لم تكن الاشتباكات التي شهدتها السودان منذ بداية هذا الأسبوع مجرد مواجهات عابرة بين فصيلين متحاربين ولا بين جيش نظامي وقوات “متمردة”، إنما عكست أزمة هيكلية في التجربة السياسية السودانية منذ استقلال البلاد ويعاد تكرارها بصور مختلفة عقب كل ثورة.
وللأسف فإن ثورة ديسمبر 2018 التي مثلت نقطة مضيئة وملهمة في التاريخ السوداني أفرزت نخبة لم تستطع أن تضع يدها على المشكلات الحقيقية التي يواجها الشعب السوداني وحصرت نفسها في الإجابة على أسئلة هامشية على حساب الجوهر، مما أدى إلى دخول البلاد في مسار انتقالي متعثر انتهي بمواجهات مسلحة.
الأسئلة المنسية
عقب نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط حكم البشير في مثل هذا الشهر من عام 2019 طرحت قوي التغيير أسئلة كثيرة متعلقة بالواقع السوداني، تركزت كلها حول إنجاز عملية التحول الديمقراطي ونقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين وعزل فلول النظام السابق.
والحقيقة، أن هذه الأسئلة المشروعة لا يوجد خلاف عليها في كثير من تجارب التحول الديمقراطي، لكن السودان كان بحاجة لطرح أسئلة أخرى تتعلق بسياق تجربته السياسية وأسباب تعثر الحكم المدني الديمقراطي في البلاد وعدم تكرار أخطاء الماضي.
فمنذ استقلال السودان عام 1956، شهدت البلاد 3 انقلابات عسكرية وعددًا من المحاولات الانقلابية الفاشلة، إضافة إلى ثورتين شعبيتين أطاحتا بحكمين عسكريين. كما عرف السودان منذ الاستقلال حوالي نصف قرن من الحكم العسكري على ثلاث فترات، مقابل 15 عاما لحكومات مدنية ديمقراطية لثلاث فترات أيضًا وجميعها كانت نظم برلمانية، وأن كل من نالوا لقب رئيس الجمهورية في السودان كانوا عسكريين واستمروا لفترات طويلة وخاصة الرئيسين، الراحل جعفر النميري والسابق عمر البشير، في حين أن الحكومات المدنية التي تعثرت ولم تستمر طويلًا حملوا لقب رئيس وزراء.
واللافت أن السودان على مدار السنوات الأربعة الماضية من عمر المرحلة الانتقالية، عرف توجه قوي لتكرار تجربة النظام البرلماني مرة أخرى خوفًا من تكرار تجارب النظم الرئاسية الاستبدادية في حين أن الواقع يقول إن عدم فاعلية النظام البرلماني في السودان وضعف الأحزاب المدنية والديمقراطية كان أحد الأسباب الرئيسية وراء الانقلابات العسكرية وإقامة نظم رئاسية غير ديمقراطية.
ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق التي غابت طول نقاشات المرحلة الانتقالية كان يجب أن تكون “لماذا فشلنا”؟ ولماذا تعثرت الثورات التي شهدها السودان منذ استقلاله على نبل أهدافها في تحقيق مطلبها في بناء نظام ديمقراطي؟ وعدم اختزال الأمر في وجود عسكريين “أشرار” ومدنيين “أخيار”، إنما في معرفة الأسباب التي أدت لانقسام المدنيين ومرورهم العابر على السلطة وسيطرة العسكريين وبقائهم الطويل في السلطة، والعمل على علاجها دون استهداف أي طرف للآخر.
صحيح أن المكون العسكري ارتكب أخطاء جسيمة خاصة أنه هو الذي يحكم وهو الذي في يده السلاح، فالانقلاب على المسار السياسي بعزل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك كان خطأً فادحًا، كما أن الاعتداء الدموي الذي قامت به عناصر الدعم السريع على المعتصمين أمام قيادة الجيش كان جريمة، كل ذلك حدث ومع ذلك المطلوب معرفة الأسباب التي أدت لهذا التعثر المتكرر في التجربة السودانية.
مسار جديد
بعد أن اشتعلت المعارك بين الجيش والدعم السريع، وبعد أن اتضح أن الأول أقرب لحسم المعارك لصالحه، وخاصة في الخرطوم والمدن الكبري، ومع ذلك سيبقى التحدي الأمني حاضرًا بقوة لأن عناصر الدعم السريع التي تقدر بمائة ألف عنصر لن يتم إبادتها، وسيعاد مرة أخرى طرح سؤال دمجها في المجتمع والمؤسسات النظامية، وهنا يمكن أن يكون للقوى المدنية دور كبير في بلورة هذا المسار إذا التزمت بالمعايير المهنية التي تحكم هذه العملية .
ولكي تعزز قوى الحرية والتغيير وباقي الفصائل المدنية من حضورها وتأثيرها، فعليها أن تعيد النظر في بعض خياراتها وتتمثل أولًا في عدم تركيز كل طاقتها في لجنة إزالة التمكين وعزل كل رموز النظام القديم، والخلط بين من ارتكب جرائم دم أو فساد وإفساد فيجب محاسبته، وبين قيادات وسطى وصغرى دخلوا الحزب الحاكم لتحقيق مصالح صغيرة معروفة في كل أحزاب السلطة العربية ولا يجب استهدافهم، لأن ذلك من شأنه خلق حاضنة من بقايا النظام القديم تناصب الحرية والتغيير والمسار الديمقراطي العداء بل التف بعضها حول المكون العسكري.
أما ثانيًا، فيجب أن تقبل قوى الحرية والتغيير بالتنوع الموجود داخل المجتمع، وتتجاوز تلك القراءة الإقصائية للواقع السوداني بتقسيم الناس والقوى السياسية بين من يؤيدونها وهم “الثوار الأحرار” والمختلفين معها وهم “الثورة المضادة” في حين أنها تنسى أن قوى الحرية والتغيير نفسها عانت من انقسامات بين المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية، وهناك أيضًا تيار التغيير الجذري الذي يرفض أي تفاوض مع الجيش ويعتبر الشراكة معه هي شراكة دم، وفي مقابل هؤلاء هناك قوى محافظة وتقليدية، وبعضها رحب بتدخل الجيش، مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات في شرق السودان وغيرها، وهي كلها تنوعات يجب استيعابها دون أي إقصاء إيديولوجي أو ثوري.
سيطرة الجيش على الشمال والوسط والمدن الكبرى راجح وهو سيتطلب من الجميع العمل على إنهاء المرحلة الانتقالية في أسرع وقت ممكن وعدم الانتظار لعامين قادمين ستفقد فيهما قوى الحرية والتغيير والقوى المؤمنة بالثورة مزيد من شعبيتها، وهو سيتطلب التوافق على “رجل جسر” بين القوى والمكونات المختلفة يعمل على إنهاء المرحلة الانتقالية ووضع البلاد على أعتاب مرحلة جديدة تؤسس للدولة المدنية الديمقراطية، أما استمرار المرحلة الانتقالية لعامين آخرين فإن هذه سيعني إنتاج نفس الأزمات السابقة التي لن تخصم فقط من رصيد بناء الدولة المدنية الديمقراطية إنما أيضًا من وجود السودان ووحدته.