارات أولية لتحركاتها وشكل تصريحاتها، ومن ثم تحديد مصالحها وفق الجداول الزمنية المتعارف عليها في مثل هذه الأحداث. ومن العقلانية أن نتفادى الاستغراق في تفاصيل سابقة لأوانها. لكن من الواضح أن هناك من يؤسس لأمر واقع يقضي بتوريط مصر في الثقب الأسود السوداني المقبل.
وبطبيعة الحال، هناك مقدمات تاريخية لذلك، وهناك مساحات سياسية مؤسفة جاهزة، وهناك أرضية تم تشكيلها منذ زمن طويل لتسخين النخب في البلدين ضد بعضها البعض. فالعلاقات بين النخب السودانية والمصرية غير جيدة وغير صحية ومبنية على انعدام ثقة تغذيه وسائل الإعلام، وبالذات وسائل الإعلام الخليجية ووسائل الإعلام التابعة لدول الممانعة والبعث. إضافة إلى وسائل الإعلام في البلدين بكل موظفيها قليلي العقل وفاقدي الرشد وقصيري النظر.
المشهد مؤسف للغاية، وقابل للاتساع على نحو أكثر خطورة وشراسة وعمومية واستقطاب قوى ودول و”عصابات”. ويبدو أنه على الطرف المصري أن يلتزم الهدوء والاتزان، وأن يضع مهمة إعادة الجنود المصريين إلى بلادهم سالمين كأولوية، ومن ثم إغلاق هذا الملف، الآن وفورًا، وعدم تركه لكل التلاعبات الدولية والإقليمية التي بدأت عمليًا في اليوم الرابع للحرب الأهلية السودانية. وهذا ببساطة، لأن السودان يستعد بالفعل، ووفق مؤشرات وتحركات، لاستقبال عصابات متعددة الأهداف والدوافع والمصالح و”الممولين والموجهين”.
في كل الأحوال، القاهرة متضررة على مسارات مهمة من جراء هذا النزا، وعليها أن تختار بدقة موقفها وتحركاتها التالية، لأن رفاهية الخطأ معدومة تمامًا. لكن الخطأ الأكبر سيكون تورطها في سيناريو مشابه لتورط دول الخليج في اليمن. وخلال اليومين الأخيرين، تظهر بقوة تأثيرات وسائل الإعلام الخليجية في الإمارات وقطر والسعودية، وهي تأثيرات معادية بكل معاني الكلمة، وتتسم بالخلط وإثارة الرأي العام وتزييف التصريحات واجتزاء الأخبار، وكل ذلك ليس بعيدًا عن توجيهات مراكز القرار في هذه الدول الثلاث، أو على أقل تقدير بناء على توجيهات مجموعات المصالح واللوبيات التي تعمل بالتنسيق مع الأجهزة والمؤسسات الرسمية.
الموقف الراهن
– القاهرة الآن في مأزق حقيقي وعليها أن تنطلق في تحركاتها من مصالحها القومية حصرًا، ومن سلامة جنودها، ومن عدم الإضرار بمصالح الشعب السوداني الذي يجري تسخينه ضد القاهرة طوال السنوات الأخيرة. وأن تتفادى أي أخطاء تضر بمصالح هذا الشعب أو بصورته.
– يبدو أن تقديرات محمد دقلو (حميدتي) كانت خاطئة، وأن هناك من تلاعب به وبرأسه، ونفخ فيه وفي قدراته، وأعطاه انطباعًا بإمكانية نجاح تحركاته في ظل انشغال العالم بالحرب الأوكرانية، وبأعياد الفصح، وبالمصالحات مع الرئيس بشار الأسد وزيارات وزراء خارجية دول الخليج تباعًا للقائه في دمشق، وبتداعيات اتفاقيات التطبيع بين دول الخليج وشمال إفريقيا من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى.
– المحاولات تجرى الآن، من قبل ممولي وداعمي “حميدتي” للحفاظ على مساحة له في مشهد السلطة والحكم في السودان. وموقف الفريق عبد الفتاح البرهان ضعيف وهش للغاية، وهو في انتظار المدد من داعميه أيضًا. وربما تدفعه انتصاراته للتنكيل بحميدتي. لا أحد يعرف. لكن الأبواب مفتوحة للعديد من الاحتمالات.
– يبقى المشهد السوداني الداخلي رماديًا ومضببًا للغاية. ويبدو أن البرهان وحميدتي يبحثان عن حلفاء داخليين لإعادة صياغة المشهد أمام الرأي العام العالمي. ولا أحد يعرف الموقف الحقيقي الواقعي القابل للتحقيق على أرض الواقع لـ “قوى الحرية والتغيير” التي يجب أن تعمل بعقلانية ومسئولية، لأنها أصبحت بالفعل جزءًا من المشهد السياسي السوداني وجزءًا من الواقع السياسي التاريخي للسودان.. فهل هي فعلًا قادرة على النظر والتعامل بنضج ومسئولية مع الأحداث الحالية أو في المراحل التالية، سواء اتسعت الحرب الأهلية أم تم وقفها وفق صيغ ما!
– هناك مخاوف من لجوء أي من الطرفين المتحاربين أو كليهما إلى “رعاة” دوليين. وفي الحقيقة، ففرص البرهان ضئيلة للغاية وسيخضع لمساومات قاتلة. أما فرص حميدتي فهي أكبر بكثير، لأنه يستند إلى مواءمات مع الإمارات وقطر وروسيا وتركيا وإثيوبيا. وفي حال اتساع الحرب وامتدادها، يمكن أن يوزع حميدتي الوعود بإنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان، ووجود تركي رسمي في البلاد.
– في كل الأحوال، العرض الروسي معروف، وهو إنشاء قاعدة عسكرية وإمداد أحد الطرفين أو كلاهما بالسلاح. والعرض التركي، هو إقامة قاعدة عسكرية واستثمارات. والعرض الإماراتي، هو نظام سياسي موال، ومواقع على شاطئ البحر الأحمر، وتحكم في المواني. والعرضان القطري والسعودي، هما “كل السودان”.
– لا يمكن استبعاد وجود كتائب فاجنر الروسية ومقاتلين موالين لتركيا على الأراضي السودانية. وليس من المستبعد أن يتم بشكل أو بآخر تحويل السودان إلى ساحة لصراعات دولية، وتصبح بدرجة أو بأخرى امتدادًا لما يجري في أوكرانيا، حيث أن موسكو وأنقرة تتابعان الوضع باهتمام، وتحاولان التموضع للحصول على أكبر مكاسب ممكنة، ومواصلة العمل في ليبيا وإثيوبيا والدول الإفريقية المستهدفة.
– الموقف المصري في غاية الحساسية. ويبدو أنه على القاهرة أن تتصرف، على الأقل الآن، انطلاقًا من الحفاظ على أرواح جنودها وإعادتهم سالمين، وتأمين حدودها المباشرة، وعدم الاستجابة لأي استفزازات، والابتعاد عن التورط في أي فخ يدفعها للتحرك العلني والمباشر في السودان. وربما يتطلب الأمر التنسيق المباشر مع دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وتبادل طرح الرؤى الواقعية.